البيان في حكم التبايع نسيئة بالأوراق الجاري بها التعامل في هذا الزمان
إن للعلماء أقوالاً مختلفة في الحكم في الأوراق المتعامل بها، أي فيما يتعلق بالتعامل بها وفي تحقيق المناط في إلحاقها بشيء من العقود المتعامل بها وفي حكم زكاتها، وفي حكم بيع بعضها ببعض نسيئة.
فبعض الفقهاء ألحقها بالعروض وبعضهم ألحقها بالسند على البنوك.
ويظهر أن هذه الأقوال صدرت منهم حال ابتداء اختراع التعامل بها وعدم الثقة بها في ابتداء أمرها، حيث جعلها بعضهم بمثابة العروض وبعضهم جعلها بمثابة الدين على البنوك الذي لا يثق به حتى يقبضه، فهي سند على نقود دين لم تقبض، هذا حاصل الأقوال منهم حالة ابتدائها وهو اجتهاد منهم يؤجرون عليه غير أن الاجتهاد يتبدل كما قال عمر في مسألة المشركة: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي[37].
إن حاصل الأوراق المالية في ابتداء أمرها حال اختراع التعامل بها كانت تصدرها الحكومات على اختلاف أجناسها، وتلتزم دفع المبلغ المكتوب عليها ذهبًا كان أو فضة، فحامل ورقة الذهب يقبض ذهبًا وحامل ورقة الفضة يقبض فضة من غير تأخير، فجرى العمل بذلك أزمانًا متعددة.
أما الآن وفي هذا الزمان، فقد زال هذا الالتزام؛ لأن الحكومات على اختلاف أجناسها أخذت تسك أوراق العملة بدون ملاحظة لما لديها من ذهب أو فضة، فهي تتمشى على عز الدولة وقوتها وسياستها في نظام تقوية عملتها، مما يقتضي الثقة بها وقبول البنوك لها.
إذ ليس في الإمكان الآن أن تدفع الحكومة ما لديها من ذهب وفضة إلى من بأيديهم الأوراق المتعامل بها، وإنما تحتفظ بالذهب والفضة في خزائنها، مع التزامها لسير عملتها وتعزيزها في التعامل بها كذهب وفضة.
ومن نظر إلى الأشياء بعين المعقول وطبقها على قواعد النصوص والأصول يتبين له بطريق الوضوح أن حكمة التشريع تقتضي جعل هذه الأوراق المتعامل بها بمثابة الذهب والفضة على حد سواء، بحيث تجعل ميزانًا للتعامل كالنقود المعدنية في البياعات وفي الديات وقيم المتلفات وأروش الجنايات وفي دخول الربا عليها ووجوب الزكاة فيها.
وليس عندنا ما يمنع جواز اختراع الناس لنقود من القرطاس أو النحاس أو الرصاص، يتعاملون بها كتعاملهم بالذهب والفضة، لا سيما إذا كانت هذه العملة مضمونة عن طريق الحكومة والبنوك فيتعلق بها من الأحكام وأمور الحلال والحرام ما يتعلق بالذهب والفضة والفلوس على حد سواء.
وبذلك يتبين أن الأوراق المالية على اختلاف أجناسها تقوم مقام الذهب والفضة في المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وينطبق عليها - حكمًا ومعنى - ما ينطبق على بيع الذهب والفضة نسيئة؛ لما روى الخمسة وصححه الحاكم عن ابن عمر، قال: قلت: يا رسول الله، إني أبيع الإبل بالنقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه. فقال رسول الله ﷺ: «لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا، مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ»، وفي البخاري و مسلم عن زيد بن أرقم والبراء بن عازب، قالا: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالورق دينًا. وفي البخاري و مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن النبي ﷺ قال: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ».
وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» يعني هاك وهات[38].
ولهما من حديث عبادة بن الصامت، أن النبي ﷺ قال: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وزنًا بوزن، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ، فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ»، فكل هذه النصوص تتظاهر وتتفق على وجوب الحلول والتقابض حال العقد في النقدين. وإنما خص النبيﷺ الذهب والفضة بالذكر لكونهما المعيار الثابت في التعامل بهما في زمنه، حيث جُعلا قيمًا للأموال والمتلفات والديات وأروش الجنايات وبعض الكفارات.
وليس الحكم مخصوصًا بهما ولا مقصورًا عليهما دون ما يقوم مقامهما ويعمل عملهما في الثمنية؛ لكون الحكمة في منع بيع بعضها ببعض نسيئة لم يكن من أجل نفاستهما أو صلاحيتهما للسبك والتحلي أو جعلهما خزانة نفيسة مدخرة، كل هذا لم يكن مرادًا من مقاصد الشارع، لأن هذه الأشياء لا قيمة لها عند الله وعند رسوله، إذ هي والقرطاس سواء.
وإنما الحكمة هو عموم المصلحة في استقرار العملة وثباتها، بحيث لا تجعل كالعروض تهبط وترتفع ويزول منها الاستقرار والثبات الذي أُريد بها من أثمان المبيعات وقيم المتلفات والديات وأروش الجنايات والكفارات، ولهذا نهى رسول الله ﷺ عن كسر السكة الرائجة بين المسلمين.
وهذا مما يؤيد القول في علة المنع من بيع بعضها ببعض نسيئة، وأنه الثمنية كما هو الظاهر من قول مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، ورجح هذا القول العلامة ابن القيم في الإعلام، وقال: إنه أصوب الأقوال وأعدلها وهو أرجح من قول من قال: إن العلة فيهما كونهما موزونين كما هو الظاهر من مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد.
والقواعد الشرعية والقياس الصحيح يعطي النظير حكم نظيره ويسوي بينهما في الحكم ويمنع التفريق بينهما والاستدلال بالملزوم على لازمه وتعديه هذا الخصوص إلى العموم، لأن الاعتبار في أحكام الشرع هو بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولما قامت الحجة على الناس في سائر أحكام الكتاب والسنة.
كما أن الصحابة رضي الله عنهم يقيسون الأشياء بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويلحقون بعضها ببعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم قاعدة تحقيقه وتطبيقه.
فالشريعة منزهة عن أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو أزيد منها، فإن الله سبحانه على لسان نبيه أوجب الحلول والتقابض في بيع الدنانير بالدراهم ونهى عن بيع بعضها ببعض نسيئة رحمة منه بأمته، ومن المستحيل أن يشرع من التبايع بهذه الأوراق النقدية ما يسقط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حرمه من التوصل إلى الربا - الذي لعن آكله ومؤكله وآذنه بحرب من الله ورسوله وشدد فيه الوعيد - لما يشتمل عليه من المفسدة في الدنيا والدين، ومع هذا يتحايل بعض الناس في التوصل إلى هذا الأمر المحرم بجعل هذه النقود بمثابة العروض التي يسوغ بيع بعضها ببعض نسيئة، وخفي عليهم أن حكم النظير حكم نظيره وإنكار التفريق بين المتماثلين، فلا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود وتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل.
فالذهب والفضة مع الأوراق المتعامل بها وإن اختلفا جنسًا، فقد اتفقا حقيقة ومعنى لاعتبار كل منهما قيمة للأموال وتضمن بالإتلاف، ومتى كان الربوي يشارك مقابله في المعنى فإنه يشاركه في حكمة المنع، إذ لا يمكن أن ينهى رسول الله ﷺ عن بيع الذهب بالفضة دينًا، ثم يرخص فيما يماثلهما ويقوم مقامهما في الثمنية إذ الأحكام الشرعية تعطي النظير حكم نظيره.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإن بيع أوراق العُمَل بعضها ببعض نسيئة هي نفس ما نهى عنه رسول الله ﷺ من بيع الدراهم بالدنانير نسيئة.
لأن التبايع بهذه الصفة يفسد استقرار هذا النقد في الثمنية ويلحقه بعروض التجارة المعرض للارتفاع والهبوط وعدم الثبات والاستقرار، فيختل بذلك نظام التعامل من التقديرات للديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات وبعض الكفارات.
وهذا النهي إنما صدر من الشارع الحكيم الذي هو ﴿عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ ١٢٨﴾ [التوبة: 128]. ولم ينه عن شيء إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، وقد ظهر من ضرر هذا أنه يقود فاعله إلى ربا الفضل ثم إلى ربا النسيئة، ثم يترتب عليه المضرة الكبيرة من تراكم الديون على المعسر لسهولة الاستدانة بهذه الصفة.
ولأن صاحب الدراهم متى انفتح له باب الطمع في بيعها بدراهم مؤجلة خف عليه تحصيل الزيادة عن طريق الربا بدون تعب ولا مشقة، فيعامل بذلك المعسر وغير المعسر، فيفضي إلى انقطاع منافع الناس بالتجارات والأرباح المباحة، وينقطع المعروف بين الناس من القرض الذي يراد به الإرفاق والإحسان للمحتاج وقد قيل: إنه أفضل من الصدقة لكونه يقع عن حاجة. وقد أوجب الله إنظار المعسر بقوله: ﴿وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖ﴾ [البقرة: 280]. فقلب الدَّيْن عليه ربًا.
ولأن الناس متى انفتح لهم باب استدانة النقود بالنقود سهل عليهم استدانتها عند أدنى سبب، فتتراكم الديون على الشخص من حيث لا يحتسب، فيقع أولاً في ربا الفضل ثم يقوده إلى ربا النسيئة ثم إلى المأثم والمغرم الذي استعاذ منه النبي ﷺ.
إن المشاهدة في الحاضرين هي أكبر شاهد لتصديق نصوص الدين.
لقد رأينا الذين انتهكوا حرمة هذا النهي فاستباحوا استدانة النقود من البنوك نسيئة رأيناهم قد وقعوا في ربا الفضل ثم قادهم إلى ربا النسيئة، وأخذت البنوك ترابي عليهم وهم نائمون على فرشهم؛ لأن البنوك الآن تعامل الناس بربا النسيئة -أي الجاهلية- الذي حرمه الإسلام ونزل في الزجر عنه كثير من آيات القرآن ولعن رسول الله ﷺ آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه من بين الأنام، وحقيقته أنه متى حل الدين وعجز عن الوفاء قالوا له: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيزيد من الربح ويمد له في الأجل حتى يصير القليل من الدين كثيرًا، ولهذا يكفر مستحل هذا الربا عند جمهور العلماء ولم يحرمه الله ورسوله إلا رحمة بالأمة لكونه يقوّض بالتجارات ويوقع في الأزمات والحاجات ويهدم بيوت الأسر والعائلات[39].
وقد شوهد بالاعتبار أن كثيرًا من التجار الذين كانوا يخوضون في استدانة النقود من البنوك بلا مبالاة، لقصد التوسع في التجارات رأيناهم يجرون الويلات على أثر الويلات من جرّاء أضرار المراباة.
إذ قد يعرض لهم ما يفاجئهم من كساد التجارات وعدم إنفاقها في سائر الأوقات، أضف إليه ما يعرض لهم من حوادث الزمان فيعجزون عن وفاء ما عليهم من الديون فتضاعف عليهم البنوك على سبيل التدريج ما استدانوه حتى تستأصل حاصل ما بأيديهم من الأموال والعقارات، وصدق الله العظيم ﴿يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِ﴾ [البقرة: 276]. ولهذا حمى النبي ﷺ هذا الحمى وسد الطرق التي تفضي إليه فحذر عن مقاربته رحمة منه بأمته ولا يجني جان إلا على نفسه وكل امرئٍ بما كسب رهين.
وسر الحكمة أن من قال بجواز بيع أوراق العملة بعضها ببعض نسيئة، واعتبرها كعروض، فقد فتح للناس باب الربا على مصراعيه وأباحه لهم بنوعيه وقادهم إلى فعل ما نهاهم عنه رسول الله.
لكن ها هنا أمر ينبغي أن لا نغفل عنه لعموم البلوى به.
وهو أن التجار الذين يستوردون أصناف البضائع من الخارج مثل البلدان الأوروبية وأمريكا واليابان والصين والهند وغيرها، فإنهم بداعي الضرورة يحتاجون إلى فتح اعتماد عن طريق أحد البنوك فيشترون النقود التي يريدون تحويلها بما يسمونها العملة الصعبة من البنوك، بحيث تدفع في محل ما يستوردون منه البضائع بنقود حاضرة ويأخذ صاحب البنك عليها شيئًا من النقود اليسيرة في سبيل قيامه بإجراء عملية التحويل كأجرة.
وهي نفس قضية شراء النقود الغائبة بنقود حاضرة لكنها أقل منها ضررًا وخطرًا لأنها ليست من البيع بالنسيئة الذي نهى عنه النبي ﷺ وإنما هي من باب شراء نقود بنقود حاضرة ثم إجراء عملية التحويل في هذه النقود إلى البلد الذي يريده.
فلو قيل بالمنع لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم وكسدت تجاراتهم، إذ من المعلوم أن السفر بالنقد ممنوع.
ومن نصوص الفقه أن الضرورة تقدر بقدرها، وإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير ويجوز ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما.
لهذا نرى أنه لا بأس لهؤلاء التجار من شراء النقود الغائبة بالنقود الحاضرة لدعاء الحاجة إلى ذلك، فيشتري من النقود قدر حاجته قليلاً كان أو كثيرًا، كما يجوز للتاجر والصراف البيع عليه بهذه الصفة وتكون هذه القضية كالمستثناة للضرورة لثبات الرخصة الشرعية في أشياء من ربا الفضل مما تدعو إليه الحاجة، كبيع العرايا بخرصها من التمر مع جهالة التماثل وكبيع السيف بفضة، إذ لو قلنا بالمنع تمشيًا مع النهي بدون نظر إلى الضرورة لتعطلت أعمال الناس ومعاملاتهم[40]. والله أعلم.
[37] أخرجه الدارقطني والدارمي والبيهقي في الكبرى. [38] قد حصل الخلاف قديمًا بين الصحابة في بيع الربوي بجنسه متفاضلاً إذا كان حاضرًا، كصاع تمر بصاعين. وممن روي عنه القول بذلك ابن عمر وابن عباس، واستدل ابن عباس على الجواز بما روى البخاري في صحيحه، عن أسامة بن زيد، أن النبي ﷺ قال: «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ» ورواه مسلم في صحيحه بلفظ: «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ولما حدثهم أبو سعيد الخدري بقول النبي ﷺ: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ» وحدثهم بقصة العامل حين جاء إلى النبي ﷺ بتمر جنيب، فقال رسول الله ﷺ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» قال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، فقال رسول الله ﷺ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا»، فعند ذلك رجع الصحابة كلهم إلى قول أبي سعيد حتى ابن عباس، فقد شك بعضهم في رجوعه، والصحيح أنه رجع، وقال: أنتم أعرف منا بهذا أستغفر الله. ثم كان ينهى عنه أشد النهي. قاله في فتح الباري. والجمع بين هذا الحديث وبين حديث «لَا رِبًا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ»، أي الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد هو في ربا النسيئة كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد. مع أن فيها علماء غيره، ومنه: لا سيف إلا ذو الفقار. و: لا فتى إلا علي. ومثل حديث: «لَا صَلَاةَ بِحَضْرَةِ طَعَامٍ»، فهو نفي الأكمل لا نفي الأصل. على أن حديث أسامة مفهوم وحديث أبى سعيد منطوق والمنطوق مقدم على المفهوم. قاله في الفتح. [39] قال العلامة ابن القيم في الإعلام: الربا نوعان: جلي وخفي، فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم. والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، إذا حل الدين قالوا: إما أن تقضي وإما أن ترابي، فيؤخر قضاء دينه من أجل عسرته ويزيده في المال وكلما أخّره زاده في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق للدين يصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له أو عوض يقبضه ويزيد مال المرابي فيأكل مال أخيه بالباطل، فمن رحمة الله وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم هذا الربا ولعن آكله ومؤكله وآذن متعاطيه بحرب من الله ورسوله ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره؛ ولهذا كان من أكبر الكبائر. انتهى (الإعلام: ص265/ج2). [40] قال العلامة ابن القيم في الإعلام (ص267- ج2): وأما ربا الفضل فتحريمه من باب سد الذرائع فمنعوا منه لما يخاف عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا دراهم بدراهم أكثر منها تدرّجوا بالربح المعجل فيها إلى الربح المؤخر وهو عين ربا النسيئة فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة وهذه حكمة معقولة تسد عليهم باب المفسدة، وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان أي النقود بجنسها متفاضلاً أو نسيئة؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ويقودهم إلى ربا النسأ في الجنس والجنسين وربا الفضل في الجنس الواحد وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر أي ربا الفضل تحريم الوسائل وسد الذرائع ولهذا لم يُبَح شيء من ربا النسيئة. أما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو الحاجة إليه كالعرايا؛ لأن ما حرم سدًّا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، بل إن ما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال سدًّا لذريعة التشبه بالنساء، وقد أبيح منه ما تدعو الحاجة إليه، كما رخص النبي ﷺ للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لباس الحرير من حكّة كانت بهما وكذلك عرفجة بن أسعد، قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من ذهب، وكذا ينبغي أن يباح بيع الحلية المصنوعة صياغة مباحة بأكثر من وزنها وتجعل الزيادة في مقابلة الصنعة.