متقدم

فهرس الكتاب

 

تحديد المدة للاستصناع ووضع الغرامة على ما زاد على المدة المضروبة

إن عقد الاتفاق الواقع على بناء العمارات والبيوت والفنادق والمستشفيات وغيرها قد أدخل فيه المتعاملون قيودًا وشروطًا تخرجه عن حكم الاستصناع الجائز الذي ذكره الفقهاء.

من ذلك تحديد مدة الإنجاز ووضع غرامة على ما زاد على المدة المحدودة عن كل يوم كذا وكذا يدفعها المقاول.

وهذه الغرامة بهذه الصفة لم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة لا الإمام أحمد ولا مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة، وفيها من الأضرار على المقاول ما لا يخفى على عاقل إذ قد تذهب بأعظم مقاولته التي هي بمثابة أجرته وحاصل تجارته، إذ كل المواد الموضوعة في البناء ملك للمقاول.

وقد ذكر الفقهاء من الحنابلة من أنه لا يجوز الجمع بين المدة والعمل في باب الإجارة، وذلك بأن يقول: أريد أن تبني لي دارًا بكذا، بشرط أن تنجز في وقت كذا، لوقوع ما يمنع التنجيز في المدة المضروبة.

وقد قالوا بمنع الجمع بين المدة والعمل في وقت كان البناء فيه سهلاً ميسرًا ولم يكن صعبًا معقدًا.

وحيث إن العادة القديمة في إنشاء المقاولات على البيوت والعمارات وسائر البنايات بأن جميع موادها متساوية متيسرة، بحيث تبنى بالطين والحجارة واللَّبِن وتسقف بالأثل وجريد النخل وتلاص بالطين أو الجص وكل مواد البناء موجودة بداخل البلد أو بمحل العمل والأساتذة والعمال متيسرون وقت الطلب فالبناء كله بسائر أنواعه سهل مبسط غير عسير.

أما الآن وفي هذا الزمان، فقد صارت المقاولات على البنايات ذات الشأن هي من الأمور الصعبة العويصة الشاقة ولا يزال الناس يقومون ويقعدون في المحاكم في خصوص المنازعات والخصومات الناشئة عن الاختلافات في الصفات وتحديد الأوقات وفي الغرامات، ثم إن إدخال الغرامة فيما زاد على المدة المحدودة هي مما أركسها في الجهالة وكانت سببًا في اتساع شقة الخلاف مع الأسباب الناشئة عن عدم التطبيق ودخول الزيادة والنقص والتعديل والتبديل.

وسببه هو أن العمارة الواحدة ذات الشأن والمؤسسة على النظام الحديث يدخل فيها من الآلات والأدوات ما يزيد على خمسين مادة كلها تستجلب غالبًا من الخارج كالبلدان الأوروبية واليابان والهند والصين ونحوها.

مثل الحديد على اختلاف أشكاله وأدوات الكهرباء على اختلاف أنواعها، وكذا السخانات وأنابيب المياه والأدوات الصحية على اختلاف أشكالها، وكذا الأحواض والأصباغ على اختلاف أنواعها والبلاط الثخين والخفيف والأبواب والشبابيك والأسمنت وأشياء كثيرة مما نعرفه وما لا نعرفه.

وكل هذه الآلات والأدوات قد توجد في وقت ولا توجد في وقت آخر مع كونها لا تنضبط غالبًا أوصافها لاختلاف أجناسها.

لهذا رأينا التجار يشكون أزمة تعطيل وصول البضائع التي من جملتها مواد البناء، بحيث يعطون الموعد لوصولها في خلال ستة أشهر، ثم يمضي مع الستة أشهر ستة أشهر أخرى إلى نهاية السنة بدون أن يتحصلوا على وصولها، لأسباب الموانع المقتضية للتأخير من عدم وجود سفن التحميل أو تعطلها أو وقوع إضراب للعمال في بلدها ونحو ذلك.

أضف إلى ذلك أن كل مادة من مواد البناء فإنها تحتاج بطبيعة الحال إلى حذاق وصناع من المهندسين والعارفين لوضع الأشياء في مواضعها اللازمة بها من نجارين وحدادين وصباغين وغيرهم. وليس من الممكن الحصول عليهم وقت طلبهم لكثرة أعمالهم وطلب الناس لهم، فكانوا يعدون الشخص للحضور الأسبوع بعد الأسبوع ومن المعلوم أنه لا يقوم غيرهم مقامهم في إتقان أعمالهم.

وقد لاح الطمع لكثير من المالكين في الغرامة على ما زاد على المدة المحدودة فصاروا يعاملون المقاولين بالترديد والتلديد مما يعرقل سير عملهم بقولهم: هذا لا يصلح وهذا لا يصلح، حرصًا على انسحاب الأيام حتى تزيد على المدة المحدودة فتكثر بسببها الغرامة على المقاول.

لهذه الأسباب صار إنجاز العمل في وقته المحدد يتأخر اضطرارًا لا اختيارًا وحتى التجار الذين لديهم المؤهلات المقتضية لإنجاز عملهم ويبنون لأنفسهم على حسابهم الخاص، فإنهم يقدرون لإنهاء عملهم بعشرة أشهر، ثم يمضي مع العشرة عشرة أخرى بدون إتمامه وإحكامه، وهذا قد صار من الأمر المعروف المألوف عند كافة الناس.

أضف إليه ما يعرض للمقاول من عوز العمال وعدم وجود بعض المواد وكذا ما يعرض له مما يعرقل سير عمله من حوادث الزمان مثل الرياح الشديدة والأمطار والسيول والحر الشديد والبرد الشديد وكل هذه تحكم على المقاول ولا يستطيع أن يحكم عليها.

إذا ثبت هذا، فإن الحكم على المقاول بإلزامه بالغرامة على ما زاد على المدة، مع العلم بهذه الأعذار أنه حكم عليه بالجور وعدم العدل، ونتيجة هذا الحكم هو أن يستبيح المالك أكل مال المقاول وأجرة عمله وعرق جبينه ظلمًا بغير حق؛ لأن الذين فرضوا هذا الشيء سموها غرامة أي ظلمًا ونكالاً.

ولم يصح عن أحد من أئمة المذاهب الأربعة القول بصحته؛ لأن هذا التحديد ووضع الغرامة على ما زاد عليه يقع غالبًا من تكليف ما لا يستطاع كما ذكرنا ذلك والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وإنما وقع منهم على حساب الظن والتخمين في الإنجاز قصدوا به الحث والتحريض، وقد اتفق الأئمة الأربعة على عدم إباحة هذه الغرامة بهذه الصفة. فلا يحكم بإلزامها إلا من يحكم بإباحة الربا والقمار وسائر العقود المنهي عنها مما يتراضى عليه الناس من العقود الفاسدة، والله أعلم.

* * *