[رد سماحة الشيخ على رسالة: الاحتفال بذكر النعم واجب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة مُبَرَّأَةً من كل قول واعتقاد لا يحبه الله ولا يرضاه. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله الذي اصطفاه من بين خلقه واجتباه واختاره لحمل نبوته وتبليغ رسالته، فأوحى إليه ما أوحاه، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل وعملوا بمقتضاه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد قدَّم إليَّ أحد العلماء الكرام رسالة قد أبدى إنكاره لما تضمنته من الكلام وتحريف آيات القرآن، وطلب مني بإيعاز من أهل بلدها بأن أعلق عليها ما عسى أن ينتفع به أهل الإسلام نصيحة لله وللخاص والعام.
وهذه الرسالة عنوانها الاحتفال بذكر النعم واجب، وقد سمى مؤلفها نفسه بالعلامة السيد حامد المحضار!!
فبعد التصفح مني لمبناها من مبدئِها إلى منتهاها والوقوف على حقيقة مغزاها ومعناها، تبين لي بطريق الوضوح بأنها دعاية سافرة إلى وجوب الاحتفال بالمولد النبوي! وكان اعتماده واستناده في تأييد هذه البدعة بدعة أخرى قد اخترعها بنفسه، بدون أن يسبقه إلى القول بها أحد من علماء المسلمين! وهي بدعة الاحتفال بالنعم، وأنه واجب، فاستدل للبدعة ببدعة وللمنكر بمنكر وزور! فعلى مَن سَنَّها وزر مَن عمل بها إلى يوم الحشر والنشور.
ثم أخذ يركب في سبيل تعلية باطله وتحلية عاطله فنونًا من التضليل والتعاسيف في التأويل والاستدلال بما ليس له فيه دليل والزيغ عن سواء السبيل.
ويدل فحوى كلامه على نقص علمه وقصور رأيه وفهمه، وأنه حائر مبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، وبما أنه يُخشى أن ينخدع بهذه التسمية بعض العوام وضعفة العقول والأفهام، فيظنوها حقًّا وهي بالحقيقة باطل، أحببت أن أبين ما تحت هذه الكلمة من الضلال وسوء الاعتقاد في الأقوال، فإن غايتها الضلال، وإنه بهذا العنوان قد طبع رسالته بطابع البطلان، حيث جعل الاحتفال بالنعم واجبًا على الناس! وهي بدعة منه ولم نر من سبقه إلى القول به ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤﴾ [الأحقاف: 4]. وينبغي أن نفهم معنى هذا الاحتفال الذي حكم بوجوبه على الناس لغة وعرفًا، إذ الواجب هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه، قال في القاموس: الاحتفال: الاجتماع، مأخوذ من حفل القوم واحتفلوا إذا اجتمعوا واحتشدوا، ومحفل القوم ومحتفلهم: مجتمعهم، وفي الصحاح بمعنى ذلك.
فقوله: إن الاحتفال بالنعم واجب، هو بدع من القول وزور وليس له مستند من المأثور، ولم يقل به عالم مشهور، فإن نعم الله على العباد كثيرة ﴿وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآ﴾ [النحل:18]. فلو أن كل نعمة ينعم الله بها على عباده يجب الاحتفال لها لعطل الناس منافعهم ومتاجرهم وبيعهم وشراءهم في سبيل الاحتفال لكل نعمة فتنقلب النعم في حقهم نقمًا.
وإنما الواجب الشكر عند حلول النعم وزوال النقم، والشكر هو الاعتراف بالنعمة باطنًا والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها في مرضاة وليها ومسريها، وكان النبي ﷺ إذا جاءه أمر يُسَرُّ به خرّ ساجدًا شكرًا لله على ذلك. فمتى أنعم الله على العبد بالصحة والعافية فمن واجبه أن يستعمل صحته في طاعة ربه والمحافظة على أداء واجباته من صلاته وصيامه وسائر ما خلق لأجله، مع مراعاة ما ينفعه في دنياه من وسائل الكسب وسعة الرزق وطلب الحلال المباح ومن كل ما لا يضر بدينه، فإن هذا من واجبات عمله ويدخل في عموم شكر صحته، وإذا أنعم الله عليه بالغنى بالمال، فمن واجبه أن يقوم بأداء زكاته وصلة أقاربه والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فإن هذا هو عنوان شكر النعم المستلزم لنموها وبركتها وثباتها ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧﴾ [إبراهيم: 7]. وإذا أنعم الله على الإنسان بالعلم وبالذكاء والفطنة والمعرفة، وجب عليه أن يصرف هذا العلم في سبيل ما ينفع الناس من اتباع السنن واجتناب البدع، بدلاً من أن يشوّق الناس إلى مثل هذه البدع بالدلائل البعيدة في سبيل تأييده وتمهيده لها.
إن من طبيعة البدعة على اختلاف أنواعها التمدد والتفجر، ثم التنقل من بلد إلى بلد على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، حيث إنها تبتدئ بالأفراد على سبيل الاستحسان، ثم بالجماعات، ثم تقود إلى ما هو شر منها، بحيث تكون الآخرة شرًّا من الأولى، ويكون كل عام شرًّا من الذي قبله، ثم ينشأ عن البدعة فنون من البدع تقود إلى ما هو شر منها، كما رأيت من فعل هذا الكاتب، حيث حمله تعصبه على تأييد بدعة الاحتفال بالمولد النبوي إلى القول منه بالاحتفال بالنعم وهي بدعة جديدة لم نر من سبقه إلى القول بها، وقد استباح تحريف القرآن وصرفه عن المعنى المراد منه في سبيل إثبات هذه البدع بالدلائل البعيدة في سبيل تأييده وتمهيده.
وقد قال العلماء: إنه ما ظهرت بدعة إلا رفع مقابلها من السنة، فتمسُّكٌ بسنّة خير من إحداث بدعة.
وأكثر ما يفسد الإسلام زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ولولا من يقيمه الله من العلماء الصالحين لدفع ضرر الملحدين ودحض حجج المبطلين لفسد الدين، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته لا يزال يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته، ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وهذا الاحتفال بالمولد الذي يبالغ الكاتب في تحسينه وتأييده، يفحش في مكان دون مكان وزمان بعد زمان، حتى أشيع في بعض البلدان أن من لم يحضر المولد فإنه كافر!! وأن من لم يقم عند ذكر الرسول ﷺ فليس بمسلم!! وهذا من فنون تنوع البدع، وكل بلد لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر، وليس فيها رقابة دينية تمنع محدثات الأمور والبدع، فإن من اللازم أن تنشأ فيها فنون من البدع والمذاهب الهدامة من كل ما يزيغ الناس عن معتقدهم الصحيح ويقودهم إلى الإلحاد والتعطيل لعدم ما يمنع إنشاء هذه الأشياء من أصلها؛ لأن إنكارها هو مما يقلل فشوها وانتشارها، ﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ١٠٤﴾ [آل عمران: 104].
ومبنى الشريعة على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض فهي قائمة على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.
أما الاحتفال بالنعم أو بميلاد النبي عليه الصلاة والسلام أو بالإسراء به، فإنها كلها من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فهي من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله ﷺ وقال: «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[47] لكون البدعة في اللغة هي الزيادة في الدين بعد كماله، وفسرت بأنها ما فُعل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع، وهذا الوصف منطبق على الاحتفال بالمولد أو الإسراء أو الاحتفال للنعم.
وأكثر من يشيدها وينشطها هم العلماء القاصرة أفهامهم والناقصة علومهم مما يجعل العامة يغترون بهم وينبعثون على أثرهم، وباستمرار فعلهم لها خاصة في هذا اليوم المعين يستقر في نفوسهم فضلها أو فرضها، والعامي مشتق من العمى، وقد قيل: ويل للعامة من علماء السوء. وقد وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه العامة، فقال: إن أكثر الناس همج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئون بنور العلم ولم يلجؤوا من الدين إلى ركن وثيق أقرب شبهًا بهم الأنعام السائبة، اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله على عباده أولئك الأقلون عددًا، الأعظمون عند الله قدرًا، يقيم الله بهم حججه على عباده حتى يؤدوها إلى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم ([48]. انتهى.
وشبهوا غلط العالم بغرق السفينة، يغرق بغرقها الخلق الكثير، وقد وصف النبي ﷺ طريق الهدى وطريق الضلال، وأن على كل طريق من طرق الضلال شيطان يدعو إلى بدعته. وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن مسعود، قال: خط رسول الله ﷺ خطًّا مستقيمًا فقال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ» ثم قرأ: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾ [الأنعام: 153]. وقد سُمِع من بعض العلماء المضللين في محفل محشود ومجمع مشهود عُقِدَ لذكرى مولد الرسول، فقال للحاضرين: إن من لم يقم عند ذكر الرسول فليس بمسلم!! فلينظر العاقل إلى هذه الكلمة التي طاش بها عقله وهواه فجعل فيها الحق باطلاً والباطل حقًّا، وقد قيل:
وعبادة الأهواء في تطويحها
بالدين فوق عبادة الأصنام
وقد قال أنس بن مالك: إنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ﷺ وكانوا لا يقومون إذا رأوه، لما يعلمون من كراهيته لذلك، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس[49]. وهذه سنة رسول الله ﷺ وسيرة أصحابه في حياته، فما بالك بذلك بعد موته، وما هو إلا محض الغلو الذي نهى عنه، وروى أبو داود بسند جيد عن عبد الله ابن الشخير، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبيﷺ فقلنا: أنت سيدنا. فقال: «السَّيِّدُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى». قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. فقال: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ، أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ».
وعن أنس رضي الله عنه أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ولَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ أَنَا مُحَمَّدُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رواه النسائي بسند جيد.
﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَّهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ﴾ [الأحزاب:21]. فالرسول حَمَى حِمى التوحيد وسد طرق البدع والغلو فيه بالإطناب في المدح بالشعر أو النثر، لكون الإطناب في المدح ليس من هديه، وقد ورد النهي الشديد عنه وكذلك الصحابة من بعده بالغوا في حماية الدين وسد طرق البدع، لكون البدع بريد الشرك، وأول ما دخل الشرك على الناس هو بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثانًا يعبدونها، ولما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أناسًا يتسللون لواذًا جماعة وفرادى إلى شجرة، قال: ما هؤلاء يذهبون؟ قالوا: يذهبون إلى الشجرة التي بايع النبي ﷺ الصحابة تحتها ويصلون فيها. فقال عمر: اقطعوها، فإنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم، حتى جعلوا آثارهم معابد، فأمر بقطعها، فقطعت فكان آخر العهد بها[50]، فرحم الله عمر الفاروق، فإنه لو ترك هذه الشجرة بحالها لصارت وثنًا يعبد من دون الله، بدعوى محبة رسول الله ﷺ كما سنوا بدعة المولد والإسراء، بدعوى محبة رسول الله ﷺ.
لكون البدع كبدعة المولد وغيرها تبدأ بالأفراد، ثم تشتهر وتنتشر بالجماعات، فتنتقل من بلد إلى بلد، لكون الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر، وفي نفوس الناس قبول للباطل، بحيث تألفه ويتمركز فيها محبته، وقد حُفت النار بالشهوات، كما حُفت الجنة بالمكاره.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ بمثابة الحماة دون دخول البدع على الدين؛ لأن كل بدعة تحدث، فإنه يُرفع مقابلها من السنة، فاقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، فمن ذلك ما روى الدارمي، قال: أخبرنا الحكم بن مبارك، أنبأنا عمر بن يحيى، قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه، قال: كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أ َخَرَج أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا، فجلس معنا فلما خرج ابن مسعود، قال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد أمرًا أنكرته. قال: فما هو؟ قال: إن عشت فستراه. قال: رأيت في المسجد قومًا حلقًا جلوسًا، في كل حلقة رجل وفي أيديهم حصًى، فيقول: كبروا مائة؛ فيكبرون مائة، ويقول: هللوا مائة، فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؛ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئًا أنتظر أمرك. قال: أفلا أمرتهم أن يحصوا سيئاتهم وضمنت لهم بأن لا يضيع شيء من حسناتهم. ثم مضى ووقف عليهم، فقال: يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، والذي نفسي بيده إنكم مفتتحو باب ضلالة. قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير. فقال: وكم من مريد للخير لم يصبه. إن رسول الله ﷺ حدثنا أن قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وايم الله لعل أكثرهم منكم. قال عمر بن سلمة: لقد رأينا عامة أولئك يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج، انتهى.
ولن تجد أفصح ولا أنصح من رسول الله في إنذاره وتحذيره عن البدع. فقال جابر بن عبد الله: كان رسول الله ﷺ إذا خطبنا احمرت عيناه واشتد غضبه وعلا صوته، كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ويقول: «إِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ؛ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»[51].
رجعنا إلى مناقشة صاحب الرسالة على علاته ووضوح زلاته ويظهر أنه متعصب في الجهالة، غير عارف بحقائق الدلالة، مع ما به من الغرور على مساوئ أقواله.
فتراه يقول: إنك حين تقرأ هذه الرسالة باستيعاب يحملك على أن تحسب لكاتبها ألف حساب وتوقن أنك أمام فكر عميق وسيولة في التحقيق والتدقيق!!
فالجواب أن نقول: إنه لما نشر هذا الإعلان لإعلام الخاص والعام، بأن لديه الفكر العميق وسيولة علم في التحقيق والتدقيق، أصغينا إليه الآذان وأفرغنا له الأذهان، وتتبعنا ما عسى أن يورده من عميق الفكر والبيان والدليل والبرهان، فنتبعه على الرغم منا والإذعان؛ لأن واجب المسلم قبول الحق والانقياد له، لكننا لما بحرنا عميق فكره وجدناه سرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، وأنه من بعد تتبعنا لهذه الرسالة والوقوف على حقيقة ما تقتضيه من الدلالة وجدناها أضغاث أحلام ولم توف بشيء من حقيقة البيان أو الدليل والبرهان، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
سبكناه[52] ونحسبه لجينا[53]
فأبدى الكير عن خبث الحديد
إنه لم يأت على صحة ما يقول بدليل صحيح من المنقول أو المعقول، ولم يأت بقول أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من علماء المسلمين.
وإنما رمى بهذه الكلمة على سبيل الغرور والجزاف غير موزونة بمعيار الصحة والصدق والإنصاف، ثم أخذ يركب لتحقيقها التعاسيف في الصدور والورود، ويستدل لها بما يعد بعيدًا عن المقصود، ديدن الحائر المبهوت، يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت.
أقام يعمل أيامًا رويته
فشبه الماء بعد الجهد بالماء
ثم قال: إن كثيرًا من أئمة علماء الإسلام من الحفاظ والفقهاء وأصحاب السير كتبوا عن المولد النبوي وما سبقه من الإرهاصات وما ترتب عليه من البركات، مما يحتاج كل قادر على التأسي بهم في هذا الميدان.
فالجواب: أن هذا حق وقد أراد به الباطل، فإن كل متصد للدعوة إلى الباطل فإنه يقدم أمام دعوته من الترويج بالحق ما يستدعي ستر الباطل تحته وقبوله معه لكون الناس لا يقبلون الباطل المحض، وإنما يقبلونه إذا كان ملبوسًا بحق، قال الله تعالى: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَلۡبِسُونَ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُونَ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٧١﴾ [آل عمران: 71]. فلبس الحق بالباطل هو تغطيته به، بحيث يظهر للناس أنه حق وهو في الحقيقة باطل، ومن لوازم هذا اللبس كتمان الحق وعدم بيانه، لعلمه أنه لو بيّن الحق لم يتم مقصوده في تنفيذ الباطل، وهذا كله منطبق على تصرف هذا الكاتب وإن سمى نفسه بالإمام العلامة! فكان فيه حظ وافر ونصيب كبير من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَلَا هُدٗى وَلَا كِتَٰبٖ مُّنِيرٖ ٨ ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۖ لَهُۥ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَنُذِيقُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَذَابَ ٱلۡحَرِيقِ ٩ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتۡ يَدَاكَ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّٰمٖ لِّلۡعَبِيدِ ١٠﴾ [الحج: 8-10].
فأخبر الله سبحانه، أن من الناس من يجادل في الله بغير علم نقلي يرشده إلى التحقيق، ولا هدى عقلي يهتدي به لسلوك أقوم طريق، ولا كتاب منير ينقل منه ويقتدي به، بل هو مسلوب الرواية والدراية ومصروف من الهداية ﴿ثَانِيَ عِطۡفِهِۦ﴾: أي متكبرًا عن قول الحق وقبوله ليضل الناس عنه، فجمع بين الضلال والإضلال، ثم إن أكثر علماء الإسلام والحفاظ وأهل السير كتبوا في مولد رسول الله وبينوا حمل أمه آمنة بنت وهب به وذكروا ولادته ورضاعه، وخروجه رضيعًا إلى الصحراء مع مرضعته حليمة السعدية كسائر أولاد قريش لكونهم يستمجدون رضاع نساء البوادي لأولادهم، وذكروا نشأته وحضانة عمه أبي طالب له، ومبدأ نبوته وحماية أبي طالب له ودخوله مع عمه في الشعب ومعارضة قومه لدعوته، كل هذا يكتبونه ويقرؤونه في المساجد وفي المدارس وفي المجالس وفي كل الحالات وسائر الأوقات بعقل وأدب واحترام، لا يقصدون بكتابتهم تشييد أو تنشيط هذه الاجتماعات والاحتفالات التي أحدثها الناس، فإن علماء السلف متفقون على أنها من محدثات الأمور التي نهى عنها رسول الله أشد النهي، لكونها محدثة في الدين وتقود إلى ما هو شر منها، فإن البدع بريد الكفر، وحسبك أنه قد شاع في بعض البلدان أن من لم يحضر المولد فإنه كافر! ومن لم يقم عند ذكر ولادته فإنه كافر!! فكل هذا وأمثاله نتيجة هذه البدعة. وإنما يقصدون في ذكر مولده الاحتفاظ بتاريخه، إذ هو نبي الرحمة، ولم نجد في شيء من الكتب المعتمدة القول باستحباب التجمع والاحتفال بمولده ولا في اليوم الذي أُسري به، ولم نجد من علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين من يقول: إن الاحتفال بالنعم واجب كما يقوله هذا الكاتب ﴿ٱئۡتُونِي بِكِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ هَٰذَآ أَوۡ أَثَٰرَةٖ مِّنۡ عِلۡمٍ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٤﴾ [الأحقاف: 4].
ثم قال: وهذا أوان الشروع في مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي وتأييده بالأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية بما لم يسبق له مثيل، وذلك أن ميلاد محمد صلوات الله وسلامه عليه نعمة وكذلك ميلاد أنبياء الله وحملة رسالاته، ولقد نوه القرآن بميلاد مريم وابنها ونوّه بميلاد يحيى بن زكريا، ولقد احتفل القرآن بميلادهم وإليك بعض الآيات التي احتفلت بميلاد من سبق ذكرهم، ثم ساق في استدلاله صدر سورة آل عمران وبعض آيات من صدر سورة المائدة. انتهى كلامه.
فالجواب: أن نقول: إن كل ما ذكره من الأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية في مشروعية الاحتفال بالنعم، فكله من الكذب المكشوف المفترى على الله وعلى كتابه ودينه، قصد به نصر رأيه وإعلاء كلمته واستباح لأجله صرف القرآن عن المعنى المراد به بتحريفه عن مواضعه، فكان كما قيل:
لا وافق الحكم المحل ولا هو اسـ
ـتوفى الشروط فكان ذا بطلان
وإن هذه الآيات التي سردها والأقوال التي أسندها واستدل بها، كلها خارجة عن موضوع البحث الذي يريد تأييده، فلا يتعلق به بصلة، ولكنه مزجى البضاعة من معرفة الصناعة، إذ موضوع البحث مشروعية الاحتفال بمولد الرسول وبمولد سائر الأنبياء، وبما أن الاحتفال هو التجمع والتحشد، ولا أدري من أين أخذ وقوع هذا الاحتفال بمريم وعيسى ويحيى بن زكريا! وأين مكانه ومتى زمانه؟ وهل وقع في السماء من الرب مع ملائكته أو في الأرض! وأين الدليل الشرعي في صحته ومكانه؟ ولكنه لجهله العريق وجفائه العميق يوهم الناس أن الاحتفال بمولد الرسول أنه مجمع عليه بالمعقول والمنقول وهو كذب وزور، فكل العلماء المحققين بريئون مما يقول، فهو لجهله لا يفرق بين المشروع وغير المشروع ولا بين ما فُعِل للعادة أو للعبادة.
وقد قيل: إن أفضل الكلام ما جلَّى الحقائق وهدى لأقوم الطرائق، وهذا الكاتب قد اعتاد إلقاء مثل هذه الجمل من كيس نفسه على سبيل الخرص والجزاف غير موزونة بميزان الصحة والإنصاف؛ لأنه قد صرف جُلَّ عقله وعمله واهتمامه إلى تأييد رأيه والتمويه على الناس بصحته، وهو باطل من أصله ولم يورد حرفًا واحدًا لصحته، وكأنه يملي كتابه على قطيع من البقر لا على علماء من نقاد البشر، الذين يعرفون المعروف وينكرون المنكر، والحمد لله الذي جعل في كل زمان بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، إذ لولا من يقيمه الله لحماية الدين ودحض شبه الملحدين ودفع بدع المبتدعين لفسد الدين.
والمقصود أن بركة الرسول ﷺ على أمته لا تعد ولا تحصى، وأنه رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين، وقد امتن الله ببعثته على المؤمنين، فقال سبحانه: ﴿لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ بَعَثَ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ ١٦٤﴾ [آل عمران: 164]. فقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة.
ولما قسم رسول الله ﷺ غنائم حنين وأعطى المؤلفة كل واحد مائة من الإبل فوقع في نفس الأنصار شيء من ذلك وقالوا: يعطي غنائمنا صناديد العرب ويَدَعُنا. فسمع رسول الله ﷺ بخبرهم فجمعهم ثم قال: «يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ تَكُونُوا ضُلَّالًا، فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ بِي؟» وفي كل كلمة يقولون: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال: «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَنْصَرِفَ النَّاسُ بِالْمَالِ، وَتَنْصَرِفُوْنَ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟». قالوا: قد رضينا، قد رضينا.[54] وسيأتي الكلام على هذه الآية فيما بعد إن شاء الله.
إن رسول الله ﷺ لم يطلب من أمته على هدايته ودعوته مِنَّةً ولا على عمله مكافأة وأجرًا إلا بالدعاء وكثرة الصلاة والتسليم عليه ثم بمتابعته بامتثال أمره واجتناب نهيه؛ لقوله ﷺ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى» قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»[55]، وألاّ يعبدوا الله إلا بما شرع لا بمجرد الاستحسان والبدع، يقول الله تعالى: ﴿قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ ٨٦ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرٞ لِّلۡعَٰلَمِينَ ٨٧﴾ [ص:86-87]. فليس من شأن الرسول ولا من هديه الإطراء والمبالغة في مدحه بشعر شوقي أو غيره، بل هذا من منهياته، فقد قال ﷺ: «لَا تُطْرُوْنِي كَمَا أطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُوْلُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ». رواه البخاري ومسلم. والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح والثناء، وقد قدمنا قول عبد الله بن الشخير، لما قدم في وفد بني عامر، فقالوا: أنت سيدنا وأفضلنا، فقال: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ ولَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدٌ، عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللهُ». مع العلم أنه سيد الأولين والآخرين على الإطلاق، وأنه أفضل الناس على الإطلاق، ومع هذا قال: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى الْأَنْبِيَاءِ»، كله حرص منه ﷺ على حفظ أصل الدين لئلا يتجارى بهم الهوى في حبه إلى الغلو الذي نهى عنه بقوله: «إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ»[56] لأنها إنما عبدت قبور الأنبياء بالغلو في محبتهم.
فهذا قوله في حياته وينطبق على حالته بعد وفاته؛ لأن ما كرهه في حياته فإنه يكرهه بعد وفاته، كما كره العلماء رفع الصوت عند قبره.
وقد بالغ هذا الكاتب في مدح شوقي على شعره ورفع عقيرته بمدحه، حيث إنه قد وافق هواه في الإطراء، ومتى جاء سيل الله بطل نهر معقل.
ثم قال: قد يعترض معترض ويقول قائل: إنه ليس فيما ذكرتموه سابقًا دليل ناصع على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على النحو المعروف. ونحن نقول: إن هذا الاعتراض لا يصلح ردًّا لمشروعية الاحتفال بنعم الله ومنها ميلاد محمد عليه الصلاة والسلام!!
والجواب: إن من عادة الله في خلقه أن كل من أسر سريرة أو استبطن عقيدة، فإن الله سبحانه يظهر سر عمله وعقيدته على فلتات خطابه وصفحات كتابه، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر؛ لأن كل إناء ينضح بما فيه وعادم الخير لا يعطيه، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِ﴾ [محمد: 30]. وهذا الكاتب قد اعترف على نفسه بما عسى أن يقول الناس فيه بأنه ليس فيما يورده دليل صحيح على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي لا من القرآن ولا من قول الرسول ولا من قول أحد من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المذاهب! فهذا مجرد اعترافه على نفسه وهو واقع والناس صادقون فيما يقولون: فمن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من طبيب داؤه من دوائه وعلته من حميته، بل ثبت عن رسول الله ﷺ ما يدل على صريح النهي عنه حيث قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»[57] وهذا من محدثات الأمور بإجماع علماء المسلمين وإن سماه من سماه بدعة حسنة، فليس في الشرع بدعة حسنة، بل كل بدعة سيئة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم إنه حاول الفرار من هذه البدعة إلى بدعة أخرى وهي أشنع منها وهي بدعة الاحتفال بالنعم، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإن استدلاله بالاحتفال بالنعم هو استدلال فاسد بالنص والقياس ولم يقل أحد ممن يُحتج به: إنها سنة أو بدعة حسنة، وحسبنا شهادته على نفسه بأنه ليس فيما يورده دليل صحيح على مشروعية هذا ولا ذاك، فكان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا!! وغايته أنه يتقلب مع الأهواء ويخبط خبط عشواء، والعالم النحرير والمفكر البصير إنما يستدل بالدلائل المنقولة والمعقولة مما يشهد علماء المسلمين بصحته؛ لأنها أوقع في القلوب وأليق بالقبول، لأن العلماء يحاربون البدع بالسنة، أما القول الخارج عن معيار الصحة من سائر أقوال الناس، فإن كل أحد يقدر على رده والمقابلة بضده، فيكون استدلال بدعة ببدعة يزداد بها الطين بلة.
إذا استشفيت من داء بداء
فأكثر ما أعلك ما شفاك
إنه متى ساء الفهم ساءت النتيجة، وإذا ساءت النتيجة فسدت الغاية، لقد رأينا هذا الكاتب -هداه الله- لما تقحم الخوض في موضع سُنيَّةِ الاحتفال بالمولد النبوي وجعله بدعة حسنة، ولم يجد دليلاً واضحًا يؤيده ولا نصًّا صريحًا يسنده اضطره انتصاره لهذه البدعة إلى بدعة أخرى قد سنها بنفسه ابتداء ولم نعلم من سبقه إلى القول بها وهي الاحتفال بالنعم، ثم استباح في تأييدهما صرف القرآن عن مواضعه إلى غير المعنى المراد منه، ليقيم من ذلك حجة على الاحتفال بالنعم والاحتفال بالمولد النبوي، فأكثر في سبيل ذلك من الصدر والورود والاستدلال بما يعد بعيدًا عن المقصود، ديدن الحائر المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت! ويظهر أنه مزجى البضاعة من هذه الصناعة، فليس للشريعة مُعَظِّمًا ولا للقرآن محترِمًا ولا للحديث موقِّرًا، فانظر إلى كلامه في سائر كتابه تجده لا طالب أثر ولا متبع خبر ولا مناضلاً عن سنة ولا راغبًا أو مُرَغِّبًا في أسوة حسنة، يتلاعب بالقرآن العظيم ويحاول أن يجعل منه أمثالاً للبدع السيئة ليخدع بها العوام وضعفة القول والأفهام.
وإذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
له عن عدو في لباس صديق
ثم قال: ولدينا دليل آخر مدني أنصاري نقله إمام السنة أحمد بن حنبل وحكاه عنه شيخ الإسلام ابن تيمية، قال أحمد: ثبت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله ﷺ قالوا: لو نظرنا يومًا فاجتمعنا وذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا، فقالوا: يوم السبت. قالوا: لا نجامع اليهود في يومهم. قالوا: الأحد. قالوا: لا نجامع النصارى في يومهم. قالوا: فيوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة، فذبح لهم شاة فكفتهم. انتهى.
فالجواب: أننا بحمد الله نؤمن بالكتاب كله من كل ما ثبت عن الله ورسوله، ولسنا ممن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وهذا الذي ذكره من اجتماع الأنصار يطالبون بيوم يجتمعون فيه لعبادة ربهم هو صحيح كما وصف، وأما صلاتهم الجمعة، فإنما وقع بأمر من النبي ﷺ لما تتابع المهاجرون إلى المدينة، أمر مصعب بن عمير، بأن يصلي بهم الجمعة ويترجح أنها فرضت الجمعة مع فرض سائر الصلوات، والله سبحانه قد افترض الصلوات الخمس وآكدها صلاة الجمعة والتي هي عيد الأسبوع والتي هي أفضل من عيد الأضحى وعيد الفطر، فاختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن النبي ﷺ قال: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا ليوم الجمعة، نحن الآخِرون السابقون». وفي رواية «بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له» فافترضت الجمعة على النبي ﷺ بمكة كسائر الصلوات الخمس، لكنه لم يتمكن من إقامتها بمكة من أجل أن المشركين يمنعونه من ذلك، ولما هاجر بعض أصحابه إلى المدينة أمر النبي ﷺ مصعب بن عمير بأن يصلي الجمعة بالناس.
قال عبد الرحمن بن كعب -وكان قائد أبيه بعدما عمي- قال: كان أبي إذا سمع أذان الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت: يا أبت إنك إذا سمعت أذان الجمعة ترحمت لأسعد بن زرارة. قال: نعم أي بني إنه أول من جمع بنا في حرة بني بياضة في نقيع الخضمات فذبح لنا شاة فتغدينا عنده، قلت: كم كنتم؟ قال: كنا أربعين. رواه أبو داود وابن ماجه.
وقد استدل به من اشترط لصحة الجمعة حضور أربعين من أهل وجوبها وليس فيه دليل قاطع على اشتراط هذا العدد؛ لأنها قضية حال وافق كونهم أربعين بدون تحديد لهذا العدد منه عليه الصلاة والسلام والصحيح أن الجمعة تصح ولو بدون أربعين ولو بدون اثني عشر من أهل وجوبها ومن غيرهم.
أما أول جمعة صلاها النبي ﷺ مباشرة منه، فهي في مسجد بني عبد الأشهل بالمدينة، حين قدم مهاجرًا فوافق قدومه يوم الجمعة فنزل على أبي أيوب الأنصاري فصلى بالناس.
وسميت جمعة؛ لأنها مشتقة من الجمع، وأن أهل الإسلام يجتمعون فيها في كل أسبوع مرة يتفرغون فيها لعبادة ربهم، وأنزل الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٩﴾[الجمعة:9]. لهذا حرّم الفقهاء تعدد الجمع لغير ضرورة، والنبي ﷺ قال: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إِلَّا عَلَى أَرْبَعَةٍ: مَمْلُوكٍ، وَامْرَأَةٍ، وَصَبِيٍّ، وَمَرِيضٍ». رواه أبو داود من حديث طارق بن شهاب، وقال: لم يسمع طارق من النبي ﷺ، رواه الحاكم عن طارق عن أبي موسى.
وهذا الاجتماع هو مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقد تواترت الأحاديث الكثيرة في فضلها والمحافظة على فعلها والوعيد الشديد في تركها، فروى مسلم عن ابن عمر، قال: سمعت النبي ﷺ يقول على أعواد منبره: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدَعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» فلا يقاس هذا الاجتماع المشروع على الاجتماع للمولد الذي ليس له أصل من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة والتابعين ولم يقل بمشروعيته أحد من أئمة المذاهب، ويترتب عليه مفاسد كثيرة فكيف يقاس على يوم الجمعة الذي يجتمع فيه المسلمون لعبادة ربهم؟ منهم المصلي ومنهم التالي للقرآن ومنهم المسبح والمستغفر، وإذا قام الخطيب يذكرهم استمعوا له وأنصتوا، ولهذا كره للرجل أن يتخطى رقاب الناس وأن يتكلم والإمام يخطب، فهو كمثل الحمار يحمل أسفارًا، أو من قال لصاحبه: أنصت. فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، والجمعة الصحيحة تكفر ما بينها وبين الجمعة الأخرى، وفضل ثلاثة أيام، فهذا الاجتماع بهذه الصفة هو شرع الله الحكيم ودينه القويم الذي قال الله فيه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾ [الجاثية: 18].
أما الاجتماع للاحتفال بمولد الرسول أو الإسراء والمعراج أو الاحتفال بالنعم، فإنه من شريعة المخلوقين، ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ [الشورى: 21]،فكيف يقاس شرع الله الحكيم بشريعة المخلوقين الذي قام بتشريعه علماء الضلال فتبعهم العامة عليه؛ لظنهم أنه دين وحق وهو باطل في نفس الأمر والواقع؟ إذ لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ثم إن أكثر هؤلاء يخدعون العوام ويغشونهم ويلبسون عليهم باسم الدين فيجعلون لهم الباطل حقًّا والبدعة سنة، بسبب ما يترتب على هذا الاحتفال من المآكل الشهية، كما يقول هذا بأنه مشروع بالأدلة العقلية والنقلية والاجتماعية، ثم يقيسه على اجتماع الناس للجمعة والعيد ويجعل صوم النبي يوم عاشوراء، حيث أنجى الله فيه موسى وقومه أنه من الاحتفال بالنعم، وكذا صوم النبي للاثنين الذي ولد فيه أنه من الاحتفال بالنعم، فيا سبحان الله، متى كان الاحتفال بالنعم مشروعًا؟ وفي أي كتاب وجده؟ أو أي عالم قال به؟ وإذا كان الاحتفال هو التجمع ومحفل القوم مجتمعهم، فأين هذا من ذاك؟ وكأنه يملي كتابه من تفكير منامه، لا من عقله، يقول الله: ﴿وَجَعَلۡنَا لَهُمۡ سَمۡعٗا وَأَبۡصَٰرٗا وَأَفِۡٔدَةٗ فَمَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُمۡ سَمۡعُهُمۡ وَلَآ أَبۡصَٰرُهُمۡ وَلَآ أَفِۡٔدَتُهُم مِّن شَيۡءٍ إِذۡ كَانُواْ يَجۡحَدُونَ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ﴾ [الأحقاف: 26]. وكل قول لا دليل عليه يقدر كل أحد على رده، والمقابلة بضده، والعامي بلا شك ينخدع بمثل هذه الأقوال ويعتقد مشروعيته بالقرآن، لا سيما إذا نمقه قائله بزخرف القول وخداع الألفاظ، بحيث تروج صحته في أذهان العوام وضعفة العقول والأفهام. كما قيل:
في زخرف القول تزيين لباطله
والحق قد يعتريه سوء تعبير
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحًا وذمًّا وما جاوزت وصفهما
حسن البيان يرى الظلماء كالنورِ
ثم قال: إن حديث «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» معارض أو مخصص بحديث أوضح منه وأكثر طرقًا وهو حديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ». رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله.
فالجواب أن نقول: لقد عرف هذا الكاتب أن عملهم في الاحتفال بمولد الرسول أنه بدعة، لكنه أراد أن يزيل اسم هذه البدعة بحديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً» إلى آخره، فمتى تحقق أنه بدعة حسبما شهد به على نفسه فإن رسول الله ﷺ قال: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»[58] وهي نكرة مضافة تعم كل بدعة، فليس في الشرع بدعة حسنة، بل إن البدعة تنافي السنة وتنافي الحسنة وكل بدعة سيئة، ولو كان عند هؤلاء محبة صحيحة للرسول لاتبعوا أمره واجتنبوا نهيه، وحيث تقرر عنده أنها لم تكن معروفة زمن النبي ﷺ ولا زمن أصحابه، فإنها تعتبر زيادة في الدين ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُ﴾ [الشورى: 21].
والبدعة هي ما فُعِل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع، فهي زيادة في الدين بعد تمامه، وهي بدع من القول وزور، وقد قيل: اتبعوا ولا تبتدعوا، قالوا: كل عبادة لم يتعبدها رسول الله ﷺ ولا أصحابه، فلا تتعبدوها، فإن الأول لم يترك للآخر مقالاً فيما يتعلق بشأن العبادة والقُرَب الدينية.
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
فالبدعة الحسنة إنما تكون في العادات لا العبادات.
ثم قال: إن الاحتفال بالمولد النبوي إنما يكون بذكر الله والصلاة على رسول الله وذكر سيرته وفضله وبإطعام الطعام وإفشاء السلام والتقاء الإخوان على رياض جنة الذكر.
فالجواب أن نقول: إن كل بدعة على اختلاف أنواعها، فإن طبيعتها التمدد من الذكر إلى فنون من المنكر؛ لأن البدع بريد الكفر، ورُبَّ مريد للخير لا يدركه وإنما حذر النبي ﷺ عنها وحرص الصحابة على إزالتها، حيث قطع عمر بن الخطاب الشجرة التي كانوا يصلون تحتها ويقولون: إن النبي ﷺ بايع الصحابة تحتها، ومثله نهي ابن مسعود وأبي موسى الأشعري للجماعة الذين يجتمعون ويقول أحدهم: هللوا مائة فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، ويقول: كبروا مائة فيكبرون مائة، فزجرهم ابن مسعود وقال لهم: احصوا سيئاتكم ونحن كفلاء بألا يضيع من حسناتكم شيء.
وإنما دخلت الوثنية على العرب بسبب الغلو في الأنبياء والصالحين، حتى صيروا قبورهم أوثانًا يعبدونها، وما أحدث قوم بدعة إلا رُفِع مكانها من السنة، فتمسُّكٌ بسنة خير من إحداث بدعة.
إنه لو كان عملُ هؤلاء صحيحًا في محبة الرسول ﷺ لاتبعوا أمره واجتنبوا نهيه وأكثروا من الصلاة والتسليم عليه وهم في بيوتهم وطرقهم، ولكن هذه المآكل الشهية التي أشار إليها الكاتب بقوله: إنهم يطعمون في هذا المحفل الطعام ويلتقي عليه الإخوان... فإن هذا هو أكبر عامل لتشييد هذه البدعة، فإن البراطيل تنصر الأباطيل.
وأما حديث «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فإن السنة الطريقة تطلق على العمل الحسن وعلى العمل السيئ، والكل وارد في الكتاب والسنة، أما السنة الحسنة ففي قوله: ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ﴾ [الأحزاب: 21]. ومنه قول النبي ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، تَمَسَّكُوْا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ»[59] ومعنى سنة الخلفاء أي طريقة الخلفاء الراشدين.
نظيره قول عمر بن عبد العزيز: لقد سن رسول الله ﷺ وولاة الأمر من بعده سننًا، الأخذُ بها اعتصامٌ بكتاب الله وقوةٌ في دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر يخالفها، من اهتدى بها فهو المهتدي ومن استنصر بها فهو المنصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا.
فلا يظن أحد أن الخلفاء الراشدين يسنون للناس سننًا من العبادات تخالف أمر الرسول ونهيه؛ لأن التشريع خالص حق الله ورسوله.
أما السنة السيئة، فقد جاء بها الحديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْهُ»، وقالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فَمَنْ؟» يعني طرق اليهود والنصارى. ومثله ما روى مسلم عن ابن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: «أعتى الناس على الله ثلاثة: من قتل غير قاتله، أو قتل لدخل الجاهلية، أو ابتغى في الإسلام سنة الجاهلية، في عملها وقولها»، ومثله حديث: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»[60].
فقول النبي ﷺ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا» يفسره ما ثبت في الحديث نفسه الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله أنه قال: كنا عند رسول الله ﷺ في صدر النهار فجاء قوم حفاة عراة مجتابي النمار متقلدي السيوف عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه وسول الله ﷺ لما رأى بهم من الفاقة فدخل وخرج ثم أقبل وأدبر، ثم خطب الناس فقال: «﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَ﴾ [النساء: 1] تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ». حتى قال: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ». فتتابع الناس فجاء رجل بصاع تمر فلمزه المنافقون وقالوا: إن الله غني عن صاع هذا، ثم جاء رجل بصرة دنانير كادت كفه أن تعجز عنها، فقالوا: مراءٍ، حتى اجتمع عند رسول الله ﷺ كومان من الطعام وكان إذا سر استنار وجهه، فقال: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[61] يريد بذلك صاحب الصرة. وتتابع الناس بعده على القدوة في الصدقة، ولهذا قال العلماء: إن الإعلان بالصدقة متى كان يقتدى به أفضل من إخفائها، يقول الله تعالى: ﴿إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ﴾ [البقرة: 271]. فمدح كلا الحالتين.
فليس في الحديث دليل على صحة ما يرمي إليه الكاتب من تسمية البدع بالسنة الحسنة أو البدعة الحسنة.
وإذا أردنا أن نفسر السنة الحسنة لم نجد لها تفسيرًا أوضح ولا أفصح من تفسير النبي ﷺ لها في هذا الحديث، وقضية الرجل الذي تصدق بصرة الدنانير وأخذ الناس يتبعونه في الصدقة كل على حسبه والفضل للمتقدم، وإذا أردنا أن نعرف السنة السيئة لم نجد لها تفسيرًا أقرب من تفسيرها بالاحتفال بالمولد النبوي، سنة الفاطميين من أهل مصر، ثم تبعهم الناس على ضلالهم؛ لأن الناس يقلد بعضهم بعضًا في الخير والشر.
وذكر صاحب كتاب الإبداع في مضار الابتداع أن أول من أحدث بدعة المولد هم الفاطميون أهل مصر، لما رأوا النصارى يعظمون مولد المسيح ويجعلون لهم عيدًا يعطلون فيه المتاجر والبيع والشراء، أخذوا يقتدون بهم في تعظيمهم المولد النبوي، ثم اشتهر وانتشر في البلدان على سبيل العدوى والتقليد الأعمى، ومن عادة البدع على اختلاف أنواعها أن يقود بعضها إلى البعض حتى تكون الآخرة شر من الأولى، فقد نشأ عن هذه البدعة بدعة أخرى سنها الكاتب وهي بدعة الاحتفال بالنعم، حيث يزعم أنه واجب! فالاحتفال بالمولد هو من سنة الفاطميين ليس من سنة الدين ويرجع إلى اتباع النصارى في مثل عيدهم، فهو من تقليدهم والتشبه بهم وليس من عمل السلف الصالح، وبهذا نعرف بأنه لا تعارض بين قوله: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ» وبين قوله: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وأن الكل حق ومعنى السنة الطريقة وسنة الرسول طريقته.
كما أن من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل من اتبعه، إذ ليس ذلك الصحابي هو الذي ابتدع الصدقة ابتداء من غير سبق الشرع بها، فإن الصدقة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع على هذه الأمة وعلى سائر الأمم قبلها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ لَا تَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَانٗا وَذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ثُمَّ تَوَلَّيۡتُمۡ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنكُمۡ وَأَنتُم مُّعۡرِضُونَ ٨٣﴾ [البقرة: 83].
لقد علمنا من هؤلاء المشايخ الذين يتصدون للجلوس في صدر المحفل النبوي ويتبعهم الناس في عملهم ويقولون: إنه سنة حسنة أو بدعة حسنة، يبرهن بزعمهم عن محبة الرسول وتعظيمه في قلوب العوام، فإن هذا القول والفعل باطل قطعًا، فإنه بالاستمرار على فعله كل عام يصير سنة عند العوام متى غيرت قالوا: غيرت السنة، فيلحقون في الدين ما ليس منه وما لم يأذن به الله ورسوله. فتمسُّكٌ بالسنة خير من إحداث بدعة.
وقد علق الناس على هذه البدعة ما يستدعي قبولها وإقبال الناس إليها من ذلك قولهم: إن من يحضر المولد النبوي فإنه يصح في جسمه ويعافى في ولده ويسعد بالأرباح الطائلة في ماله، وينشرون بين الناس بأن الرسول يحضر محفل المولد ويعرف الحاضرين، ويقولون بوجوب القيام عند ذكره وعند ولادته، وأن من لم يحضره فإنه يبتلى بالمرض في جسده وأولاده ويخسر في ماله ولا يدخل شفاعة الرسول.
وحسبك ما أملاه هذا الكاتب من تمثيله بصلاة الجمعة والعيد وبصيام عاشوراء والاثنين وغير ذلك، ثم استباحة صرف الآيات القرآنية عن المعنى المراد منها بتحريفها إلى غير معناها في سبيل نصر رأيه وتقوية باطله.
وإن من طبيعة البدع على اختلاف أنظطواعها كهذه البدعة وغيرها أنها تتوسع وتتفجر إلى فنون من الشر، فإذا أردت أن تبحث عن حقيقة ذلك فاسأل عن بدعة المولد وعما يفعله الناس فيها في مصر ولبنان وسوريا والعراق وإيران، وأنهم قد أحدثوا فيها أشياء كثيرة من الغلو والإطراء والبكاء والنياحة وضرب الخدود والقيام والقعود وضرب الدفوف وشرب الخمور واختلاط الرجال بالنساء وأنواعًا من المفاسد!! حتى ألحقوا مولده بلهو الحديث؛ لأن كل ما نهى عنه رسول الله ﷺ، فإن مفسدته راجحة ومضرته واضحة، وإن لم يظهر ضررها حالاً فإنه سيظهر بعد حين، لا يقال: إن الاحتفال بالمولد سنة فجهلها الصحابة والسلف الصالح ولا أنهم علموها فتركوا العمل بها، كل هذا لا ينطبق عليهم والدين كامل قبلها وقد قيل:
ثلاثة تشقى بهن الدار
المولد والمأتم والزار
ثم قال: لا ريب أن مضاعفة الأجور العظيمة إنما كانت للاتباع في الابتداع الحسن الذي هو الاستنان الحسن لحديث «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»[62] وهذا الحديث قاضٍ على كل ما يقوله خصوم البدعة الحسنة وهو يدك دكًّا قولهم: إن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة، وقولهم: لو كان خيرًا لسبقونا إليه، ولا ريب أن الاحتفال بالمولد النبوي بدعة حسنة وسنة حسنة وفق الله لها من سنها وعمل بها وجعل له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.
فالجواب أن نقول:
ألا تسألن المرء ماذا يحاول
أَنَحْبٌ فيقضى أم ضلال وباطل
إنه في آخر الزمان يصير العلم جهلاً والجهل علمًا والبدعة سنة والسنة بدعة، ينشأ على هذا الصغير ويهرم عليه الكبير، حتى إذا غيرت البدعة قالوا: غيرت السنة، وهذا الكاتب مبتلى بقلب الحقائق في المعقول والمنقول، فيجعل البدعة سنة والسنة بدعة، ويجعل المأزور على تأسيس البدع مأجورًا، فيحرف الكلم عن مواضعه ويخالف الحق مخالفة غير خافية على أحد، لاعتقاده أنه قد وضع ناموسًا للناس بعقله ولن يخر فريسة لتعاليمه السخيفة سوى همجي رعديد قليل العلم والمعرفة بحقائق العلوم النافعة ولا يروج إلا على من هو أجهل الناس وأقلهم معرفة وعلمًا.
يزيف الحق القويم ويزخرف الباطل الذميم ويصد عن الصراط المستقيم ويقول: ﴿هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١﴾ [النساء: 51]. وحسبنا اعترافه على نفسه، بأن الاحتفال بالمولد بدعة، وقد أراد التهرب من مسمى هذه البدعة بقوله: إنها بدعة حسنة ثم أفرغ الثناء على من سن هذه البدعة وحكم له بأجور من عمل بها عكس ما حكم به النبي ﷺ فقد حكم حكمًا يقطع عن الناس النزاع ويعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع، وهو أن كل بدعة ضلالة، ولا ندري هل نقدم حكم رسول الله أم حكم صاحب الرسالة؟! فإن بدعة الفعل والزور لن تنقلب عملاً صالحًا مبرورًا إذ الأسماء لا تغير الحقائق عن مسمياتها، والبدعة في اللغة هي: الزيادة في الدين بعد كماله، وفسروها أيضًا بأنها: ما فُعِل على سبيل القربة مما لم يكن له أصل في الشرع.
فليس في شريعة الإسلام بدعة حسنة قطعًا وإن غلط بعض العلماء في ذلك، وقد جاءت الشريعة الإسلامية بجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، وإن الوسائل لها أحكام المقاصد، فكل ما نهى عنه رسول الله ﷺ من محدثات الأمور، فإن مضرته واضحة ومفسدته راجحة وإن لم تظهر للناس في الحال، فإنها ستصير إلى ذلك في مستقبل الزمان، فلا راد لحكم رسول الله ﷺ ولا مبدل لكلماته.
وإنما قطع عمر الشجرة التي كان الناس يتحرون الصلاة تحتها وهي الشجرة التي بايع النبيﷺ الصحابة تحتها، لعلمه أن هذه الصلاة في خاصة هذا المكان ستؤول إلى فتنة من عبادة هذه الشجرة، لأن ما أهلك من قبلنا وأوقعهم في الشرك هو تتبعهم آثار أنبيائهم حتى جعلوا قبورهم أوثانًا يعبدونها والدفع أيسر من الرفع، واقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة.
وهذا الكاتب مبتلى بقلب الحقائق في المعقول والمنقول وفي تأويله للقرآن وأحاديث الرسولﷺ، فيجعل من ابتدع بدعة ضلالة مما ليس له أصل في كتاب الله ولا عن سنة رسول اللهﷺ ولا عن الصحابة والتابعين ولا عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة أنه مصيب في عمله وأنه قد سن للناس سنة حسنة له أجرها وأجر من عملها، فهو يسير على نسبة عكسية من قول الرسول ﷺ وحكمه، كما أن من دعا إلى الضلالة فإن عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وصدق الله ورسوله وكذب من افترى عليه وزاد في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله.
وهؤلاء الذين يجادلون في إثبات سنية المولد هم يعرفون من المفاسد المترتبة عليه أكثر مما نعرف، لكنهم يجحدونها لكون هذا الاجتماع كما أشار إليه الكاتب من أنه يلتقي فيه الإخوان ويطعم فيه الطعام، وحبك الشيء يعمي ويصم والبراطيل تنصر الأباطيل.
ولقد كان من الحزم وفعل أولي العزم في حق هذا الكاتب أن يصرف شيئًا من جهده وجهاده ونشاطه إلى دعوة الناس إلى ما دعاهم إليه كتاب ربهم وسنة نبيهم بالوصية منه في سلوك طريق السلف الصالح ونهي الناس عن البدع الفاشية والظلمات الغاشية، ويفسر لهم النصوص التي جعلت قبور الصالحين والأنبياء أوثانًا وأن سببه هو الغلو في الدين والغلو في الأنبياء والصالحين، وينهى عن اتخاذ القبور مساجد وعن تعليتها وبناء القباب فوقها، وإيقاد السرج عليها، وينهى عن الذبح للقبر والذبح للجن والذبح للزار، وأنه شرك بالله، ويأمر بالوقوف عند حدود السنن واجتناب البدع، ويأمر بالمحافظة على فرائض الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام والإكثار من الدعاء والتضرع وكثرة الصلاة على النبي ﷺ في كل الحالات وسائر الأوقات، فإنها من أجَلِّ الطاعات وأفضل القربات، وأن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[63]، فلو ذكِّر الناس بمثل هذا لكان أفضل له وأعظم لأجره ولكان له أجر من عمل به.
أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى
وأحسب أن الحي ليس بآهل
وأما الاستدلال بجمع الصحابة للقرآن على البدعة الحسنة. فجوابه: أن جمع القرآن ليس من البدعة الحسنة في شيء، بل هو من الأمر المحتم المفروض على خاصة الصحابة وعلى كافة الأمة لو تركوه أثموا.
لأن حفظ القرآن عن ضياعه ونسيانه واجب، وكان القرآن ينزل على النبي تدريجيًّا حسب الوقائع، وقالوا: ﴿... لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا٣٢ وَلَا يَأۡتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ وَأَحۡسَنَ تَفۡسِيرًا٣٣﴾ [الفرقان: 32-33]. فبقي مفرقًا في صدور الرجال وفي الصحف والرقاع واللخاف، فلما كانت وقعة اليمامة في قتال مسيلمة وأصحابه واستحر القتل في القراء من الصحابة ففزع عمر من الخوف على ضياع القرآن أو ضياع شيء منه بموت حملته، وأخذ يراجع أبا بكر ويطالبه بجمعه، وكأن أبا بكر استثقل ذلك لعدم سبق جمعه من النبي ﷺ ولم يزل يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر كما شرح له صدر عمر وكذلك سائر الصحابة رأوه أمرًا واجبًا تقتضيه المصلحة.
فوكلوا أمر تتبعه وجمعه إلى ثلاثة من قراء الصحابة يرأسهم زيد بن ثابت فجمعوا القرآن وبقي آية منه، يقول زيد بن ثابت: كنت أسمع رسول الله ﷺ يقرؤها وهي قوله: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري فوضعتها في محلها[64].
فهذا الجمع للقرآن هو من الأمر الواجب على الصحابة لكونه لا يتم الانتفاع التام بالقرآن إلا بذلك وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لكون القرآن في أحكامه وبيان حلاله وحرامه وأمره ونهيه مرتبط بعضه ببعض، وكذلك سعة شريعته وشموله على سائر ما ينفع الناس في أمر دينهم ودنياهم، فمصلحة جمعه راجحة ومنفعته واضحة وهم في حالة جمعه لم يأتوا بشيء زائد على أصله لا في لفظه ولا معناه ومبنى الشريعة على حماية الدين وحفظه، وهذا من بابه فهو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع، وقد تكفل سبحانه بجمعه في قوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ [الحجر: 9].
ثم إن القرآن بفحوى لفظه وخطابه يوجب أن يكون مجموعًا بمقتضى شرع الله وقدره، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ [القيامة: 17]. وروى البخاري ومسلم عن ابن عباس، قال: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة، فكان إذا نزل عليه جبريل يحرك شفتيه خشية أن ينسى شيئًا منه، فأنزل الله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ ١٦ إِنَّ عَلَيۡنَا جَمۡعَهُۥ وَقُرۡءَانَهُۥ ١٧﴾ أي جمعه في صدرك ثم تقرأه، ﴿فَإِذَا قَرَأۡنَٰهُ﴾ أي أوحيناه ﴿فَٱتَّبِعۡ قُرۡءَانَهُۥ ١٨﴾، أي فاستمع وأنصت له، فحكم سبحانه بجمع القرآن المستلزم لحفظه وضبطه، كما تولى سبحانه حفظه بقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ٩﴾ فجمعه هو من عناية حفظ الله له، بخلاف الكتب السماوية النازلة على سائر الأنبياء، فقد استحفظ أهلها عليها فحصل فيها التبديل والتغيير لعدم عناية أمتهم بحفظ دينهم، كما قال تعالى: ﴿فَوَيۡلٞ لِّلَّذِينَ يَكۡتُبُونَ ٱلۡكِتَٰبَ بِأَيۡدِيهِمۡ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ لِيَشۡتَرُواْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتۡ أَيۡدِيهِمۡ وَوَيۡلٞ لَّهُم مِّمَّا يَكۡسِبُونَ ٧٩﴾ [البقرة: 79].
ومن صفة هذه الأمة أن أناجيلها في صدورها ولا بد مع طول الزمان أن ينسى الإنسان شيئًا منه؛ لأن من طبيعة الإنسان النسيان، وقيل: إنه إنما سمي إنسانًا من أجل نسيه، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا ١١٥﴾ [طه: 115]. وأنشدوا في هذا المعنى:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
وما القلب إلا أنه يتقلب
ولو لم يكن مجموعًا لمراجعة ما عسى أن ينسوا منه لفات عليهم أكثره، لا سيما في آخر الزمان عند زهد الناس في حفظ القرآن في صدورهم.
ثم إن قوله: ﴿ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ ٢﴾ [البقرة: 2]. وقوله: ﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾ [البقرة: 185]. أي هدى للناس إلى سبيل الحق والرشاد والمنهج السوي، وقوله: ﴿وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِ﴾، يعني البينات الدالة على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه، والفرقان هو الفصل بين الحق والباطل ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ لِتُخۡرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِ رَبِّهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَمِيدِ ١﴾ [إبراهيم: 1]. ﴿كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١﴾ [هود: 1]. ﴿كِتَٰبٞ فُصِّلَتۡ ءَايَٰتُهُۥ قُرۡءَانًا عَرَبِيّٗا لِّقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ ٣ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ ٤﴾ [فصلت: 3-4]. ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَكٞ لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ٢٩﴾ [ص: 29]. يدل على أن الكتاب إنما يعني به مجموع المكتوب في المصحف الإمام لسبق علم الله بجمعه فلا ينطبق هذا الوصف بهذا الاسم على سورة مفردة من سوره كسورة ﴿لِإِيلَٰفِ قُرَيۡشٍ ١﴾ أو سورة ﴿إِنَّآ أَعۡطَيۡنَٰكَ ٱلۡكَوۡثَرَ ١﴾.
إذ لولا هذا الجمع للقرآن الذي هو من واجب هذه الأمة ومن ضرورات حفظهم لدينهم وكتاب ربهم لذهب وتفرق وتمزق وزالت الثقة، لاحتمال دخول فيه ما ليس منه، كما دخل في الكتب قبله، ولو أهمل الصحابة جمْعه لصاروا آثمين.
وكان أول ما أنزل الله من وحيه الأمر بالكتابة فقال سبحانه: ﴿ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ ١ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ ٢ ٱقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ ٣ ٱلَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ ٤ عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ ٥﴾ [العلق: 1-5].
وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه مما يتعلق بترك أبي بكر المبادرة بإجابة عمر إلى جمعه، وذلك أن بعض المسائل المستغربة تحدث زمن الصحابة ومن بعدهم فجأة فتتفرق الآراء وقد ينسون فيها حكم الله وهو معهم لكنه يغيب عنهم حال المحاضرة، ثم يعود إليهم بغوص أحدهم إلى استنباط العلم به، فمن ذلك موت النبي ﷺ قد أنكره الكثيرون وارتدت العرب من أجله، وقالوا: لو كان نبيًّا لم يمت، وكان أبو بكر غائبًا بالسُّنْح في عوالي المدينة عند زوجة له، فلما سمع بالخبر جاء فكشف عن وجه النبي ﷺ وقبَّله وقال: ما أطيبك حيًّا وميتًا، ثم صعد المنبر فأقبل الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡٔٗاۗ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ ١٤٤﴾ [آل عمران: 144].
قال عمر: فلما سمعت الآية انقطع لها ظهري كأني لم أسمعها قبل اليوم وتحققت أن رسول الله ﷺ قد مات، فما بقي رجل ولا امرأة في المدينة إلا يتلو هذه الآية بعد استنباط أبي بكر لها. والحكماء يحبون الرأي الخمير ويكرهون الرأي الفطير.
وأما عدم جمع النبي ﷺ للقرآن في حياته، فإن الأمر فيه معقول، وذلك أن القرآن ينزل تدريجيًا منجمًا على حسب الوقائع وقد استحر نزوله وتتابع قرب وفاة رسول الله ﷺ فنزل عليه وهو واقف بعرفة ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3]. وليس بعد التمام إلا النقص وذلك في حجة الوداع، وأخذ يودع الناس فيها ويقول: «لَعَلَّكُمْ لَا تَلْقَوْنِي بَعْدَ عَامِي هَذَا»[65] فسميت حجة الوداع من أجل ذلك.
ثم أنزل الله عليه في أوسط أيام التشريق سورة النصر ﴿إِذَا جَآءَ نَصۡرُ ٱللَّهِ وَٱلۡفَتۡحُ ١ وَرَأَيۡتَ ٱلنَّاسَ يَدۡخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفۡوَاجٗا ٢ فَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ وَٱسۡتَغۡفِرۡهُۚ إِنَّهُۥ كَانَ تَوَّابَۢا ٣﴾ [سورةالنصر]. ففي هذه السورة إشعار باقتراب أجل رسول الله ﷺ، كما فسره بذلك ابن عباس، يعني يا محمد إذا جاء نصر الله والفتح: يعني فتح مكة، وكان العرب قد تريثوا في دخول الإسلام إلى فتح مكة ويقولون: إن كان نبيًّا فسيعلو قريشًا ويفتح مكة، وإن لم يكن نبيًّا فستغلبه قريش، فلما فتح مكة عنوة أخذ الناس يدخلون في الدين أفواجًا وسمي عام التسع بعام الوفود، وكان آخر ما نزل عليه من القرآن قوله تعالى: ﴿وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا تُرۡجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا كَسَبَتۡ وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ ٢٨١﴾ [البقرة: 281]. من آخر سورة البقرة، وتوفي رسول الله ﷺ بعدها بتسع ليال، وهذا هو السبب لعدم جمعه للقرآن.
ومثله لما منع العرب زكاة أموالهم وعزم أبو بكر أن يقاتلهم على منعها فعارضه الصحابة على رأيه، وقالوا: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ، إِلَّا بِحَقِّهَا». فقال لهم أبو بكر: إن الزكاة من حق لا إله إلا الله. قال عمر: فعلمنا أنه الحق فاتبعناه، ولما بلغ عمر أن أناسًا يفضلونه على أبي بكر، قام في الناس فقال: أما إني سأخبرك عني وعن أبي بكر: إنه لما مات رسول الله ارتدت العرب بأسرها فمنعت شاءها وبعيرها فاتفق رأينا أصحاب محمد أن أتينا إلى أبي بكر الصديق وقلنا: يا خليفة رسول الله، إن رسول الله كان يقاتل الناس بالوحي والملائكة يمده الله بهم وقد انقطع ذلك اليوم فالزم بيتك فإنه لا طاقة لك بقتال العرب كلهم. فقال: أَوَكلّكم رأيه على هذا؟ قلنا: نعم. فقال: والله لأن أَخِرّ من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن يكون هذا رأيي، أيها الناس إن قل عددكم وكثر عدوكم ركب الشيطان منكم هذا المركب، والله ليظهرن اللهُ هذا الدين على الأديان كلها ولو كره المشركون، قوله الحق ووعده الصدق، ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾ [الأنبياء: 18]. ﴿كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٢٤٩﴾ [البقرة: 249]. وتالله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه واستعنت الله عليهم وهو خير معين[66].
وهكذا سائر ما يقع بين المتقدمين والمتأخرين من الحوادث المفاجئة التي تعزب فيها الأفهام؛ لأن الحفظ يحضر ويغيب ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ والناس يتفاوتون في العلوم والأفهام وفي الغوص إلى استنباط المعاني والأحكام أعظم من تفاوتهم في العقول والأجسام، فتأخذ العيون والآذان من الكلام على قدر العقول والأذهان فيتحدث كل إنسان بما فهمه على حسب ما وصل إليه علمه وعادم العلم لا يعطيه وكل إناء ينضح بما فيه.
فمن واجب الكاتب أن يبدي غوامض البحث بالتحقيق ويكشف مشاكله ودلائله بصناعة التطبيق مع العلم أن المبني على دعائم الحق والتحقيق لن يزلزله مجرد النفخ بالريق؛ لأن الحق مضمون له البقاء وأما الزبد فيذهب جفاء فيكون مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا هوى.
غموض الحق حين تذب عنه
يقلل ناصر الخصم المحق
تضل عن التحقيق فهوم قوم
فتقضي للمجل على المدق
ثم قال: إن عمر بن الخطاب قال في الأذان الأول يوم الجمعة: نحن ابتدعناه بعد وفاة النبيﷺ... إلخ.
فالجواب: أن الأذان الأول يوم الجمعة أول من أمر به هو عثمان بن عفان، حين كثر الناس في المدينة وأراد أن ينبههم على المبادرة إليها بهذا النداء وليس في خلافة عمر، ولم يثبت هذا القول عن عمر، وإنما قال نحو هذه الكلمة في صلاة التراويح جماعة، والأذان هو من ذكر الله عز وجل شرع لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، وقد جاز أن يُؤذَّن للفجر من الليل ليوقظ بذلك النائم وينبه الغافل، والأذان الأول للجمعة يشبه هذا وقد عده الشاطبي صاحب الاعتصام من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع.
ثم إن الأذان يستحب عند الحريق وعند الغيلان وفي أذن المولود، والشريعة الإسلامية مبنية على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، فمصلحته راجحة ومنفعته واضحة ولا يترتب عليه أي شيء من المفاسد، فكما شرع لدخول وقت الصلاة، فقد شرع أيضًا لغير دخولها، إذ هو نداء إلى الصلاة أشبه بالمحتسب يمر بالجلوس وهم غافلون فيقول لهم: قوموا إلى الصلاة بصوت رفيع، أفيقال: إن هذا بدعة؟!
ثم هنا أمور أوجبت الضرورة فعلها وإن لم تكن مفعولة على عهد النبي ﷺ فمن ذلك تعدد الجمعة في البلد الواحد، فإنه لم يكن في عهد النبي ﷺ ولا في بلده تصلى الجمعة إلا في مسجد واحد، وقد أوجبت الضرورة من بعده تعدد الجُمَع من أجل كثرة الناس ليتم قيام الناس بأداء هذا الواجب والضرورة تقدر بقدرها، وهذا مصلحة راجحة ومنفعة واضحة، وهو من المصالح المرسلة الملائمة لمقاصد الشارع، وهو نظير الأذان الأول يوم الجمعة، ومثله استدلالهم بصلاة التراويح ويقولون: إنها بدعة حسنة وهذا خطأ في الفهم وفي التعبير، فإنه ليس في الشرع بدعة حسنة وإن قال به من قاله، بل كل بدعة ضلالة كما أخبر النبي ﷺ بذلك، فإن قوله: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» هو مُنَكَّرٌ مضاف فيعم، ومثله قولهم في صلاة التراويح جماعة: إنها بدعة حسنة.
وصلاة التراويح سنة حسنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً وإقرارًا، ففي البخاري عن عائشة، أن رسول الله ﷺ خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله ﷺ فصلى وصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: «أما بعد، فإنه لم يخفَ عليَّ مكانكم، ولكن خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها» فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك، قال ابن شهاب: ثم كان الأمر كذلك على خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر.
وفي البخاري أيضًا عن ابن شهاب عن ابن الزبير عن عبد الرحمن ابن عبد القاري، أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب في ليلة من رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل ويصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله.
فدل هذا الحديث على أن صلاة التراويح سنة سنها رسول الله ﷺ وأنه إنما امتنع من مواصلة العمل على فعلها بهم جماعة خشية أن تفرض عليهم فيعجزوا عنها، فترك الخروج إبقاء عليهم ورحمة بهم، ولم يقل: إن فعلها جماعة غير جائز، أو إنها بدعة، وقد زال هذا المحذور في تحتمها عليهم بموته ﷺ وبقي الاستحباب، وقد أشار النبي ﷺ إليها بقوله: «مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ»[67] وهي داخلة في عموم قوله ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رواه البخاري ومسلم. وفي قوله: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» متفق عليه. وهذه المغفرة وهذا التكفير إنما يراد بهما مغفرة صغائر الذنوب.
وسميت صلاة التراويح من أجل أنهم يطيلون القيام والركوع والسجود فيها، حتى إنهم يعتمدون على العصي من طول القيام. وهو مأخوذ من قول عائشة: كان رسول الله ﷺ يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يستريح. كما ورد في بعض روايات الحديث.
وقالت: ما كان رسول الله يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يوتر بثلاث. متفق عليه.
فكان الناس في زمن النبي ﷺ يصلونها أوزاعًا متفرقين، الرجل مع الرجل والرجل مع الرجلين والرجل ومعه الرهط زمن النبي ﷺ وزمن أبي بكر، حتى كان زمن عمر، فقال: أما إني لو جمعت هؤلاء على إمام واحد، لكان أمثل، فجمعهم على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وذكر ابن حجر في فتح الباري، أن أبي ابن كعب صلى بهم تلك الليلة ثماني ركعات وأوتر بثلاث، طبق ما فعله النبي ﷺ ولا مشاحة في زيادة عدد الركعات إلى عشرين ركعة، مع اختصار القيام والركوع والسجود كما عليه عمل أئمة المذاهب، إذ هي من التطوّع المطلق الذي لم يقيد بعدد.
والمقصود أن التراويح سنة سنها رسول الله ﷺ قولاً منه وفعلاً، وإقرارًا. فلا يجوز تسميتها بالبدعة الحسنة، وإنما هي سنة حسنة، وكل بدعة فإنها سيئة فلا تقاس على الاحتفال ببدعة المولد الذي لا يزال علماء السنة في كل عصر ومصر ينكرونها وينهون أشد النهي عنها وعن الحضور لها.
وبما أن الناس يتهموننا بالتشديد في إنكار الاحتفال بالمولد النبوي، ويزعمون أنه بدعة حسنة وأنه لا يبالي في إنكاره إلا العلماء النجديون أو من يسمونهم بالوهابيين.
لهذا نورد من أقوال علماء أهل السنة من سكنة الأمصار ما يدل على أن العلماء المحققين قد أنكروا بدعته وعدم سنيته.
منهم السيد محمد رشيد رضا، علامة مصر وصاحب المنار، والمعروف بطول الباع وسعة الاطلاع في العلوم النقلية والعقلية والاعتقادية، ودونك نص السؤال المرفق بالجواب عنه.
سئل محمد رشيد رضا رحمه الله رقم 765 - ص2111- ج5 من فتاوى المنار: هل يجوز للإنسان حضور حفلة مولد النبي ﷺ؟ وإذا لم يحضر، هل يعد كافرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد، أي عند سماع قول مرحبًا بالنبي.. إلخ، هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوة يعقدون حفلات كثيرة في كل سنة وفي أماكن متعددة وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد لها الرحال من أماكن بعيدة ويلقنون الناس في أثناء الحفلات، أن من يحضر المولد ولم يقم عند سماع مرحبًا.. إلخ، فهو كافر! أفتونا مأجورين وأبقاكم الله عونًا للحق.
فأجاب محمد رشيد رضا رحمه الله قائلاً:
ج: سئل الحافظ ابن حجر عن الاحتفال بالمولد النبوي، هل هو بدعة أم له أصل؟ فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن جرد عمله في المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة. ومن لا فلا.
وأقول[68]: إن الحافظ رحمه الله تعالى حجة في النقل، فقد كان أحفظ حفاظ السنة والآثار، ولكنه لم يُؤتَ ما أوتي الأئمة المجتهدون من قوة الاستنباط، فحسبنا من فتواه ما تعلق بالنقل، وهو أن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من سلف الأمة الصالح من أهل القرون الثلاثة التي هي خير القرون بشهادة الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ومن زعم أنه يأتي في هذا الدين بخير مما جاء به رسول الله ﷺ وجرى عليه ناقلو سنته بالعمل، فقد زعم أنهﷺ لم يؤد رسالة ربه كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى وقد أحسن صاحب عقيدة الجوهرة في قوله:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
وأما قول الحافظ: إن من عمل فيه المحاسن وتجنب ضدها، كان عمله بدعة حسنة ومن لا فلا، ففيه نظر، ويعني بالمحاسن قراءة القرآن وشيء من سيرة النبي ﷺ في بدء أمره من ولادته وتربيته وبعثته، والصدقات وهي مشروعة لا تعد من البدع، وإنما البدعة فيها جعل هذا الاجتماع المخصوص بالهيئة والوقت المخصوص وجعله من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع، بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أنه من أعمال القرب المطلوبة شرعًا، وهو بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى، وزيادة فيه وتعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم، فكيف إذا وصل الجهل بالناس إلى تكفير تاركه، كأنه من قواعد العقائد المعلومة من الدين بالضرورة؟ أليس يعد في هذه الحال وبين هؤلاء الجهال من أكبر كبائر البدع التي قد تقوم الأدلة على كونها من الكفر بشرطه؟ فإن الزيادة في ضروريات الدين القطعية وشعائره كالنقص منها يخرجه عن كونه هو الدين الذي جاء به خاتم النبيين عن الله تعالى، القائل فيه: ﴿ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ﴾ [المائدة: 3]. فهو تشريع ظاهر مخالف لنص إكمال الدين وناقض له، ويقتضي أن مسلمي الصدر الأول كان دينهم ناقصًا أو كفارًا. وقد ورد أن أبا بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم قد تركوا التضحية في عيد النحر لئلا يظن الناس أنها واجبة، كما ذكره الإمام الشاطبي في الاعتصام (ص276) وغيره، أفلا يجب بالأولى ترك حضور هذه الحفلات المولدية، وإن خلت من القبائح واشتملت على المحاسن لئلا يظن العوام أنها من الفرائض التي يأثم فاعلها أو يكفر تاركها، كما يقول بعض مبتدعة العلويين الجاهلين المذكورين في السؤال؟ فكيف إذا كانت مشتملة على بدع ومفاسد أخرى كالكذب على رسول الله ﷺ في سيرته وأقواله وأفعاله، كما هو المعهود في أكثر القصص المولدية التي اعتيد التغني بها في هذه الحفلات؟
وأما القيام عند ذكر وضع أمه له ﷺ وإنشاد بعض الشعر أو الأغاني في ذلك، فهو من جملة هذه البدع، وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويون على كتبه في دينهم، فقال عند ذكر الإنكار على من يقوم عند قراءة: ﴿أَتَىٰٓ أَمۡرُ ٱللَّهِ فَلَا تَسۡتَعۡجِلُوهُ﴾ [النحل: 1]. لما ورد في ذلك سبب قد زال ما نصه: ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده ﷺ ووضع أمه له من القيام وهو أيضًا بدعة لم يرد فيه شيء على أن العوام إنما يفعلون ذلك تعظيمًا له. انتهى.
فهذا ملخص كلام علماء الإسلام وأن الاحتفال بالمولد بدعة ويقود إلى بدعة أخرى وهي الاحتفال بالنعم، لكون البدع يقود بعضها إلى بعض.
واعلم أن كل بلد لا يؤمر فيها بالمعروف ولا ينهى فيها عن المنكر وليس فيها رقابة دينية تمنع محدثات البدع والمنكرات، فإنه من اللازم أن تنشأ فيها المذاهب الهدامة والبدع المنحرفة والملل والنحل المختلفة، لكون السكوت عن مثل هذه الأشياء هو مما يسبب إنشاءها وفشوها وانتشارها والوقاية خير من العلاج والدفع أيسر من الرفع، أما إنكار البدع والمنكرات فإنه مما يقلل فشوها وانتشارها وقمع المؤسسين لها، والله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251]. يقول الله: ﴿وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِيَآءُ بَعۡضٖۚ يَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ سَيَرۡحَمُهُمُ ٱللَّهُ﴾ [التوبة: 71]. وقد ضرب النبي ﷺ مثلاً لعمل المنكرات والمخالفات والسكوت عنها أو الأخذ بأيدي من فعلها. ففي البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي ﷺ قال: «مثل القائم في حدود الله - أي الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر - والواقع فيها - أي الذي يعمل المنكرات والمخالفات - كمثل قوم استهموا سفينة فكان بعضهم في أعلاها - أي السطح - وبعضهم في أسفلها - أي الخن - فأراد الذين في أسفلها أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه الماء من عندهم قال: فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا». وهذا المثال مطابق للواقع وأنه يخشى أن يغرق الناس في المنكرات ثم في العذاب عليها عند سكوتهم عنها ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗ﴾ [الأنفال: 25].
وقد امتن الله على المسلمين في القرون الوسطى، أي القرن السابع والثامن بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية رحمه الله فقد نشأ في عصر اضطراب وقلق، وكان المسلمون عرضة لغارات الصليبيين والتتار، وكانوا متفرقين في النزعات والمذاهب والآراء، فحمل ابن تيمية رحمه الله راية الإسلام بالحجة والبيان والسنة والقرآن والسيف والسنان، مما يجعله في مقدمة الأبطال الذين جاهدوا في الله حق جهاده، فهو بطل دين وعلم ومن أعلام الفكر العالي، قد اجتمع فيه سعة العلم وصحة العقيدة وعزة الإيمان حتى أنطق الله ألسنة الناس بتسميته شيخ الإسلام.
ولم يسجل التاريخ في مشارق الأرض ومغاربها بعد رسول الله ﷺ وخلفائه وأصحابه أكثر مما سجل له من قوة الإبداع وتجلية الحق والبصيرة في النقد والعدالة في الحكم ومطابقة النقل للعقل، وحتى النصارى فقد شاركوا المسلمين في التراجم الواسعة في فضله وسعة علمه وذكائه، ثم تصدى لمحاربة سائر البدع على اختلاف أنواعها، فغزاها في عقر دارها وفند آراء المؤيدين لها، كما فند آراء الذين يستشفعون بالمقبورين من الأنبياء والصالحين، وكما رد على القدرية القائلين بالجبر ونفاة المشيئة والقدرة عن الله، وكما رد على الجهمية نفاة الصفات ونفاة الكلام، القائلين بخلق القرآن، قائلاً: إن الكلام صفة كمال والله موصوف بالكمال، وقال: إن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن لله ذاتًا لا تشبه ذات المخلوقين، فكذلك له صفات لا تشبه صفات المخلوقين، ﴿لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١١﴾ [الشورى: 11]. وكما رد على الفلاسفة وعلى الصوفية وعلى أهل الكلام والمنطق، وكما رد على النصارى وعلى الشيعة في كتابة منهاج السنة وهو دائرة علوم إسلامية، فاستطاع إقناع كل طائفة بالدليل القاطع حتى من قواعدهم أنفسهم، فهدم أصول الفلسفة بفؤوس الفلسفة وأهل التصوف بنفس التصوف وأهل الكلام بمعرفة علوم أهل الكلام، فرد على كل فريق بما استحقه من قول الحق ونصيحة الخلق، لأنه رحمه الله قد نهل من كل مناهل العلوم والمعرفة، فهو ذو الخبرة الدقيقة في فهم الحديث رواية ودراية، والمعرفة التامة بالرجال وطبقاتهم وجرحهم وتعديلهم وهو البصير بالتفسير واستنباط معاني كتاب الله بالفهم الدقيق.
وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين ومذاهب الأئمة الأربعة وتمييز الصحيح من الضعيف من أقوالهم، فلا يوجد له فيه نظير، وكذا معرفته بالملل والنحل وأصول أهل الكلام وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، وحسبنا شهادة الذهبي في وصف حالته في حياته وهو المطيل لصحبته وإدمان محبته.
قال الذهبي رحمه الله فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة، ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، قال ما نصه:
كان يقضى من شيخ الإسلام بالعجب، إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل لها ورجح، فما رأيت أسرع انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه.
وأما أصول الديانة ورد أقوال المخالفين، فكان لا يشق غباره فيها، ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوَّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم.
قال: ومن خالطه وعرفه فقد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، تعتريه حدة ولكن يقهرها بالحلم، ولم أر مثله في ابتهاله واستغاثته وكثرة توجهه إلى ربه، وكان مع سعة علمه وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر، تعتريه حدة في البحث وغضب وشظف للخصم، تذرع بسببها عداوة في النفوس، وإلا فلو لاطف خصومه لكان كلمة إجماع، وإن كبار العلماء خاضعون لعلومه معترفون بندور خطئه، وإنه بحر لا ساحل له وكنز لا نظير له، وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع لا يؤتى من سوء فهم، فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم، فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين ولا ينفرد بمسألة بمجرد التشهي بدون دليل، بل يحتج بالقرآن وبالحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فله أجر على خطئه وأجران على إصابته. انتهى (ج1 - ص150).
وأقول: لقد حاول حساده من المعاصرين له، ممن يرون في أنفسهم أنهم أكبر سنًّا وقدرًا منه أن يقمعوا نور علمه وتعاليمه بالقوة، وأن يطفئوا نور الله الذي آتاه بالوشاية به إلى السلطان التي أوجبت دخوله السجن مرة بعد أخرى، وقد أغلظ عليه السبكي بالكلام على فتواه بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد يقع طلقة واحدة، وأن اليمين بالطلاق هي يمين مكفرة وليست بطلاق فبالغ السبكي في الرد عليه وتخطئته في ذلك.
ولما كتب الذهبي إلى السبكي، يعاتبه على تحامله بالكلام على شيخ الإسلام فأجابه السبكي قائلاً:
وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين، فالمملوك يتحقق كبير قدره وغزارة بحره وتوسعه في العلوم العقلية والنقلية وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائمًا وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل مع ما جمع الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه لا لغرض سواه وجريه على سنن السلف وأخذه في ذلك بالمأخذ الأوفى وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان. انتهى. (ج1 - ص151).
ومثله أبو حيان، فقد كان يحب شيخ الإسلام ويعترف بفضله وسعة علمه، وقد امتدحه بأبيات، منها:
لما أتانا تقي الدين لاح لنا
داع إلى الله فرد ماله وزر
حبر تسربل منه دهره حبرا
بحر تقاذف من أمواجه الدرر
قام ابن تيمية في نصر شرعتنا
مقام سيد تيم إذ عصت مضر
فأظهر الحق إذ آثاره اندرست
وأخمد الشر إذ طارت له شرر
ثم إن أبا حيان بعد هذا الكلام ناظر شيخ الإسلام في مسألة نحوية، فقال أبو حيان: إن في كتاب سيبويه أن الصواب فيها كذا وكذا، فقال شيخ الإسلام: إن سيبويه ليس بنبي النحو وقد غلط في كتابه في أكثر من ثمانين موضعًا لا تعرفها أنت ولا أبوك. فقام أبو حيان مغضبًا وفارق شيخ الإسلام، وصار يتحامل عليه في تفسيره البحر المحيط عند هذه الكلمة النحوية.
ونتيجة الأمر هو ما قاله عمر بن الوردي، يندب شيخ الإسلام ويعاتب المعادين له، وأن حقيقة الأمر هو الحسد منهم له على ما آتاه الله من فضله فقال:
عثا في عرضه قوم سلاط
لهم من نثر جوهره التقاط
تقي الدين أحمد خير حبر
خروق المعضلات به تخاط
همُ حسدوه لما لم ينالوا
مناقبه فقد مكروا وشاطوا
وكانوا عن طرائفه كسالى
ولكن في أذاه لهم نشاط
والمقصود أن التاريخ الصادق صفى خلاصة محنة شيخ الإسلام وخصومه فأنطق الله ألسنة الناس بتسميته شيخ الإسلام وتقي الدين، فإنه لم يسم بذلك نفسه، وإنما سماه الناس به.
إن أكثر الناس لا يتحمل الصبر على مخالفة رأيه ومذهبه، ويتحامل بالذم على من ارتفع عليه في العلم حسدًا له على ما آتاه الله من فضله، ويضطرب عند مخالفته ولو في مسألة فرعية، لا إنكار في الخلاف في مثلها، فتراه يتحامل باللوم فيفند رأيه ويصغر أمره ويحاول الحط من قدره، ليثبت في نفوس العوام عدم الاعتداد بقوله، ولا يزال هذا الحسد موجودًا في الناس من قديم الزمان وحديثه.
ومن العجب أنه لا يزال يوجد أناس يتظاهرون لعداوة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما نسبوا عن رجل من أهل الخليج، وأنه في خاصة هذا الزمان أحرق كتب شيخ الإسلام عداوة وحقدًا، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على تخلق فاعله بالإلحاد العريق والجهل العميق.
كم سيد متفضل قد سبه
من لا يساوي طعنة في نعله
إن مكتبات المسلمين وحتى مكتبات النصارى مملوءة من كتب شيخ الإسلام، فلن يبرد غلة هذا الملحد ما صنعه من إحراق كتبه، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطۡفُِٔواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨﴾ [الصف: 8].
يا محنة الإسلام والقرآن من
جهل الصديق وبغي ذي طغيان
وأخو الجهالة في خفارة جهله
والجهل قد يأتي من الكفران
تبًّا لهاتيك العقول فإنها
والله قد مسخت على الأبدان
قل لي متى سلم الرسول وصحبه
والتابعون لهم على الإحسان
من جاهل ومعاند ومنافق
ومحارب بالبغي والطغيان[69]
* * *
[47] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية. [48] أخرجه أبو نعيم في الحلية بنحوه من حديث علي. [49] أخرجه الترمذي من حديث أنس وقال: حسن صحيح. [50] أخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما. [51] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [52] سبكناه: من السبك. [53] لجينا: الفضة. [54] أخرجه أحمد من حديث أبي سعيد الخدري. [55] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [56] أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس. [57] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث العرباض بن سارية. [58] أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله. [59] أخرجه أبو داود من حديث العرباض بن سارية. [60] متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود. [61] أخرجه مسلم من حديث جرير. [62] أخرجه مسلم من حديث جرير. [63] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمر، والطبراني في الأوسط من حديث أنس بن مالك. [64] أخرجه البخاري من حديث زيد بن ثابت. [65] أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث جابر. [66] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [67] أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي ذر. [68] هذا من قول محمد رشيد رضا. [69] هذا الشعر للعلامة ابن القيم من كتابه الكافية الشافية.