هل تغيير اليهود والنصَارى لأديانهم مقتضٍ لتغيير الحكم في إباحة ذبائحهم؟
لقد رأينا في بعض المقالات عن بعض الكتّاب يقول: هل بقي الآن أحد على كتابه من اليهود والنصارى؟ فإن وجد، فهل يحل للمسلم أن يأكل ذبيحته كيفما ذبحها؟ إذ إنه من المعروف أن طرق الذبح قد تنوّعت، وأصبح بعضها لا يوافق الطريقة الشرعية للذبح؛ من إراقة الدم، وقطع الودجين، وتوجيه الذبيحة إلى القبلة، وغير ذلك من القواعد الشرعية المنصوص عليها.
وأقول: إن بعض الناس يعترض على هذه الإباحة المطلقة، بحجة أنهم غيّروا وبدلوا دينهم، وهذا القول إنما نشأ عن الجهل، وعدم العلم بالأحكام الشرعية، فإن الله سبحانه أحل ذبائح أهل الكتاب على الحال التي كانوا عليها من التنزيل ومما فعلوه من التغيير والتبديل، حيث يكذبون بالقرآن وبالرسول، وهم شعوب شتى كما في الحديث: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً»[132]، فأطلق سبحانه إباحة طعامهم، أي ذبائحهم، مع علمه بأنهم مغيّرون لدينهم وشريعتهم، وهذا التغيير والتبديل واقع منهم زمن الرسول، وزمن نزول القرآن، فلا معنى للاحتجاج به. وكون الرجل كتابيًّا يعرف من عقيدته بنفسه لا من أصل نسبه. وهذه المشكلة قد وقعت للصحابة رضي الله عنهم في نصارى بني تغلب بالشام، ومعلوم أنهم من العرب وقد تنصروا، وقد أجمع الصحابة على إلحاقهم بالنصارى في إباحة أكل ذبائحهم، وحل نكاح نسائهم، ما عدا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال في معارضته: إنه ليس معهم من النصرانية سوى شرب الخمر[133]. فقالوا: حسبنا أنهم صاروا نصارى، فالتحق بهم جميع أعمال النصارى وعاداتهم. فقوله سبحانه: ﴿وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ﴾ [المائدة: 5]. يدل بمقتضاه وفحواه على الإباحة المطلقة الأصلية، أي فيجوز الأكل من لحومهم ودجاجهم كيفما ذكّوها، وعلى أي صفة كانت، بلا قيد ولا شرط، ويستثنى من ذلك ما حرمه الشرع على المسلمين كالخنزير.
ولما كانت التذكية المعتادة في الغالب لصغار الحيوانات المقدور عليها هي الذبح الذي من شرطه قطع الحلقوم والمريء والودجين، كثر التعبير به، فجعله الفقهاءُ هو الأصل، وظنوه مقصودًا بالذات لمعنى فيه، فعلل بعضهم مشروعية الذبح أنه يخرج الدم من البدن، لكن الشرع الإسلامي أباح أكل بعض الحيوان بدون التذكية المعتادة، فمن ذلك البعير النادّ، أي الشارد، أو التيس الشارد، فيرميه صاحبه بسهم أو رصاصة، بحيث تقع في أي موضع من جسده، فيموت، فيأكله صاحبه، كما ثبت بذلك الحديث الذي رواه أحمد والشيخان عن رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فندّ بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّ لِهَذِهِ البَهَائِمِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا فَعَلَ مِنْهَا هَذَا فَافْعَلُوا بِهِ هَكَذَا»، وما استدل به جمهور السلف على جواز أكل ما رمي بالسهم أو الرصاص، فجرح في أي موضع من جسده، ومنها صيد المعراض متى خرق بحده، فقتل، فيأكله صاحبه، ومثله صيد الصقر والشاهين، متى صاد حبارى وغيرها، فقتلها، فوجدها صاحبه ميتة فيأكلها بدون تذكية لها، ومثله صيد الكلب. وقد أنزل الله فيه: ﴿يَسَۡٔلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمۡۖ قُلۡ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُ وَمَا عَلَّمۡتُم مِّنَ ٱلۡجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُۖ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمۡسَكۡنَ عَلَيۡكُمۡ وَٱذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ﴾ [المائدة: 4]. وهذه نزلت في الكلب المعلَّم يرسله صاحبه إلى الصيد، فيصيد ظبيًا أو أرنبًا فيقتلها، ويأتي صاحبه إلى هذا الصيد فيجده ميتًا، فيأكله بدون التذكية المعتادة، أفلا نجعل ما ذبحه أهل الكتاب بمثابة ما ذبحته الصقور والكلاب، بحيث نأكله ولا نسأل عن التذكية، إذ الكل مباح من الله، وقد أجاز النبي ﷺ القتل بالحجر الحاد، كما أجاز أكل صيد المعراض إذا خزق بطرفه، وقال: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَكُلْ»[134].
وكل من تأمل نصوص الشريعة وقصودها، يتبين له بطريق الجلية أن رسول الله ﷺ لا يحرّم على الناس إلا ما فيه ضرر عليهم أو على الحيوان، كما حرّم تعذيب الحيوان بالوقذ، أو بإحراقه، أو قطع شيء منه وهو حي، وقال: «مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ كَمَيْتَتِهِ»[135]، وقال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»[136].
فمتى كان الذبح بطريقة الكهرباء أسهل على الحيوان، فإن الشرع لا يحرمه متى أنهر الدم، ولكل وقت حالة تناسبه، فإذا تيسر الذبح بسكين حاد لم يعدل عنها إلى غيرها إلا في حالة كون السكين لا تغني في الشيء الكثير، وإذا تيسر في الذبح انهار الدم، فإنه يكون أسهل للحيوان، وأقل إيلامًا له.
ولأهل الكتاب عادات في صفة ذبحهم لا يلزم أن توافق عادات المسلمين في ذبحهم؛ لأن الله سبحانه أباح ذبائحهم بدون قيد ولا شرط، وقد علم ما هم يفعلون.
* * *
[132] أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة. [133] أخرجه الشافعي في الأم عن عبيدة السلماني. [134] متفق عليه من حديث رافع بن خديج. [135] أخرجه ابن ماجه من حديث تميم الداري. [136] رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس.