الأدب الشرعي في مولد النبي ﷺ
روى الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي، عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ، دَعْوَةِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَبُشْرَى عِيسَى، وَرُؤْيَا أُمِّي الَّتِي رَأَتْ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ».
وهذا هو أصح حديث وأصرحه في هذا المعنى، فمعنى «إِنِّي عِنْدَ اللهِ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ»: أي في كتابة المقادير، فإن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذه الكتابة: هي عبارة عن سبق علم الله بنبوته، وأنه خاتم النبيين والمرسلين، وأنه لا نبي بعده. وأما دعوة إبراهيم: فهي قوله: ﴿رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾ [البقرة: 129]. وأما بشرى عيسى: فهي قوله: ﴿وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُ﴾ [الصف: 6]. فالرسول اسمه أحمد واسمه محمد. وأما رؤيا أمه آمنة، فإنها رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام. فهذه رؤيا منام، وقد وقعت بالعيان، فإنه الهدى والنور التام، عصمة لمن تمسك بهديه، ونجاة لمن اتبعه ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦﴾ [المائدة: 15-16].
ولد النبي ﷺ لثمان من ربيع الأول، وقيل: لاثنتي عشرة منه في قول المؤرخين وعاش أربعين سنة لم يُوحَ إليه بشيء، وكل ما يذكره قصاص المولد من أنه ولد وهو ساجد أو أنه خرج معه نور صفته كذا وكذا، أو أن آدم خلق من نور محمد، وأن جميع الوحوش البرية والبحرية بشر بعضها بعضًا بالحمل به، وأن مريم حضرت مولده، وأن الرسول يحضر حفلة المولد ويعرف الحاضرين به، فكل هذه وما في معناها فإنها من الموضوعات التي لا صحة لها؛ ولهذا قال في معرض الاحتجاج على قومه: ﴿فَقَدۡ لَبِثۡتُ فِيكُمۡ عُمُرٗا مِّن قَبۡلِهِۦٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ١٦﴾ [يونس:16]. وهذا العمر هو أربعون سنة، وبعد الأربعين فاجأه الحق ونزل عليه الوحي بغار حراء.
ولا شك أن مقام بعثته ونزول الوحي بنبوته أنه أعلى وأجَلُّ وأعظم وأفضل من مقام ولادته، إذ إنه ولد كما يولد سائر الناس وفضله الله بالبعثة والرسالة على سائر الناس، والله سبحانه إنما امتن على عباده المؤمنين بنبوته وبعثته، لا بمجرد ولادته، فقال تعالى: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾ [آل عمران: 164].
فساق سبحانه هذه الآية مساق الامتنان على عباده المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128].
نظيره قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ ٢ وَءَاخَرِينَ مِنۡهُمۡ لَمَّا يَلۡحَقُواْ بِهِمۡۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ ٣﴾ [الجمعة: 2-3].
فبعث الله نبيه محمدًا ﷺ بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء.
بعثه الله على حين فترة من الرسل، وقد فشت ببن الناس الجهالة وخيمت عليهم الضلالة، وصار لكل قوم آلهة يعبدونها من دون الله، فهم يعبدون الأشجار والأحجار والقبور، فبَصَّرَ الناس من العمى وأنقذهم من الجهالة، وهداهم من الضلالة وفتح به أعينًا عمياء وآذانًا صمّاء، وقلوبًا غلفًا، فدخل الناس ببركة بعثته في دين الله أفواجًا طائعين مختارين.
فقوله: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ﴾ يريد بالأميين: العرب سموا بالأميين، لكون الأمية، وهي عدم المعرفة للقراءة والكتابة سائدة بينهم ليس عندهم مدارس ولا كتب، أشبه بالعرب المتنقلة، وإنما تعلموا العلم والكتابة بعد نزول القرآن وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام وأول ما أنزل الله عليه ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5]. فهي تمهيد للانتباه لتعم العلم والكتابة، وسمى الله نبيه محمدًا ﷺ أميًّا من أجل أنه لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، يقول الله: ﴿ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٥٧﴾ [الأعراف: 157]. وأمية الرسول هي معجزة من معجزات نبوّته، كما قيل: كفاك بالأمي معجزة، وإنما اختار الله له الأمية كرامة وعصمة؛ لئلا تتطرق الظنون الكاذبة إليه أو على القرآن النازل عليه، بحيث يقولون: تعلمه من كذا أو كتبه من كتاب كذا.
يقول الله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ ٤٨ بَلۡ هُوَ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَۚ وَمَا يَجۡحَدُ بَِٔايَٰتِنَآ إِلَّا ٱلظَّٰلِمُونَ ٤٩﴾ [العنكبوت: 48-49].
ثم قال: ﴿يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ﴾ أي القرآنية ويفسرها لهم ويسألونه عما أشكل عليهم منها. قال ابن مسعود: كنا إذا تعلمنا عشر آيات لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن.
ثم قال: ﴿وَيُزَكِّيهِمۡ﴾ أي بالمحافظة على الفرائض والفضائل والتخلي عن منكرات الأخلاق والرذائل؛ لأن هذه هي التي تزكي النفوس وتطهرها وتنشر في العالمين فخرها، وقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.
ثم قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ﴾، فالكتاب: القرآن، والحكمة: السنة ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾.
أي إن العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا في شر وشقاء وضلالة عمياء، يقتل بعضهم بعضًا ويسبي بعضهم نساء وأموال بعض، وكانوا مضطهدين بين كسرى وقيصر، قد سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، لم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بالإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام.
ولم تعرفهم الأمم وتخضع لهم وتخشى صولتهم إلا بعد الإسلام وبعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام فكانوا والإسلام هم الصدر المقدم والسيد المرهوب بين الأمم.
فالإسلام والعمل به على التمام أنشأ العرب نشأة مستأنفة، خرجوا من جزيرتهم والقرآن بأيديهم يفتحون به ويسودون، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي وتحولوا بهدايته من الفرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن القساوة والغلظة إلى اللين والرحمة، ومن الجفاء والأمية إلى الحضارة والمدنية، واستبدلوا بأرواحهم الجافية الجاهلية أرواحًا جديدة دينية صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة وعلم ومجد وعرفان.
وقد أنجزهم الله ما وعدهم به في القرآن في قوله: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنٗاۚ يَعۡبُدُونَنِي لَا يُشۡرِكُونَ بِي شَيۡٔٗا﴾ [النور: 55]. وصدق الله وعده فكانوا هم ملوك الأمصار، بعد أن كانوا عالة في القرى والقفار، يعز على أحدهم ستر عورته وشبع جوعته، كما في صحيح مسلم عن عتبة بن غزوان أنه قال: لقد رأيتني وأنا سابع سبعة مع رسول الله ﷺ، ما لنا طعام نأكله إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، وإني التقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما منا أحد إلا وهو أمير على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله حقيرًا. وقد ذكرهم الله بهذه النعمة مقرونًا بذكر ما سبق لهم من البلاء والبأساء وضيق العيش، فقال تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُوٓاْ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِيلٞ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فََٔاوَىٰكُمۡ وَأَيَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ ٢٦﴾ [الأنفال: 26].
قال قتادة: كان العرب قبل الإسلام وقبل بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانوا أذل الناس ذلًّا وأشقاهم عيشًا وأجوعهم بطونًا وأعراهم ظهورًا وأبينهم ضلالاً، يُؤكلون ولا يأكلون والله ما نعلم من حاضر أهل الأرض شر منزلة منهم حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكًا على رقاب الناس، فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر.
وقد بشرهم رسول الله ﷺ بهذا الفتح وسعة الرزق قبل حصوله، كما في البخاري أن النبيﷺ كان عند أم حرام بنت ملحان، فضحك، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ فقال: «عُرِضَ عَلَيَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ثَبَجِ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكٌ عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فقالت أم حرام: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: «أَنْتِ مِنْهُمْ»، فخرجت غازية مع زوجها عبادة بن الصامت، فسقطت عن دابتها فماتت رضي الله عنها.
والمقصود، أن رسول الله ﷺ لم يشرع لأمته تعظيم مولده بمثل هذا الاحتفال والتجمع فيه، ثم إلقاء الخطب والأشعار فيه، بل ثبت عنه ما يدل على كراهيته لذلك، ففي الصحيح أن النبيﷺ قال: «لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[70] والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح، وكان يقول: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[71].
لهذا لم يثبت عن الخلفاء الراشدين ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أئمة المذاهب المتبوعين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابهم، فلم يثبت عنهم تعظيم مولد الرسول ﷺ ولا التجمع في يومه ولا يوم الإسراء والمعراج، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.
وذكر صاحب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح، ويجعلونه عيدًا يعطلون فيه الأعمال والمتاجر، أرادوا أن يضاهئوهم على بدعتهم بتعظيم مولد الرسول ﷺ، فقابلوا بدعة ببدعة ومنكرًا بزور، وعلى من سنها وزر من عمل بها إلى يوم الحشر والنشور.
فتعظيم المولد النبوي ليس من الإسلام ولا من عمل السلف الصالح الكرام، وإنما هو من تقليد النصارى والتشبه بهم.
لقد علمنا أن بعض المنتسبين إلى العلم يحبذون المولد للناس، ويقولون: إنها بدعة حسنة تبرهن عن محبة الرسول ﷺ وتعظيمه في قلوب العوام، لما يترتب عليه من اجتماع الإخوان وإطعام الطعام وإفشاء السلام ويوهمون الناس بأنها بدعة حسنة.
وهذا القول باطل قطعًا، فإنه ليس في الشرع بدعة حسنة، بل «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وبالاستمرار على فعلها كل عام فإنه يستقر فرضها أو فضلها في نفوس العوام، متى غيرت أو أزيلت قالوا: غيرت السنة وقد علقوا عليها من الأقوال ما يستدعي إقبال الناس إليها، فكانوا يقولون: إن من يحضر المولد، فإنه يحصل له من الربح كذا ويعافى في جسده وعياله ونحو ذلك من الإرجاف، ومن لم يحضر المولد، فإنه يخسر في ماله ويصاب بالأضرار والأمراض في جسده وعياله. وفي بعض البلدان يُكَفِّرون كل من لم يحضر المولد أو كل من لم يقم عند ذكره.
ومن طبيعة البدعة التمدد والتفجر، ثم التنقل من بلد إلى بلد، بحيث تشتهر وتنتشر والدفع أيسر من الرفع، ونحمد الله أن كنا في عافية من هذه البدعة، فلا تُفعَلْ في بلداننا؛ لأنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ.
ومثله ما يفعله الناس في رجب باسم الإسراء والمعراج، فكل هذه من البدع التي يقود بعضها إلى بعض، حتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى وتكون في كل عام شرًّا من الذي قبله.
فهذا الكاتب لمّا بالغ في تأييد بدعة المولد واستباح من أجلها تحريف الآيات إلى غير المعنى المراد منها، فقاده غلوه إلى بدعة أخرى، هي أكبر وأنكر، وهي الاحتفال بالنعم وجعله واجبًا على الناس، ولم يسبقه إلى القول به أحد قبله؛ لأن من طبيعة البدع على اختلاف أنواعها التمدد والتفجر، ثم الانتشار، ومن طبيعة نفوس أكثر الناس محبة الباطل وتمركزه فيها، فقد حُفت النار بالشهوات.
فهذا المولد في الأمصار يُفعَل فيه أشياء من المنكرات، من ضرب الدفوف والمعازف وشرب الخمور واجتماع الرجال مع النساء، وغير ذلك من المفاسد ويسندون هذه الأفعال إلى محبة الرسول ﷺ، وهي تنافي محبته.
لو كان حبك صادقًا لأطعته
إن المحب لمن يحب مطيع
إن العبادات الشرعية مبنية على التوفيق والاتباع، لا على الاستحسان والابتداع، فكل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه، فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً فيما يتعلق بشؤون القرب الدينية، والبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا العبادات، لقد علمنا أن هؤلاء الذين يحتفلون بالمولد وينفقون النفقات الكثيرة في سبيله، أن قصدهم محبة الرسول ﷺ وتعظيمه بإحياء ذكرى مولده كل عام، فهذا هو الظاهر من أمرهم.
غير أنه يجب أن نعلم بأن حسن المقاصد لا يبيح فعل البدع وأن المحبة الطبيعية لا تغني عن المحبة الدينية شيئًا. فهذا أبو طالب عم النبي ﷺ كان يحب رسول الله ﷺ أشد الحب، وقد تربى رسول الله ﷺ في حجره وبالغ في حمايته ونصرته، وشهد بصدق نبوته، لكنه لما لم يطع رسول اللهﷺ في أمره ولم يجتنب نهيه ولم يتبعه على دينه، مات على كفره، ونُهِىَ رسول الله ﷺ عن أن يستغفر له، وأنزل الله في التعزية والتسلية عن عدم إسلامه قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ ٥٦﴾ [القصص: 56].
ولما ادعى أناس محبة الله ورسوله، أنزل الله عليهم آية المحبة ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ﴾ [آل عمران: 31]. فكل من ادعى محبة الله ورسوله ولم يوافقه في أمره ولم ينته عن نهيه فدعواه باطلة.
* * *
[70] أخرجه البخاري من حديث ابن عباس. [71] أخرجه النسائي من حديث ابن عباس.