في وفاة رسول الله ﷺ
الحمد لله الكريم المنان، خلق الإنسان من عدم ثم قال له: كن فكان، كل يوم هو في شأن، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من قال: ربي الله ثم استقام، وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الله سبحانه كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء، ﴿يَٰقَوۡمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا مَتَٰعٞ وَإِنَّ ٱلۡأٓخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلۡقَرَارِ ٣٩﴾ [المؤمن: 39]. فسمى الله الدنيا متاعًا، والمتاع هو ما يتمتع به صاحبه برهة، ثم ينقطع عنه مأخوذ من متاع المسافر ﴿أَرَضِيتُم بِٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا مِنَ ٱلۡأٓخِرَةِۚ فَمَا مَتَٰعُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ٣٨﴾ [التوبة: 38]. فما عيبت الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلب أحوالها، وهو أدل دليل على زوالها فتتبدل صحتها بالسقم ونعيمها بالبؤس وحياتها بالموت وعمارها بالخراب واجتماع أهلها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب.
وهذا الموت الذي يفزع الناس منه والذي أفسد على أهل الدنيا نعيمهم في الدنيا، ليس هو فناء أبدًا، لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى ﴿لِيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَٰٓـُٔواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيَجۡزِيَ ٱلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ بِٱلۡحُسۡنَى ٣١﴾ [النجم: 31]. فلا يجزع من الموت ويفزع من هوله إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، فهذا الذي يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الفوت وهول المطلع فيندم، حيث لا ينفعه الندم ويقول: ﴿يَقُولُ يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي ٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ ٢٦﴾ [الفجر: 24-26].
إن الناس في الدنيا بمثابة الغرباء الذين يعرفون بأن لهم دارًا غير دار الدنيا فهم يجمعون لها ويعملون عملهم في تمهيد الانتقال إليها؛ لأن من قدم خيرًا أحب القدوم عليه، فيحب الموت لمحبته للقاء ربه، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، وقد قال الصحابة: يا رسول الله كلنا يكره الموت. قال: «ليس الأمر كذلك، ولكن الإنسان إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة، فإن كان من أهل الخير بُشِّر بالخير، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن كان من أهل الشر بُشِّر بالشر، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه» [77].
مكث النبي أربعين سنة من عمره لم يُوحَ إليه بشيء، ثم فاجأه الحق بعد الأربعين وهو بغار حراء، فأنزل الله ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5]. ثم استمر الوحي وتتابع، فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة ظهر له أمارات اقتراب أجله وارتحاله من الدنيا إلى لقاء ربه، فحج بالناس تلك السنة وأنزل الله عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. فليس بعد التمام إلا النقص.
إذا تم شيء بدا نقصه
توقع زوالاً إذا قيل تم
وفي يوم عرفة، أشار النبي ﷺ للناس في خطبته باقتراب أجله، فقال: «لَعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[78] فسميت حجة الوداع من أجل أنه ودع الناس فيها وخطبهم الخطبة العظيمة، فقال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ: رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع رسول الله بإصبعه إلى السماء يقول: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» - ثلاثًا- رواه مسلم.
وفي وسط أيام التشريق أنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [سورة النصر]. ففي هذه السورة إعلام باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسرها ابن عباس، معناه: ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ﴾ يا محمد ﴿وَٱلۡفَتۡحُ ١﴾ يعني فتح مكة ﴿وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢﴾ طائعين مختارين، فإنه حينئذ قد اقترب أجلك، فتأهب للقائنا، ﴿فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾، فكان رسول الله ﷺ بعد نزول هذه السورة لا يقوم ولا يقعد إلا قال: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي».
ولما وصل إلى المدينة خطب الناس، فقال في خطبته: «إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ، بَيْنَ أَنْ يُعطِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فقام أبو بكر فاعتنقه، فقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال بعض الصحابة: فعجبنا من أبي بكر، كيف يخبر رسول الله عن رجل خيره الله بين أن يعطيه من زهرة الدنيا وزينتها وبين ما عند الله وأبو بكر يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا؟ فكان رسول الله ﷺ هو المخير بين البقاء في زهرة الدنيا وزينتها وبين ما عند الله، وكان أبو بكر هو أعلمنا به[79].
وكان رسول الله ﷺ يعتكف كل سنة العشر الأواخر من رمضان، فاعتكف تلك السنة عشرين يومًا، وكان يعرض القرآن على جبريل كل سنة مرة، فعرضه تلك السنة مرتين، وفي آخر شهر صفر في السنة العاشرة من الهجرة ابتدأ الوجع برسول الله ﷺ ودخل رسول الله على عائشة وهي مضطجعة على حصير وهي تقول: وارأساه، فقال لها: «وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ، فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ وَصَلَّيْتُ عَلَيْكِ». فقالت: كأني بك في ذلك اليوم وأنت عروس ببعض نسائك. ثم قال: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ»[80]. ثم استمر به الوجع، فدخلت عليه فاطمة ابنته رضي الله عنها فسارّها فبكت ثم سارها مرة أخرى فضحكت فقيل لها في ذلك. فقالت: أما إذ سارني فبكيت، فإنه قال لي: «إني سأموت من وجعي هذا فاصبري واحتسبي» فبكيت عند ذلك، وأما إذ سارني الثانية فضحكت، فإنه قال لي: «إِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي»[81] فضحكت. فتوفيت رضي الله عنها بعد أبيها بأربعة أشهر.
وكان رسول الله ﷺ يقول في مرضه: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»[82]. وقيل له: إن الناس ينتظرونك. فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلَّ بِالنَّاسِ، يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ». ولما كشف رسول الله ﷺ ستر الحجرة ورأى الناس صفوفًا يصلون اشتاق إلى الخروج إليهم ليصلي معهم، فدعا عليًّا والعباس فأمرهما أن يحملاه فخرجا به يحملانه ورجلاه تخطان بالأرض، فوضعاه جنب أبي بكر حتى كاد الناس أن يفتتنوا في صلاتهم من الفرح برؤيته، ثم رجع إلى البيت فلم يخرج حتى توفي ﷺ[83]. وكان آخر ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ [البقرة: 281]. من آخر سورة البقرة، توفي بعدها بتسع ليال، لليلتين خلتا من ربيع الأول، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي عمر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي علي وهو ابن ثلاث وستين سنة رضي الله عنهم وهذا السن هو معرك المنايا. يقول الله: ﴿وَمَا جَعَلۡنَا لِبَشَرٖ مِّن قَبۡلِكَ ٱلۡخُلۡدَۖ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ ٱلۡخَٰلِدُونَ ٣٤ كُلُّ نَفۡسٖ ذَآئِقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَنَبۡلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلۡخَيۡرِ فِتۡنَةٗۖ وَإِلَيۡنَا تُرۡجَعُونَ ٣٥﴾ [الأنبياء: 34-35]. ووصى رسول الله ﷺ في مرضه بثلاث، فقال: «أنفذوا جيش أسامة، وأجيزوا الوفد بما كنت أجيزه، وأخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب»[84].
وكان رسول الله ﷺ يقسم لنسائه في مرضه، فيأمر من يحمله إلى المرأة في يومها ونوبتها حرصًا منه على العدل والمساواة، وكان يقول: «أَيْنَ أَنَا غَدًا؟»، حرصًا على أن يكون عند عائشة، ولما علم نساؤه أنه يحب أن يكون عند عائشة، أذِنّ له في أن يُمَرَّضَ عند عائشة، فبقي في بيت عائشة فكانت تقول: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري، وأخذ يعالج من شدة النزع حتى قالت عائشة: ما كنت أغبط أحدًا يهون عليه الموت بعد الذي رأيت من رسول الله ﷺ وكان يمسح العرق عن وجهه ويقول: «إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٌ، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»[85]. ولما توفي رسول اللهﷺ اضطرب الناس اضطرابًا شديدًا، فبعضهم يقول: توفي، وبعضهم يقول: لم يمت، وكان أبو بكر غائبًا في عوالي المدينة عند امرأة من نسائه فلما علم بالخبر جاء فكشف عن وجه رسول اللهﷺ، فقبّله وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا[86]، ثم خرج إلى المسجد والناس فيه أوزاع متفرقون يبكون، فصعد المنبر وأقبل الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤﴾ [آل عمران: 144]. قال عمر: فلما تلا هذه الآية انقطع لها ظهري حتى كأني لم أسمع بها قبل اليوم، وتيقنت أن رسول الله قد مات، ولم يبق في المدينة رجل ولا امرأة إلا ويتلو هذه الآية[87].
وكان رسول الله ﷺ قد جهز جيشًا، فأمّر عليهم أسامة بن زيد، وكان عمر بن الخطاب في جملة هذا الجيش، فنزلوا بالجرف بالقرب من المدينة ينتظرون حالة رسول الله ﷺ، وهل يبرأ من مرضه، فلما توفي وقع الاضطراب في المدينة، حيث ارتدت العرب عن الدين، وقالوا: إنه لو كان نبيًّا لم يمت، فجعل الصحابة على سكك المدينة رجالاً يحرسونها، فلما اشتد الأمر بهم جاء الصحابة إلى أبي بكر، وطلبوا منه أن يرد إليهم جيش أسامة، ليتقووا به على دفاع المرتدين، فقال أبو بكر: والله لا أحل لواء عقده رسول الله ﷺ حتى ولو رأيت نساء رسول الله ﷺ تخطف من بين أيدينا. فقالوا: أما إذ أبيت فأذن لعمر أن يرجع إلينا. قال: أما عمر وحده فلا بأس، فمضى أسامة بجيشه في سبيله، فكان في جيشه البركة والعز والنصر للمسلمين، فكانوا لا يمرون بأحد من المرتدين إلا ردوهم إلى دينهم.
ثم إن جماعة الصحابة اشتغلوا بعقد البيعة حرصًا على حفظ البيضة وجمع شمل المسلمين، فبايعوا أبا بكر طائعين مختارين، وقالوا: رضيك رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ وكان رسول الله ﷺ قد قال لهم: «يَأْبَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ»[88].
وفي اليوم الثاني من موته أخذوا يشتغلون في تجهيزه، فتولى تغسيله علي والعباس رضي الله عنهما وقالت عائشة: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله ﷺ إلا نساؤه[89]. لكون المرأة يجوز لها أن تغسل زوجها، كما يجوز للزوج أن يغسل امرأته، وبعد الفراغ من تجهيزه قدموه للصلاة عليه، فصلى عليه الرجال أولاً، ثم صلى عليه الغلمان، ثم صلى عليه النساء، وكان قد قال لهم: «إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ فِي الْمَكَانِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيْهِ»[90]، فدفن في بيت عائشة، ثم توفي أبو بكر بعده، فدفن بجواره، ثم توفي عمر، وكان قد طلب من عائشة أن تسمح له بأن يدفن مع صاحبيه فسمحت له بذلك، وكانت عائشة قد رأت في منامها أنه سقط في بيتها ثلاثة أقمار، فوقع تأويل رؤياها بذلك، وجاءت التعزية: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل فائت وخلفًا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهذا ملخص وفاة رسول الله ﷺ، وأخبر أن أعمال أمته تُعرَض عليه فيُسر باستقامتهم ومحافظتهم على طاعة ربهم، ويسوؤه مخالفتهم ومعصيتهم لربهم، ونعوذ بالله من أعمال نُخزَى بها عند ربنا ونبينا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر في 18 من ربيع الثاني
سنة 1396هـ.
* * *
[77] أخرجه أبو يعلى من حديث أنس. [78] متفق عليه من حديث أبي عمر. [79] متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. [80] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [81] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [82] أخرجه أبو داود من حديث علي. [83] متفق عليه من حديث عائشة. [84] أخرجه - بنحوه - البخاري ومسلم من حديث ابن عباس. [85] متفق عليه من حديث عائشة. [86] أخرجه البخاري من حديث عائشة. [87] أخرجه البخاري من حديث أبي بكر. [88] أخرجه مسلم من حديث عائشة بلفظ: «وَيَأْبَى اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ». [89] أخرجه أبو داود وأحمد وابن ماجه من حديث عائشة. [90] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس بلفظ «مَا قُبِضَ نَبِيٌّ إِلَّا دُفِنَ حَيْثُ قُبِضَ». وأخرجه الإمام أحمد من حديث أبي بكر بلفظ: «لَنْ يُقْبَرَ نَبِيٌّ إِلَّا حَيْثُ يَمُوتُ».