متقدم

فهرس الكتاب

 

فساد اعتقاد حريَّة الرأي

حرية الرأي هي من محدثات الأمور في هذا العصر كحدوث الشيوعية والبهائية والقاديانية فهي من محدثات الأمور وشر الأمور محدثاتها، وكلها من الفتن التي يرقق بعضها بعضًا الآخرة شر من الأولى، وحقيقة الحرية في عرفهم استباحة الجهر بكل ما يعن بالفكر من آراء الكفر؛ لأنهم قد تحللوا عن التقيد بحدود الدين وحقوقه، وبنوا لهم من حرية الرأي ما يحاولون به حقن دمائهم وحرمة مالهم حتى ولو كفروا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله، ومن المعلوم بالاختيار أنه قد انتشرت حرية الرأي في الأمصار التي أفسد التفرنج تربية أهلها فكانوا يجهرون بالكفر بالله وإنكار وجود الخالق، وإنكار الوحي، وبعثة الرسل، أو يطعنون في نبوة محمد ﷺ. وفي القرآن النازل عليه، وينكرون البعث للجزاء والحساب ويكذبون بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون بدعوى حرية الرأي كأنها تبرر لهم سوء مقاصدهم، ومع هذا الكفر المتظاهر فترى أحدهم يدعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بمعنى التزام أحكامه الشرعية. وقد أخبر الله سبحانه بأنه لم يخلق الإنسان سدى أي مهملاً يتصرف كيف شاء. قال تعالى: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى ٣٦ [القيامة: 36]. أي مهملاً لا يؤمر ولا ينهى بل خلقه مقيدًا بحدود وحقوق وأمر ونهي.

وبما أن الإسلام اعتقاد وقول وعمل فكذلك الكفر هو قول واعتقاد وعمل فهؤلاء عند العلماء يعتبرون مرتدين عن دين الإسلام لعدم تقيدهم بالأحكام وأمور الحلال والحرام ويسمون بالإباحيين الذين ليس لهم خلق ولا دين ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهايم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام.

إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وحقيقة مضارها للأخلاق والأعمال والعقائد، لمما يقود العامة إلى الخروج عن الأخلاق الفاضلة وعن حدود الدين وآدابه ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار، وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل ويستفحل الكفر وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط وفساد العقائد والأعمال؛ لهذا كان من الواجب على علماء المسلمين وعلى القائمين بتحرير الجرائد وتعميم نشرها أن يبنوا للناس فساد هذه الفكرة وما ينجم عنها من المضار في الأخلاق والأعمال وأنهم يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بين الناس عوامل الفساد والسفاهة من كل ما يزيغهم عن معتقدهم الصحيح ويقودهم إلى الإلحاد والتعطيل أو إلى الفوضى اللادينية، والأخلاق البهيمية لكون أحدهم يفضل الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين. والعامة بما طبعوا عليه من الجهالة والسذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة قد يعتقدون صحة ما يقول هؤلاء خصوصًا عند سكوت العلماء عن مساوئها. فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون إلى داعي التضليل والتمويه.

ومما يسبب انتشار حرية الرأي إطلاق السراح للكتاب وكتاب الجرائد المعروفين بترويج الباطل، فتراه يطعن في الأديان ويكذب بالرسول والقرآن كله بحجة حرية الرأي، ولو تصدى لأحدهم من يتحامل عليه بالطعن فيه وفي أخلاقه بذكر معايبه ومثالبه، والطعن في عرض أهله بحجة حرية الرأي - ولو كان صادقًا في طعنه - لأثارها عليه غضبًا وحربًا وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يُقاد للسجن من سبَّ الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرارُ
لكون حرية الرأي يصغي إليها وينقاد لها من يظنها حقًّا وهي بالحقيقة باطل لكونها عرضة للتلاعب وللتحليل والتحريم والتحريف بمجرد الهوى ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون:71]. ثم إن هؤلاء الذين تبنوا هذه الفكرة وجعلوها لهم عقيدة وطريقة هم الذين سلطوا على استعباد الناس بالنار والحديد وسخروهم في مصالحهم كالعبيد فهم يسلبون الناس حريتهم باسم الحرية.

لهذا يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر آرائهم لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد.

إن جناية التحرير التي يتطلع إليها كل الناس الذكر والأنثى والكبير والصغير يترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس والفتنة في الدين أشد من القتل، وإن الحرية التي يلهج الإباحيون بتحبيرها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة ارتكاب منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية، ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع، فهم غالبًا لا يصلون ولا يصومون ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق قد رضوا بأن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. ولهذه الأسباب أصبح سوء الطباع وفساد الأوضاع ساريًا في أخلاقهم، فدخل عليهم بسببه من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال حتى صاروا لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق. وكم جر هذا الاعتقاد إلى سقوط الفرائض والفضائل والتخلق بمنكرات الأخلاق والرذائل، لأن الشرائع الدينية هي التي تهذب الأخلاق وتطيب الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق، وكل من هرب عن التقيد بعبودية الرحمن فإنه لا بد أن يسترقه الشيطان على حد ما قيل:
هربوا من الرق الذي خُلقوا له
فبُلوا برق الكفر والشيطانِ
إن من شرط صحة حرية الرأي أن لا يتجاوز بها حدود الحق والعدل، سواء كان فيما يتعامل به في نفسه مع أهله وماله وعياله، أو فيما يتعامل به مع سائر الناس، وإلا كان متعديًا ظالمًا؛ لأن الحرية الفكرية عند بعضهم هي أن تجهر بشتم عقيدة الأمم والاستخفاف بدينها أو كتابها المقدس فإن لم تفعل كنت جامدًا لا تفهم الحرية ولا تؤمن بها.

والحرية الشخصية عند بعضهم هي أن تفعل ما تشاء وترتكب من المنكرات ما تشتهي غير مبال بالناس.

إن العلماء والعقلاء يعرفون الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الحرية التي هي الفوضوية في الأخلاق والآداب والرذائل.

فإن أحدًا لا يستطيع أن يكون حرًّا في كل شيء وأنه يسوغ له أن يتصرف كيف يشاء ويفعل ما يشاء ويخرج إلى الطريق عريانًا كما يريد بحجة الحرية الشخصية، وبذلك تسقط حرمة الحدود والتشريع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصبح الناس كالحيوانات في سبيل أهوائهم وشهواتهم، فالنصارى الذين سنوا للناس حرية الرأي أصبحوا وهم يقاسون منها الأنكاد والأكدار والشرور والأضرار، حيث اعتنق سفهاؤهم هذه الفكرة فصالوا بها على خرق الأنظمة والقوانين والأشياء المحرمة في عرفهم بدعوى حرية الرأي.

إنه يجب أن نعرف الفرق بين الحرية الصحيحة وبين الفوضى، وأن الحرية الصحيحة هي التصرف في حدود حقك المباح لك بحيث لا تطغى على حق الآخرين، ولا تخرج عن سنة العدل والعرف، حتى فيما يخص الإنسان في نفسه وأهله وماله. والفوضى هي طغيانك على حق الآخرين أو التصرف بما يعد خارجًا عن سنن نظام العدل والآداب كأن يحرق ماله أو يقسمه بين الناس ولو بطريق الصدقة والتبذير.

وقد أراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله فمنعه النبي ﷺ من ذلك وأراد بعضهم أن يبيع عقاره ويشتري بثمنه خيلاً وسلاحًا يجاهد بها في سبيل الله فنهاهم عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[100]، وأعتق رجل عند موته ستة أعبد ولم يكن له مال غيرهم فأقرع النبي ﷺ بينهم فأعتق اثنين واسترق أربعة وقال فيه قولاً شديدًا[101].

وشرع الإسلام يضرب على يد السفيه الذي لا يحسن حفظ ماله ولا تثميره، ويحجر عليه في هذا التصرف لحظ نفسه. والنبي ﷺ قال: «مَنْ تَرَدَّى جَبَلاً فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهَا خَالِدًا مُخَلَّدًا بِهَا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا». رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.

لا يقال: إن هذا تصرف منه في نفسه والإنسان حر في تصرفه فإن الشرع يعتبر نفس هذا كنفوس الناس التي يجب حمايتها بالتحفظ على حياتها ويخشى أن يتأسى به غيره في فساد تصرفه، ولهذا شرع عدم الصلاة على جنازة من قتل نفسه ردعًا للناس عن سوء فعله.

فالحرية لا تكون صحيحة إلا في حالة حدود الحق والعدل فما خرج عن ذلك فهو جور وفوضى وحرية مجنونة والجنون فنون.

ولضمان الحرية الصحيحة وعقد نظامها واحترامها نزلت الشرائع والديانات وسنت القوانين والأنظمة وشرعت الحدود والتعزيرات لتقليل جرائم العدوان ﴿وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥ [الطلاق: 1]. وحدود الله محرماته ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ ومن لا يكرم نفسه لا يكرَم وقد ضرب رسول الله ﷺ مثلاً يبين فيه الحد الفاصل بين الحرية الصحيحة والفوضى الهمجية.

فقال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر- والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة فكان بعضهم في أعلاها -أي في السطح- وبعضهم في أسفلها -أي في الخن- وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أخذ الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا خرقًا نأخذ منه الماء». قال: «فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا»[102].

فهؤلاء لما أرادوا أن يستعملوا حريتهم في سبيل ما يضرهم ويضر غيرهم شرع منعهم بالقوة إبقاء لهم وللسفينة ومن فيها ولكون المحسن شريك للمسيء في المأثم والمغرم.

إن الشريعة الإسلامية المبنية على جلب المصالح ودفع المضار تمنع المضار، تمنع القمار في الأندية وتعاقب المقامرين إذا اجتمعوا سرًّا كما تمنع شرب الخمر وبيعها، وكما تمنع بيوت البغاء السري ولو كانت الفاحشة تفعل بحيث لا يراها الناس، كما يجب منع العدوان على أي أحد من الناس في نفسه وماله، فكل من يجاهر بمخالفة أمر الله وارتكاب محارم الله فإن الشريعة تعاقبه في الدنيا بما يسمى الحد أو التعزير قبل عقاب الآخرة، والشريعة مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض. والنبي ﷺ قال: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فقال: يا رسول الله أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: «تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَلِكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ»[103].

فالاعتداء على عقيدة المسلمين أو آداب دينهم باسم الحرية بأن يتعرض لذم الدين والطعن فيه بما يستدعي صد الناس عنه والفتنة فيه، فهذا لا شك أنه أشد من الاعتداء على الأنفس والأموال إذ الفتنة في الدين أشد من القتل، فليس من شأن الحرية أن تسعى بتسميم عقول الناس وإفساد فطرهم وأديانهم؛ لهذا أوجب الله على المؤمنين القائمين على الناس بالقسط أن يردوا كل من شذ في أخلاقه وتصرفاته بدعوى الحرية، أن يردوه إلى حظيرة الحق ويلزموه بالوقوف على حدود الشرع والعدل والأنظمة والقوانين إذ القيام بذلك أمانة في أعناق العلماء والأمراء والناصحين المصلحين. يقول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩ [العنكبوت: 69].

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

حرر في 24 جمادى الأولى سنة 1396هـ.

* * *

[100] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [101] رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن الحصين. [102] أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير. [103] أخرجه البخاري من حديث أنس.