حكم الفقه الإسلامي في موضوع القضية
إن الشريعة الإسلامية بأحكامها كفيلة بحل مشاكل العالم؛ ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان. فلو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. لكن الغوص إلى استنباط الحكم من مظانه يحتاج إلى علم واسع، وفكر ثاقب، ودراسة عميقة متخصصة في معرفة العلوم والفنون، فلا يقع بين الناس مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر ومعضلات الدهر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها، وبيان الهدى من الضلال فيها. كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية ما يدحضها ويبين بطلانها.
والشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض أي الأنساب والعقول التي حرم الخمر من أجل حفظها وحمايتها، ذلك بأن دين الإسلام قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان.
وقد اختلف العلماء فيما يثبت به لحوق نسب الولد بأبيه فمنهم من قال: إنه يلتحق بأبيه بمجرد العقد الصحيح بأمه، فمتى أمكن دخوله بالمرأة التي عقد عليها فإنه يلتحق به الولد الذي حملت به وولدته سواء عُلم دخوله بها أو لم يعلم؛ احتياطًا لحفظ الفراش والنسب، وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة، والمالكية، والشافعية، واشترطوا لصحة إلحاقه مُضي ستة أشهر فأكثر من عقده بها. ومنهم من قال: لا يلتحق به نسبه إلا بعد الدخول المحقق بزوجته أم ولده، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، وهو الصحيح المعمول به. فبعد تحقق الدخول بها فإن كل حمل تحبل به فإنه يحكم به لأبيه حكمًا احتياطيًّا جازمًا صيانة للفراش والنسب، حتى لو فرض أنها حملت به زنا أو بطريق الغصب، أو وطء الشبهة، فإنه يحكم به لأبيه الذي هو زوج أمه، ولا ينظر إلى ما يخالفه، ويفهم منه التحاقه بطريق التلقيح بنوعيه، أي التلقيح الصناعي والشتلي. فيكون الولد لأبيه أي زوج أمه التي حملت به وولدته، فلا يتغير هذا الحكم عن أصله لكون الأحكام مبنية على الظاهر، والله يتولى الحكم في السرائر إذ ليس كل الناس خرجوا من أصلاب آبائهم.
وقد حكم رسول الله ﷺ بهذا الحكم في مثل هذه القضية عند فرض وقوعها فلا حكم لأحد بعد حكمه ومتى جاء سيل الله بطل نهر معقل.
ففي البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي ﷺ قال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ويعني بالعاهر الزاني، ويعني بالفراش الزوجة التي في عصمة الزوج فإن حملت بهذا الغلام فإنه يحكم به لزوجها المذكور حرصا على رعاية حفظ النسب وحماية حرمة النكاح الشرعي.
وتسمية المرأة فراشًا هو جار على ألسنة العرب لكونه يفترشها عند إرادة قضاء حاجته منها. كما قيل:
إذا رمتها كانت فراشًا يقلني
وعند الفراغ منها خادم يتملق
كما أن الله سماها حرثًا في قوله: ﴿نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ﴾ [البقرة: 223]. وهذا الحديث أي قوله: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» هو نص في الحكم في هذه القضية وهو قاعدة عامة كلية من قواعد الشرع، يحفظ به حرمة النكاح، وطريق اللحاق بالنسب جوازًا وعدمًا. فهو يوجب قطع النزاع ويعيد الخلاف إلى مواقع الإجماع في مثل هذه القضية، فمتى حملت امرأة ذات زوج بالتلقيح الصناعي، أو الشتل، أو الزنا، أو الغصب، أو الوطء بالشبهة فإن حملها يعتبر للزوج ولزوجته التي حملت به ووضعته، ولا علاقة للغاصب أو الزاني أو المأخوذ منه المني فيه.
وهذا الحديث يفسره ما ذكر بسببه، فقد روى البخاري أنه تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة عند النبي ﷺ في ولد جارية زمعة، فقال سعد: إنه ابن أخي عتبة عهد إلي أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه فقبضته، فقال عبد بن زمعة: إنه أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراش أبي. فقال رسول الله ﷺ: «هُوَ لَكَ يَا عَبْدَ بْنَ زَمْعَةَ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ»[127]. لما رأى قرب شبهه بعتبة مع العلم أنه أخو سودة لأبيها في ظاهر الحكم. وقد أدرجه البخاري في باب اتقاء الشبهات من صحيحه، فلم يكن وطء عتبة لهذه المرأة مغيرًا للحكم في الولد.
إن الأصل الباطل يتفرع عنه فنون من الباطل، وإن التلقيح بالشتل هو نفس التلقيح الصناعي، ما عدا أن التلقيح الصناعي هو نقل مني الرجل الغريب إلى المرأة ذات الزوج بلا واسطة فينشأ عنه الولد.
أما التلقيح بطريق الشتل فإنه يكون بواسطة امرأة الرجل الغريب التي هي غير صالحة للحمل، فيمر عليها وينقل منها إلى المرأة ذات الزوج الصالحة للحمل، ومرور هذه النطفة بها لا يغير شيئًا من أوصافها، ولا ينبغي أن يقاس على شتل الشجر بعد نموه وكبره فينقل إلى مكان آخر فإن هذا شيء وذاك شيء آخر، مع العلم أنه لم يثبت التاريخ وجوده، وإنما ثبت وجود التلقيح الصناعي عن طريق الحيوان، حيث يلقح البقر في الثور بطريقة فنية بحيث يوضع المني في شيء شبه الأنبوب، ويولج في فرج البقرة فتلقح.
وليس ما يصلح للحيوان يعتبر صالحًا لبني الإنسان. وهذه النطفة تنتقل من طور إلى طور ومن حال إلى حال، فهي شبه البذر للإنسان، يقول الله سبحانه: ﴿يَخۡلُقُكُمۡ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡ خَلۡقٗا مِّنۢ بَعۡدِ خَلۡقٖ فِي ظُلُمَٰتٖ ثَلَٰثٖ﴾ [الزمر: 6]. ويقول سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى﴾ [الحج: 5].
وهذا معنى ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: «يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نطفة، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ -أَيْ: أَرْبَعِيْنَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قَطْرَةُ دَمٍ- ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ –أَيْ: قِطْعَةُ لَحْمٍ- ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْمَلَكَ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ» أي في الشهر الخامس.
وهذا الشتل إما أن يكون في حالة كونه نطفة، أو في حالة كونه علقة، أو في حالة كونه مضغة، فإنه يحكم بأنه للأم التي حملت به وولدته وزوجها هو أبوه الذي وُلد هذا الغلام على فراشه لحديث: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».
ويعتبر التلقيح بطريق الشتل بمثابة العرق الظالم، أي لا حقَّ لمدعيه لقول النبي ﷺ: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ». وهذا من حديث رواه أبو داود وأهل السنن أن رجلين اختصما عند النبي ﷺ في أرض غرس أحدهما فيها نخلاً والأرض للآخر، فقضى رسول الله ﷺ للأرض لصاحبها وقال: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ».
وقد سمى الله المرأة حرثًا فقال: ﴿نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ﴾ [البقرة: 223]. فكل ما تحمل به المرأة ذات الزوج بأي طريقة فإنه ينسب إلى زوجها لكونه نماء حرثه وقد ولد على فراشه ولأن نكاحه لها هو مما يزيد في نمو الولد في بطنها.
وقد مر النبي ﷺ على رجل ومُجِحٍّ عند باب فسطاط فقال: «لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُلِمَّ بِهَا؟». فقالوا: نعم. فقال: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا، يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ يَطَؤُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَكَيْفَ يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ؟»[128].
ثم نهى أن يسقي الرجل ماءه زرع غيره.
وخلاصة البحث: أنه لو نقل بطريق الشتل وهو نطفة أو علقة أي قطعة دم، أو مضغة وهو قطعة لحم، فنما في بطن المرأة ذات الزوج حتى نُفخ فيه الروح وحتى أتمت مدة حملها به فوضعته، فإنه يكون ولدًا لها ولزوجها لعموم حديث «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».
وهي قاعدة شاملة حتى لو طابت نفس الأم التي حملت به، وطابت نفس الأب بجعله للمرأة التي لم تحمل ولم تلد ولزوجها، فإنه لا يجوز ذلك لكونه حرًّا لا تجوز هبته، ولما يترتب على هذا التصرف من قطع صلته بنسب أبيه، وقطع صلته بأمه التي قاست الشدة والمشقة حيث حملته كرهًا ووضعته كرهًا، فيقطع نسبه بها ويجعلها أجنبية عنه، وهو من باب قطع ما أمر الله به أن يوصل. ثم يلحق بأب أجنبي ليس بأب له فينسب إلى غير أبيه. وفي الحديث: «مَنْ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»[129].
ومن قواعد الفقه: أنه لا شبهة مع فراش، أي لا حكم لأي وطء وقع من الزنا، أو الشبهة، أو الإكراه، أو الشتل، أو التلقيح الصناعي. فمهما كان من ذلك فإن الولد للزوج الذي ولد على فراشه، والأم الحقيقية هي أمه التي حملت به ووضعته.
وقد ذكر الفقهاء صورة في نقل المني، وهي ما لو استلطفت امرأة ذات زوج بمني رجل غريب، أو برداء فيه مني فحملت من ذلك، فهذا القول قد سيق مساق التوسع في تقرير ما لا يقع، وإلا فإن المني متى ظهر للهواء فإنه يفسد بذلك ويبطل حقيقته، فلا حجة لدعوى المرأة المحتجة به.
وقد كفانا رسول الله ﷺ وشفانا من كف هذه الفتنة التي أكثر الناس من الخوض في موضوعها فقال: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ».
وحرم التبني وهو واقع فيه بكل حالاته، كما حرم انتساب الرجل إلى غير أبيه، وهو واقع فيه.
إن حاكم القضية يروّج في أذهان الناس أن العلم أثبت أن هذا المني الذي ينقل بطريق الشتل أنه جنين، وهو تدليس منه على الأذهان، وتلبيس على ضعفة العقول والأفهام، وإلا فإن موضوع الحكم والكلام هو في المني الذي يلقح به الإنسان بويضة المرأة فلا يسمى جنينًا، وإنما يسمى منيًّا كما قال سبحانه: ﴿فَلۡيَنظُرِ ٱلۡإِنسَٰنُ مِمَّ خُلِقَ ٥ خُلِقَ مِن مَّآءٖ دَافِقٖ ٦﴾ [الطارق: 5-6]. وقال: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ أَلَمۡ يَكُ نُطۡفَةٗ مِّن مَّنِيّٖ يُمۡنَىٰ ٣٧ ثُمَّ كَانَ عَلَقَةٗ فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ ٣٨ فَجَعَلَ مِنۡهُ ٱلزَّوۡجَيۡنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلۡأُنثَىٰٓ ٣٩﴾ [القيامة: 36-39].
ثم إنه في حالة كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة قد تقذفه الرحم كما قال سبحانه: ﴿مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ﴾ [الحج: 5]. فلا يكون جنينًا حتى ينفخ فيه الروح.
قال في القاموس: (والجنين) هو الولد في البطن، سمي جنينًا لاستجنانه، أي استتاره في الرحم. أما كون المني يصير جنينًا بإذن الله فهذا مما تعرفه العجائز فضلاً عن العلم، ولم تأت هذه المرأة بجنين حي تنقله ثم تدسه في فرج المرأة ذات الزوج، وقبل مضي الأطوار الثلاثة يعتبر كحكم الميت حتى ينفخ فيه الروح فيكون إنسانًا حيًّا. ومن أحيا أرضًا ميتة فهي له.
ومثله تسمية الحامل حاضنة، فإن هذا من باب قلب الحقائق، فإنه لا حضانة إلا للطفل الصغير متى خرج إلى الوجود حيًّا، وما دام في بطن أمه فإنه يسمى حملاً، وأمه حاملاً، ولا يقال: حاضنة. والله أعلم.
حرر في 10 رجب سنة 1398هـ
* * *
[127] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [128] أخرجه مسلم من حديث أبي الدرداء. [129] أخرجه أبو يعلى من حديث سعد.