متقدم

فهرس الكتاب

 

(3) الأحكام الشرعية ومنافاتها للقوانين الوضعية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي وفق من أراد هدايته للإسلام، فانقادت للعمل به الجوارح والأركان، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة من قال ربي الله ثم استقام. وأشهد أن محمدًا نبيه ورسوله سيد الأنام.

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه البررة الكرام وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

فإن الله سبحانه أنزل كتابه المبين وبعث رسوله محمدًا الصادق الأمين رحمة للعالمين وهدى للناس أجمعين.. فجاء بدين كامل وشرع شامل صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان، فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه وانقادوا لحكمه وتنظيمه ووقفوا عند حدوده ومراسيمه لصاروا به سعداء، وقد سماه الله شفاء لعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم، فقال سبحانه: ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].

كما وصف رسوله بأنه رحمة للعالمين -أي الخلق أجمعين- فقال سبحانه: ﴿َمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [الأنبياء: 107]. كما أنه دين الخلق أجمعين.. قال سبحانه: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا [سبأ: 28]. ﴿قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا [الأعراف: 158]. وكتب سبحانه الرحمة والفلاح الذي هو الفوز والنجاح بخير الدنيا والآخرة لمن تمسك بهديه وحكم بشريعته.. فقال سبحانه: ﴿وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ فَسَأَكۡتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤۡمِنُونَ١٥٦ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ فَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِهِۦ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ مَعَهُۥٓ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ١٥٧ [الأعراف: 156-157].

فبما أن محمدًا رسول الله وخاتم المرسلين، فكذلك شريعته هي خاتمة الشرائع، فلا يجوز لأحد أن يحكم أو يتحاكم إلى غير شريعته، ولما رأى النبي ﷺ في يد عمر قطعة من التوراة قال له: «يَا عُمَرُ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَلَو كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي»[45].

كما قيل من أن عيسى عليه الصلاة والسلام متى نزل في آخر الزمان فإنه يحكم بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وهو معدود من أمته.

وقد نصب سبحانه شريعة الإسلام لجميع الناس في الدنيا بمثابة الحكم القسط تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع وهو القرآن والسنة. يقول الله سبحانه: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ٥٩ [النساء: 59].

وقد اتفق العلماء على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إلى سنته. فهما ميزان القسط التي توزن بهما الأقوال والأعمال ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36]. ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

إن لسلفنا الصالح من الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين الفخر العميم والفضل العظيم، حيث بنوا للناس مجدًا شامخًا من فقه دين الشريعة الإسلامية المستنبط من نصوص الكتاب والسنة، وما تشتمل عليه من العقائد والقواعد والأحكام وأمور الحلال والحرام، قد بذلوا في تصحيحها وتمحيصها غاية جهدهم ونهاية وسعهم على حسب المناسبات.. فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام.

وقد قام بوضعها وأسس نظمها عدول أعلام وجهابذة علماء الإسلام، فأفنوا أعمارهم في سبيل الحفاظ على فقه هذا الدين وعلى صيانة هذا الكنز الثمين وعلى تهذيبه وتربيته وتبويبه، بحيث يدخل على كل قضية من بابها ويقف على حقيقة العلم بها من وسائلها وأسبابها، فانتفع الناس بعلمهم وحمدوا عاقبة أمرهم، وذلك من لدن عصر نزول القرآن إلى هذا الزمان، فنجح به كل من جرب العمل بموجبه.. فهو كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، فلا تقع مشكلة ذات أهمية من مشكلات العصر إلا وفي الشريعة الإسلامية طريق حلها وبيان الهدى من الضلال فيها. كما أنه لا يأتي صاحب باطل بحجة باطلة إلا وفي الشريعة الإسلامية ما يدحضها ويبين بطلانها.

ولقد مر على هذه الأنظمة الشرعية أكثر من ثلاثة عشر قرنًا وكل علماء المذاهب الأربعة متفقة على العمل بأصول عقائدها وقواعدها وفرائضها وفضائلها وحدودها وحلالها وحرامها، وليس فيها مادة واحدة يمكن حذفها ولا موضع واحد يحتاج إلى تعديل أو تبديل أو تغييره بغيره أو إزالة شيء من قوانين الشرع عن مكانه أو إلغائه للاستغناء عنه.. فهي باقية ما بقي الدهر صالحة لكل زمان ومكان لا تتغير بتغير الزمان والأحوال.

بينما القوانين الوضعية قد وُضِعت مرارًا وغُيِّرت مرارًا تمشيًا مع رغبة أهلها وتطوير أحوالهم وتغيير عاداتهم، وقد اعترف بذلك علماؤهم وقد أصبحوا اليوم فوضى حيارى ليس لهم دين يعصمهم ولا شريعة تنظمهم، ويتمنى الكثير منهم الرجوع إلى شريعة الإسلام لتنقذهم من مهالكهم وفوضى مدنيتهم.. ولا يزال ينكشف لهم عامًا بعد عام ضرورة حاجتهم إلى العمل بشريعة الإسلام. كما عملوا بها في إباحة الطلاق الذي هو محرم في شريعتهم، ويطالب بعضهم الآن بإباحة التعدد للزوجات وكذا الحكم بتحريم الخمر رجوعًا إلى شريعة الإسلام وكانوا يرونه مباحًا في عقيدتهم، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.

ولما ظهرت بدعة الشيوعية الاشتراكية، ضج من الخوف منها جميع الدول الكبرى، مثل: إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وأمريكا، خوفًا من أن تقوض تجاراتهم ومصانعهم وشركاتهم.. فأصدرت إنجلترا قرارًا في إحدى مجلاتها قائلة: إنه لا يستطيع أحد أن يقوم في وجه هذه الفكرة مع كثرة أنصارها وأعوانها سوى شريعة القرآن الذي فيه ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ [النحل: 71]. وفيه ﴿وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗا [الزخرف: 32]. وإنه يجب تعميم إدخال هذه الفقرات في سائر المدارس النصرانية حتى يتعلمها الشباب والشابات.

كما أنهم في هذا الزمان لما ابتلوا بالكوارث والفتن وانتشار الفواحش من القتل والنهب والسرقات وهتك الأعراض واختطاف النساء والأولاد وحرق الحوانيت المملوءة بالأموال والتجارات، أخذوا ينادون ويندبون شريعة الإسلام ويقولون: سلام الله على دين الإسلام الذي يحكم بقتل القاتل وقطع يد السارق والقبض على أيدي الجناة ويجعل الناس آمنين في دورهم وأوطانهم.. لأن الناس اليوم يتخبطون في ظلمات من الشقاوة وفنون من الجاهلية والهمجية وقد غرقوا في بحار التحلل وعبادة المال وبعدوا كل البعد عن ساحل السلامة ووسائل الراحة والنجاة.

لكون دين الإسلام هو دين البشرية كلها، عربهم وعجمهم ويهودهم ونصاراهم، فهو الكفيل بعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.

إن الشريعة الإسلامية هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، لأنها تهذب الأخلاق وتطهر الأعراق وتزيل الكفر والشقاق والنفاق ومدارها على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.. فهي مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض.

ومتى استعرض العاقل المقاصد العالية التي هدى إليها القرآن والسنة والتي هي معرض اهتمام العلماء والعقلاء في هذه الأزمنة يجدها تدور على إصلاح الأفراد وإصلاح المجتمع وإصلاح العقائد وتطهيرها عن الشرك والبدع والخرافات، وإصلاح العبادات وإصلاح الأخلاق والمعاملات وإصلاح الشؤون الزوجية بما يسمونه الأحوال الشخصية، وإصلاح نظام القضاء والسياسة الحكيمة وإصلاح الشؤون المالية ومراعاة تثميرها بحسن تدبيرها وعدم تبذيرها، وتوسعة التجارات ورقيها في سبيل حلها مع أداء واجباتها.. وإصلاح الشؤون الحربية واحترام العهود ووجوب الوفاء بها، وفضل الصدق والأمانة وتحرير العقول والأفكار في سبيل ما ينفعها ودفع ما يضرها ومحاربة الجرائم على اختلاف أنواعها.

كما شرع القصاص والحد والتعزير لمصلحة استتباب الأمن وحصول السعادة والراحة لجميع المواطنين الذين يعيشون في ظل الشريعة الإسلامية وينتفعون ويتمتعون بالعمل بها.

وقد دخلت هذه الأعمال كلها في فقه الإسلام من كتاب الله العظيم وسنة رسوله عليه أفضل الصلاة والتسليم.

فهذا هو دستور المسلمين وقانون فرائضهم وفضائلهم ومنهاج سيرتهم وسيرهم، يستضيئون فيه بنور الله ويحكمون بما أنزل الله.. يقول سبحانه: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50].

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا والمحاكم الشرعية مفتوحة في مشارق الدنيا ومغاربها، يتحاكم جميع الناس إليها، مسلمهم وكافرهم، ويقومون راضين بحكمها لاعتبار أنها محاكم شرعية عدلية دينية ومحاكم راحة ورحمة، فهم يعتزون بها حتى إن بعض ملوك المسلمين يسمون أنفسهم عبيدًا للشريعة.

كما شكا رجل إلى صلاح الدين الأيوبي خصمًا له. فقال صلاح الدين: لقد نصبنا المحاكم الشرعية لتحكم بينك وبين خصمك، لك أو عليك، وما أنا إلا عبد للشريعة أنفذ ما تحكم به.

ومن المشاهد بالاعتبار أن للقضاء الشرعي سيطرة فعالة على قلوب الناس وأن الناس يخضعون وينقادون لحكم الشرع لعلمهم واعتقادهم أنه شريعة دينهم فله القوة الفعالة والوازع القوي في نفوس الناس، بحيث يوقف كل أحد على حده ويقنعه بحقه ويقوم الخصم اللدود سامعًا مطيعًا له.

فمتى قيل للخصم اللَّجوج: هذا حكم الله ورسوله؛ وقف على حده وقنع بحقه وعلم بأنه لا مجال للجدل معه، فلا بد للناس من التشريع الإلهي الذي يفوق سائر ما وضعه الناس من الأنظمة والقوانين لكون علم الشريعة وأحكامها محيطًا وكفيلاً بحل جميع مشاكل العالم في حاضرهم ومستقبلهم. أما النظم البشرية، فمهما بلغت من إدراك وتفوق، فإنها لن تكفل للبشر سعادتهم ولا حصول الراحة والأمان والاطمئنان لهم ولا حل مشاكلهم على الوجه الأكمل، بل هي على الضد من ذلك. فإنها بِسَيْرِ أعمالها وقانون أحكامها تنشئ المشاكل وتسهل ارتكاب الجرائم من أجل أنه ليس فيها قصاص ولا حد ولا تعزير، ما عدا السجن الذي يعده أكثر المجرمين بمثابة الراحة عن الكد والتعب.. فالمحاكم الشرعية المبنية على أساس من العلم والعقل والعدل والسياسة الحكيمة، هي أكبر معين للحاكم والأمير، على سياسة مملكته وسيادة رعيته لكونه يتقي بها عذل العوام والإنحاء عليه بالملام فيما يتعلق بالقضاء والأحكام، فيسود بين الناس الأمان والاطمئنان.

إنه قد يوجد في القاضي الشرعي شيء من النقص أو التقصير، إما في العلم أو الحلم أو الجنف في الحكم لكونه بشرًا يعتريه من النقص ما يعتري سائر البشر.. إذ ليس من شرطه الكمال وأي الناس المهذب. فمن الحزم وفعل أولي العزم استبدال من هو أصلح منه به لكون التبديل قد يقتضي التعديل.

أما إبدال شريعة القوانين بشريعة الدين، فإنه يعد من الضلال المبين، ﴿أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 50]. وقد سميت الأحكام بالشرائع واحدها شريعة لقول الله سبحانه: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨ [الجاثية: 18].

وإنما سميت محاكم شرعية لكون الناس يشرعونها: أي يشربون منها ثم ينصرفون راضين بها، وقد أعطي القاضي الشرعي سعة وفرجًا عن الوقوع في الحرج في الحكم متى بذل غاية جهده ووسعه في حكمه. فإن له مع إصابته أجرين ومع خطئه أجرًا، كما ثبت ذلك في القرآن في قضية حكم داود وسليمان وكما ثبت ذلك في الصحيحين والحمد لله الذي جعل في الأمر سعة.

ومن عادة القاضي الشرعي أنه يحتسب راحة الناس بقطع النزاع عنهم، فمتى تبين له الحق وأسفر له صبحه حكم به بدون تأخير وبدون أن يأخذه في الحكم به لومة لائم. وعليه مراعاة تقوى الله فيما تولاه، وأن لا يطمع شريف في حيفه وجوره ولا ييأس ضعيف من عدله، ويخلد كل قضية في السجل لحفظها والرجوع لها وقت الحاجة إليها.

ومن عادة القاضي الشرعي أنه لا يأخذ على قضائه أجرًا إلا ما جُعِل له من بيت المال، ولا ينبغي أن يمنعه قضاؤه وحكمه بالأمس متى تبين له خطؤه، وأن الحق في خلافه أن يرجع عنه، ويستأنف الحكم من جديد فيعطي صاحب الحق حقه حتى ولو بعد حلف المحكوم له، فإن اليمين لا تزيل الحق عن مستحقه، وإنما تقطع النزاع في وقته، بخلاف نظم محاكم القوانين الوضعية، فإنها مؤسسة على تطويل الدعوى وتمديدها بين نقض وإبرام وحكم واستئناف، وقد دخل فيها المحامون الذين يصنعون الدعاوى ويحبون أن تتصل الخصومة ولا تنفصم. وعلى إثر هذا التعليل والتمليل وصرف المال في سبيل اتصال الدعوى سئم الناس منها واشتد بغضهم لها وصار صاحب الحق يتخلى عن حقه الواضح استبقاء لراحته وتوفير ماليته.

إن القضاء الشرعي يتناول الحكم في أمر الدين وفي الأنفس وفي الأموال وفي الأعراض والعقول مع ملائمتها لكل بيئة وكل زمان ومكان؛ لأن شريعة الإسلام وما تشتمل عليه من الأحكام وأمور الحلال والحرام هي شريعة البشر كلهم، عربهم وعجمهم ومسلمهم وكافرهم وما كان هذا الدين ليتحمل أمانة رسالة البشرية كلها إلا وهو يحمل في تعاليمه وأحكامه وقواعده وعقائده ما يجعله كفيلاً وحقيقًا بهذه التسمية لينتهي بالناس إلى أن يكونوا آمنين على دينهم آمنين على أنفسهم، آمنين على أهلهم وأعراضهم آمنين على أموالهم.

أما محاكم القوانين الوضعية، فإنها من البلاء المبين على الناس أجمعين؛ لأنها محض آراء قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الزنا والربا والقمار وشرب الخمر ولا يدينون دين الحق، وهي مبنية على عزل الدين عن الدولة وعلى كون الرضا شريعة المتعاقدين.. فهي تبيح للناس ما حرم الله عليهم من أكل الربا أضعافًا مضاعفة، وكما تبيح الزنا الواقع بالتراضي إذا لم يطالب زوجها أو أحد أقاربها بمنعها، وكما تبيح شرب الخمر إذا لم يتعد بالسكر على أحد.

ومعنى إباحتها لهذه الجرائم: أنها لا تعاقبه عليها بطريق الحكم، بل تحميه وتحكم بصحة ربا النسيئة الذي اتفق الكتاب والسنة وأجمع علماء الأمة على تحريمه، فهي تلزم بدفعه إلى المرابي من بنك غيره. وتبيح لكل ملحد وكافر، بأن يجهر بعقيدته غير محجور عليه في رأيه ويحمونه على ذلك كله، وبذلك تنتشر المذاهب الهدامة والعقائد الباطلة في كل بلد تسودها المحاكم القانونية.

كما ظهرت وانتشرت عقيدة البهائية والقاديانية في الهند تحت حماية الإنجليز لدعوى أنها من حرية الرأي التي يحترمونها. هذا هو الأصل في قانون فرنسا، الذي يقتبس منه الناس قوانين الأحكام في البلدان العربية، وقد يحذف منه شيء ويزاد شيء من الموافقة لشريعة الإسلام، لكنها بمجملها لا تتقيد بحكم شريعة الدين ولا تبالي بمخالفته.

كما أنها لا تعاقب الجناة مهما كبرت الجناية أو صغرت إلا بالسجن.. لهذا تكثر الحوادث في كل بلد تسوده المحاكم القانونية حتى تغص السجون بالجناة.. من أنواع القتل والنهب والسرقة وهتك الأعراض واختطاف النساء والأولاد وتحريق الحوانيت المملوءة بالأموال ويقع بهم ما حذرهم منه النبي ﷺ حيث قال: «ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا»[46].

وهذا بمثابة الدليل القاطع والبرهان الساطع الذي يشهد به الحس والواقع. يقول الله سبحانه: ﴿سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ [فصلت: 53].

وليعتبر العاقل بالبلدان التي أغلقت فيها محاكم شريعة الإسلام، واستبدل أهلها بها محاكم القوانين ولينظر كيف حال أهلها، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق.

ثم لينظر إلى البلدان التي يحكم فيها بشريعة الإسلام، يجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، يتمتعون بعيشة راضية مرضية وأخلاق كريمة زكية، قد فازوا وحصلوا على ما وعدهم به ربهم في قوله سبحانه: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ ١٢٣ [طه: 123].

ثم إن المحاكم القانونية إنما فتحت في البلدان العربية في القرن العشرين الميلادي، الذي ضعف فيه العلم وساد فيه الجهل وامتد سلطان الإنجليز على البلدان العربية ففتحوا هذه المحاكم على كره من أهلها وألزموا الناس بالتحاكم إليها، فأصاب الناس من أكدارها وعموم أضرارها ما لا يحتسبون. والضد يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها.

إن أعداء الإسلام قد شوهوا سمعة شريعة الإسلام، وشنعوا عليها بحكمها بالقصاص بقتل القاتل عند طلب ورثة الدم لذلك. وقطع يد السارق وجلد شارب الخمر والزاني والقاذف والتعزير بالجلد على الجرائم تطهيرًا للفاعل وزجرًا له عن معاودة جريمته وعظة للناس.. فإن خير الناس من وعظ بغيره. وهذه الأعمال تعتبر من محاسن الإسلام وعموم مصالحه.

فهم ينسبون إقامة الحد إلى القساوة والوحشية، وقد جعلها الله تطهيرًا ورحمة، لأن من لا يكرم نفسه لا يُكرم. ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ [الحج: 18]. والمضار الفردية تغتفر في ضمن المصالح العمومية، أشبه بتجريح الطبيب في سبيل صحة المصاب بمرض..

كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأبدان بالعلل
فهؤلاء الذين يعيبون القضاء الشرعي بإقامة الحدود هم قوم يَزِنون الأشياء بموازين عائلة غير عادلة، ويحكمون عليها بعقول معتلة ومختلة لا تميز بين المحاسن والمساوئ، ولا بين المصالح والمفاسد، وهم القوم الذين صنعوا القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين من بين شيوخ ونساء وصبيان وحوامل وبهائم في سبيل الخضوع لحكم جائر.. فهذه هي القساوة والوحشية.

وقد اقتضت سنة الله في خلقه التي تظهر جلية لكل دارس لتاريخ الأمم وأسباب رقيها وسقوطها وانهيارها، أن الدولة التي تصر على المنكرات والمعاصي، وتظهر علانية بدون إنكار منهم أن الله يهلكها في الدنيا بالضعف والشقاق وإثارة الفتن وخراب العمران فتضعف قوتها وتزول منَعتُها ويتمزق شمل ملكها ويستولي عليها من يطمع فيها ويذيقها عذاب الذل والهوان.

إن مما يقوي الرجاء وينشط الأمل حينما نسمع بأن حكام المسلمين، والزعماء المفكرين في حالة المناسبات للجمعيات التي يعقدونها للتذاكر في شؤون أُممهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ومحاربة الجرائم فيما بينهم نراهم يتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان منهم.. وهي أن الأمر الذي فل حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم بالقيام بواجبات دينهم، وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم، وأن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الله.. دين الإسلام، وتمسكهم بأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه وفضائله والتحاكم إلى شريعته.. فإن هذا هو الكفيل بإصلاح دينهم ودنياهم، فهم يتواصون ويتناصحون بهذا ولم يبق سوى التنفيذ.

إذ لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين.. ولا أدري من الذي يحوز قصب السبق ويحظى بالفخر والفضل في التقدم إلى العمل به كي يقتدي به نظراؤه.. والفضل للمتقدم.

فإن وقاية الحكومة ورقيها واعتزازها بالحكم الشرعي الذي يحفظ رعاياها عن التعدي على الحقوق وانتهاك الحدود، إنه أعظم من تسلحها بالعدد الكثير من الحرس والجنود إذ القضاء الشرعي هو من أكبر ما تستعين به الحكومة على سياسة مملكتها وسيادة رعيتها واستقرار الأمن والهدوء في مجتمعها، وتقليل الجرائم في حدود ممالكها، لكون الناس يقتدي بعضهم ببعض في الخير والشر وفي الصلاح والفساد فيسود الأمن والاطمئنان بين جميع الناس فيما بينهم.

ولا ينبغي أن يفوتنا التنبيه بمقتضى ما يتعلق بشأن القضاء والقضاة، وأن القضاء الشرعي أمانة الله في عنق المتولي له وهو منصب شريف.. منصب الأنبياء والخلفاء الراشدين، فقد كان رسول الله ﷺ قاضيًا وأبو بكر قاضيًا وعمر قاضيًا وعثمان قاضيًا وعلي قاضيًا، لكون القضاء في مواطن الحق هو مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر..

فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٞ شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦ [ص: 26].

شرع القضاء الشرعي رحمة للناس وراحة لهم في قطع النزاع عنهم وإزالة الشقاق بينهم وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وردع الظالم ونصر المظلوم.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
فمن واجب القاضي أن يحتسب راحة الناس ورحمتهم بقطع النزاع عنهم وأن يحتسب التبكير في الجلوس للناس ليتمكن من إنجاز القضايا، وأن يفتح باب المحكمة على مصراعيه ليتصل به كل محتاج إليه، ثم يبدأ النظر في قضايا الناس الأول فالأول، كما نص على ذلك الفقهاء في أحكام القضاء، وليعلم أنه كالمستأجر لهذا الشأن عدد الساعات التي يجري بها نظام الحكومة الرسمي.

فهؤلاء القضاة الذين يغلقون أبواب المحاكم عليهم ويتركون الناس خلف الأبواب، يغشاهم الذل والصغار، وربما لا يفتح باب المحكمة إلا بعد مضي ثلاث ساعات أو أربع ساعات من أول النهار، لعدم احتفاله بأمر الناس وضعف الرقابة عليه.. وربما يمضي أكثر وقته في مصالح نفسه الخاصة، فشهر للحج وشهر للعمرة وشهر للمصيف في الطائف، ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام وهو بالحقيقة مستأجر شرعًا وعرفًا لحل مشاكلهم.

فهؤلاء بالحقيقة يعتبرون مخالفين لنصوص مذهبهم ونظام دينهم.. فإن جلوس القاضي في محل عمله لفصل القضاء بين الناس هو أمر واجب عليه وهو مستأجر له، وهو أفضل من تطوعه بحجه وعمرته وصيامه بمكة، لكون هذه ليست بواجبة عليه وقد لا تصح منه والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

تحريرًا في 8 جمادى الآخرة 1397هـ.

* * *

[45] أخرجه أحمد من حديث جابر. [46] أخرجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر.