متقدم

فهرس الكتاب

 

صفة عقد التأمين على الحياة

هو أن يأتي من يريد التأمين على حياته إلى شركة التأمين، فيتفق معها على تأمين حياته عشرين عامًا أو أقل أو أكثر، في مقابلة شيء معلوم من النقود، كأربعة آلاف أو أقل أو أكثر، يدفعها مقسطة بين عشر سنين كل سنة يدفع مثلاً أربعمائة ريال، على أنه إن مات في خلال هذه المدة المحدودة، فإن شركة التأمين ملزمة بدفع أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا، على حسب ما يتفقان عليه، حتى ولو لم يكمل دفع الأقساط كلها.

فإن دفع بعض الأقساط ثم عجز عن دفع الباقي ذهب عليه كل ما دفعه. وفيه شروط ومصطلحات بينهما، منها كون الشركة تشترط على نفسها أن تدفع ربحًا خمسة في المائة في حالة استمرار عقد التأمين.

ولا شك أن هذا العقد بهذه الصفة باطل قطعًا، ولن تجد له محملاً من الصحة وإن حذلقه من يحتال لإباحته فإن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته.

منها أنها تسليم دراهم مقسطة في دراهم أكثر منها مؤجلة قد يتحصل عليها وقد تفوت عليه في حالة عجزه عن بعض الأقساط، فحقيقتها أنها شراء دين بدين، وشراء دراهم بدراهم أكثر منها، وتشبه بيع الآبق المنهي عنه في حالة جهالة الحصول على العوض المشروط، وقد يفوت عليه مع رأس ماله ومع ما فيه من الربا وسائر وسائل البطلان، فإنها لا تقتضيه الحاجة ولا توجبه المصلحة ويمجه العقل فضلاً عن الشرع.

والحاصل أن قضية التأمين على الحياة هي من المعاملات المستحدثة الفاسدة لمشابهتها لعقد الميسر حقيقة ومعنى، من باب اجتماع الفرع بالأصل ومساواته له في المعنى والحكم؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها.

لأنه بمقتضى تحقيق النظر في حكم هذا العقد، ثم في تطبيقه على ما يشاكله من نظائره، ثم الحكم فيه والميزان العادل غير العائل على ضوء النصوص الصحيحة المبنية على حفظ الدين والنفس والمال. بدراسة عميقة سليمة من الأهواء النفسية والأغراض الشخصية دراسة تبين الأحكام وعللها وشمول مصالحها وترد الأشياء إلى أصولها بدون اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فإنه حينئذ يتبين بذلك فساد هذا العقد وخروجه عن حدود ميزان العدل والحق.

لأن الحلال هو ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وإنما حرم الله الميسر من أجل أنه أكل للمال بغير حق، مع كونه يورث العداوة والبغضاء على أثر سلب المال بغير حق. والله يقول: ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨ [البقرة: 188].

والنبي ﷺ قد فصّل ما أجمله الله في كتابه من شؤون تحريم بعض العقود والمعاملات صيانة للأموال عن التلاعب بها بغير حق، فنهى عن بيع الغرر وهو المجهول العاقبة وغير الموثوق بالحصول عليه، كبيع الآبق، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع حبل الحبلة، وبيع الحصاة والملامسة والمنابذة وضربة الغائص، وبيع ما ليس عندك، كما حرم الربا والميسر وهو القمار، وكما حرم الخمر شربه وبيعه وأكل ثمنه، كما حرم الخداع والغش والكذب.

كل هذه حرمها الشارع من أجل أنها تفضي إلى مفسدة الميسر الذي يثير العداوة والبغضاء بين الناس والذي هو أكل أموال الناس بالباطل.

وقد أخد الناس تتجارى بهم الأهواء في تأمين الحياة حتى أخذوا يؤَمِّنون على أعضاء الإنسان، فبعضهم يؤُمِّن على يده، وبعضهم يؤَمِّن على رجله، وبعضهم يؤَمِّن على صوته[28]، وحيث قلنا ببطلان التأمين على الحياة من أصله، فإنه مقضي للبطلان في أبعاضه من باب الأولى والأحرى، كما قلنا ببطلان الميسر بكل أنواعه.

وقضية عقد التأمين على الحياة هي من نوع ذلك بمقتضى المطابقة والتضمن. فإن المؤَمِّن على حياته يدفع نقودًا قليلة مقسطة في نقود كثيرة مؤجلة وغير موثوق بالحصول عليها، قد تفوت عليه بعجزه عن دفع بقية الأقساط، وقد يفوت عليه معظمها ببقائه حيًّا إلى نهاية المدة المحدودة.

والفرق بينه وبين التأمين على السيارات والطائرات ونحوهما واضح جدًّا، فإن المؤَمِّن على سيارته لا يريد بتأمينها الحصول على نقود أكثر مما دفع ولا أقل لا في حياته ولا بعد مماته، وإنما يريد الأمان والاطمئنان عن الحوادث منها أو عليها، بحيث تتكفل الشركة بضمان ما وقع عليها فقط، وهذا الأمان والاطمئنان هو مما يستوجب أن يدفع فيه نفيس الأثمان والضامن غارم كما ثبت بذلك الحديث بقوله ﷺ: «العَارِيَةُ مُؤَدَّاةٌ، وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ»[29].

فدعوى المبيحين له بأن عقد التأمين على الحياة يقع بالتراضي، وأن شركة التأمين تدفع العوض المتفق عليه بحالة الاختيار بدون إجبار، وأنه لن يثير العداوة والبغضاء كما يثيرها القمار، وأنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف الذين قد تحيط بهم الحاجة والفقر بعد موته. فهذا ليس على إطلاقه ولا يبرر انعقاده.

فدعوى انعقاده بالتراضي يبطله كون العقود المحرمة كلها تقع بالتراضي ولا يحللها رضى المتعاقدين، وقد سبق حكم الله بتحريمها وبطلانها.

وأما دفع الشركة للعوض بمقتضى الرضى بدون أن يقع فيه عداوة ولا بغضاء فهذا ليس على إطلاقه، فمتى أردت أن تعرف عدم صحته فافرض أن رجلاً اتفق مع شخص آخر على تأمين حياته لكون عقد التأمين على الحياة يصح من الفرد مع الفرد كما يصح مع الشركة، إذ الحكم واحد. فاتفق معه على أن يدفع المؤَمِّن على حياته قدر أربعة آلاف أو أقل أو أكثر مقسطة، بحيث يدفع في كل سنة جزءًا منها على حساب تأمين حياته عشرين سنة أو عشر سنين، إن مات في خلال هذه المدة المضروبة لزم الملتزم للضمان خمسون ألفًا أو أربعون على حسب ما يتفقان عليه، بحيث يدفعها إلى ورثة المؤَمِّن لحياته، فبعد إبرام العقد ودفع أول الأقساط توفي المؤَمِّن لحياته أفتراه يدفع هذا القدر الذي التزمه أي أربعين أو خمسين ألفًا إلى الورثة بطريق الرضى والاختيار، أم تراه يتهرب عن الدفع ويعمل ألف حيلة في الامتناع وعدم السماح بالدفع؟ وعلى أثره يقع النزاع بينه وبين خصمه في حالة امتناعه، ثم تنعقد بينهما العداوة والبغضاء أعظم مما يقع بين أهل القمار.

وفي حالة الإصرار على الامتناع تستدعيهما الحاجة والضرورة إلى الترافع إلى القاضي الشرعي ليقطع عنهما النزاع ويريحهما من مشقة الخصام بالحكم بالعدل. أفترى هذا القاضي يحكم بالتزام الملتزم بدفع ما التزم به على نفسه، سواء كان أربعين أو خمسين ألفًا إلى ورثة المؤمِّن على حياته، أم تراه يرد الأشياء إلى أصولها والفروع إلى نصوصها، فيحكم بإرجاع ما قبضه كل واحد منهما، ثم التحاسب فيما لكل واحد منهما أو عليه لا وكس ولا شطط، عملاً بقوله تعالى: ﴿وَإِن تُبۡتُمۡ فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩ [البقرة: 279].

وكيف ننسى في مثل هذه القضية حكم رسول الله ﷺ وقضاءه في وجوب رد المال على صاحبه عند تعذر أخذ عوضه؟!

كما روى مسلم في صحيحه عن جابر، أن النبي ﷺ قال: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟».

فهذا حكم رسول الله في مثل هذا العقد الواقع صحيحًا في بداية الأمر وبطريق الرضا والاختيار من كل منهما، ولكنه لمّا لم يقبض عوض ما اشتراه القبض التام الذي يحصل به الانتفاع حكم رسول الله برد الثمن على صاحبه، وكونه لا يحل للبائع أن يأكل مال أخيه بغير حق، والذي لا يحل هو الحرام لكون الأموال محترمة لا يحل أخذها إلا عن طريق الحق.

أفترى شرع الإسلام المبني على مصالح الخاص والعام وعلى حفظ الدماء والأموال، أفتراه يحكم بفسخ هذا العقد ووجوب رد الثمن على المشتري كاملاً لمّا لم يتحصل على قبض ما اشتراه، ثم يبيح أخذ هذا المال الكثير بدون مقابل من العوض ما عدا الالتزام على نفسه به؟! فلا يقول بصحة هذا العقد وإباحة ما يترتب عليه من العوض إلا من يقول بصحة عقد الميسر، أي القمار وإباحة ما يترتب عليه من المال، إذ هما في الحكم سواء والكل واقع بالتراضي بينهما.

ثم إن العقود المحرمة مقرون بها الشؤم والفشل ومحق الرزق وانتزاع البركة يقود بعضها إلى بعض في الشر كما قيل من أن المعاصي بريد الكفر.

لهذا يظهر من مساوئ مثل هذا العقد أن الورثة من الأولاد والزوجة متى عرفوا من موروثهم تأمين حياته بهذا المال العظيم، أي قدر خمسين ألفًا أو أربعين وخشوا فوات هذا المال بطول حياته وتجاوزه للمدة المحدودة، فإنهم سيعملون عملهم مباشرة أو بالتسبب بالقضاء على حياته حرصًا على الحصول على هذا المال وحذرًا من فواته بطول حياته، لكون المال مغناطيس النفوس يسيل لعابها على حبه والتحيّل على فنون كسبه، مع العلم أن الناس قد ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وضعف إيمانهم وفاض الغدر والخيانة بينهم.

وقد قص الله علينا خبر من كان قبلنا ليكون لنا بمثابة العظة والعبرة، وخير الناس من وعظ بغيره.

فقال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسٗا فَٱدَّٰرَٰٔتُمۡ فِيهَاۖ وَٱللَّهُ مُخۡرِجٞ مَّا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ ٧٢ فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ ٧٣ [البقرة:72-73]. أي تدافعتم في الخصام.

وذكر ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيمًا لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه هو وارثه فاستبطأ موته فقتله، ثم حمله فوضعه ليلاً على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم، ويقول: أنتم قتلتم عمي. حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال عقلاؤهم وذوو الرأي منهم: علام يقتل بعضكم بعضًا وهذا نبي الله موسى فيكم؟ فاسألوه، قال: فأتوا نبي الله موسى عليه السلام فذكروا ذلك له فأمرهم أن يذبحوا بقرة وأن يضربوه ببعضها ففعلوا ذلك فبعثه الله حيًّا سويًّا، فقال: قتلني ابن أخي فلان. فلم يورث قاتل ممن قتله بعد ذلك. ورواه ابن جرير بنحوه.

وتاريخ هذا العصر يحكي عن مثله، وهو أن رجلاً أمَّن حياة والدته لدى شركة التأمين، فبعد إبرام العقد وتسليم بعض الأقساط صنع قنبلة ووضعها تحت كرسي ثم أمر والدته أن تجلس على الكرسي، فثارت بها القنبلة حتى جعلتها قطعًا فذهب إلى شركة التأمين يطالبهم بعوض حياة والدته، فبعد إجراء البحث والتفتيش عرفوا تمام المعرفة أنها خيانة ومكيدة من الولد على والدته حرصًا منه على الحصول على عوض حياتها، وقد اعترف لهم بذلك بعد تحديه بالأمارات والدلائل.

وأما قولهم: إنه قد يخلف هذا المال لأولاده الضعاف، فإن حسن المقاصد لا يبيح المحرمات ﴿إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَا [النساء: 135]. فكم من غني خلف أموالاً كثيرة فاجتاحتها أيدي الظلمة وأجلسوهم على حصير الفقر، أو صار هذا المال سببًا في فسقهم وفسادهم. وكم من رجل نشأ فقيرًا فرزقه الله مالاً كثيرًا، وفي الحديث «من أحب أن يحفظ في عقبه وعقب عقبه فليتق الله»[30] فاحفظ الله يحفظك أي في دينك ودنياك وفي أهلك وعيالك.

ثم إن القائلين بإباحة التأمين على الحياة لمّا لم يجدوا نصًّا يعتمدون عليه ولا قياسًا يستندون إليه، أخذوا يركبون التعاسيف في الصدر والورود ويستدلون بما يعد بعيدًا عن المقصود، شأن العاجز المبهوت يتمسك في استدلاله بما هو أوهى من سلك العنكبوت، أشبه بمن يحاول اقتباس ضوئه من نار الحباحب والتماس ريه من السراب الكاذب.

من ذلك استدلالهم ببيع الوفاء، وهو أجنبي عن البحث في الحقيقة والمعنى فلا يمت إليه بصفة ولا صلة.

وصفته عند الأحناف هو أن يضع الرجل عقاره الذي تساوي قيمته ألفًا أو ألفين فيضعه عند رجل في خمسمائة أو أكثر ويكتب عليه بيع وفاء، يريدون من هذه التسمية أن يستحل المرتهن غلة هذا العقار ما دام باقيًا في يده بدون أن يرجع عليه مالكه في شيء من قيمة غلته في مقابلة ما ينتفع صاحبه بالدراهم، وإذا تحصل صاحب العقار على النقود استرجع عقاره بدون منازعة، لاعتقاد الجميع بأنه باق على ملك صاحبه.

وقد حدث هذا التعامل بهذه الصفة في بلدان فارس، قيل: في القرن الخامس. وأفتى الكثير من الفقهاء بكونه رهنًا لا ينصرف إلى غيره وإن سموه بيعًا لكون الاعتبار في العقود بالمقاصد وهما لم يقصدا التبايع الحقيقي وهذا هو الصحيح؛ لأنهما إنما قصدا بهذه التسمية محض التوثقة واستباحة الغلة فقط، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها.

ثم إنه على فرض صحة ما ذكروا من أنه بيع مستقل بحالته وعلى صفته، فإنه مخالف للقياس في صيغ البيوع الصحيحة وما خالف القياس لا يقاس عليه عند أهل الأصول، مع كونه بعيدًا في القياس عن مشابهة التأمين على الحياة[31].

ثم استشهدوا أيضًا على جوازه بقضية عقد الموالاة عند الأحناف.

وصفته أن يقول رجل لآخر: أنت مولاي ترثني إذا مت وتعقل عني. فيصح ذلك عندهم ويرثه إن لم يوجد من يرثه بفرض أو تعصيب أو ذي رحم، ويستدلون عليه بما روي عن تميم الداري، قال: سألت رسول الله عمن أسلم على يد رجل؟ فقال رسول الله ﷺ: «هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ، مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ»[32]. وفسروا محياه بالعقل ومماته بالميراث، وينسبون القول به إلى علي وابن عمر وابن مسعود، وهذا الحديث ضعيف جدًّا، قال في المغني: إنه ضعيف لا يصح. وقال الشافعي: الموالاة ليست بشيء.

والإمام أبو حنيفة يعترف على نفسه بأنه مزجي البضاعة من الحديث وقد ظنه صحيحًا فبنى على ظنه القول به وأخذه عنه أصحابه كما في الهداية وبدائع الصنائع وغيرهما، وكان أصل الحديث صحيحًا في بداية الأمر، ثم نسخ الحكم به وانقطع العمل بموجبه.

وأصل الموالاة في بدء الإسلام هو أن النبي ﷺ آخى بين المهاجرين والأنصار وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار فآخى النبي ﷺ بينهم على المؤاساة ويتوارثون بعد الموت دون ذوي أرحامهم إلى حين وقعة بدر، قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله.

ولهذا يقول الزبير بن العوام: إنا معشر قريش لمّا قدمنا المدينة قدمناها ولا مال لنا فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر خارجة بن زيد وآخى عمر فلانًا وآخى عثمان رجلاً من بني زريق بن سعد، قال الزبير: وآخيت أنا كعب بن مالك، فوالله يا بني لو مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله: ﴿وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا ٦ [الأحزاب: 6]. فرجعنا إلى مواريثنا. وبقيت المناصرة الدينية. ذكره ابن كثير في التفسير عن ابن أبي حاتم.

فما ينسب إلى عمر وعلي وابن مسعود فمحمول على ذلك في بداية الإسلام وإلا فقد أجمع الصحابة على نسخه، فلم يُحفظ عن أحد منهم القول به ولا الحكم بموجبه.

والوصية بماله كله ممن لا وارث له جائزة في ظاهر مذهب الإمام أحمد، ولهذا قالوا: وتجوز الوصية بماله كله ممن لا وارث له.

والحكم في الموالاة على العقل هو الحكم في الإرث، على حسب ما ذكرنا وأنه منسوخ، وقد حكم رسول الله ﷺ بإيجاب دية الخطأ على العاقلة كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللهﷺ فقضى رسول الله ﷺ أن دية الجنين غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وَوَرَّثها ولدها ومن معهم فقال حمل بن النابغة الهذلي: يا رسول الله، كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يُطَلُّ؟ فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الْكُهَّانِ». من أجل سجعه الذي سجع. فمضى الأمر على هذا وانعقد عليه الإجماع.

فكانت القبيلة تجلس لتوزيع الدية بينهم فيحمّلون كل شخص ما يستحقه على حسب مقدرته وقربه، وهذا من التعاون الواجب بحكم الشرع.

ومن محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد في المعاش والمعاد أن أوجب الله دية الخطأ على من عليه موالاة القاتل ونصرته، حيث إن هذا القاتل هو قريبهم ورحمهم، ولم يتعمد القتل وإنما وقع بغير اختياره وقصده فوجب عليه في خاصة نفسه عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله كما أوجب الدية على العاقلة.

ومن المعلوم أن الجناية في الأصل تتعلق بالجاني، فلا يجني جان إلا على نفسه ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰ [الأنعام: 164]. أي لا يحمل أحد ذنب الآخر، وكانت الدية في الأصل مائة من الإبل، وفي الغالب أن القاتل لا يستطيع حملها بجملتها فإيجاب الدية مع الكفارة عليه في ماله فيها ضرر عليه لعدم قدرته عليها، وإهدار دم القتيل من غير ضمان فيه ضرر على ورثته.

فكان من محاسن الشريعة أن أوجبت دية الخطأ على أقارب القاتل، أي عاقلته، كما أوجب الله النفقة على الأقارب، فإيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجب الشارع من النفقة على المضطرين ونحوهم، والأقربون هم أحق بالمعروف.

لأن المؤمن كثير بإخوانه غني بأعوانه ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ [المائدة: 2].

وهذه هي حقيقة التعاون بين الأرحام الواجبة في دين الإسلام.

ولا تحمل العاقلة العمد المحض ولا المال من قيمة عبد ونحوه ولا ما دون ثلث الدية.

والحاصل هو أن الأمة التي يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال فيكفل أغنياؤهم فقراءهم ويعول أقوياؤهم ضعفاءهم ويعودون بفضل ما أوتوا إلى إخوانهم المعوزين ويعطفون على البائسين والمنكوبين - أنها لا بد أن تتسع تجارتها وأن تتوفر سعادتها وأن تدوم على أفرادها النعمة ما استقاموا على هذه الفضيلة ثم يكونوا مستحقين لسعادة الدنيا والآخرة.

* * *

[28] إن شركة التأمين على الحياة في حالة إبرام العقد مع من يريد تأمين حياته تقوم بعملية الفحص عن صحته وسلامته، فإن كان جسمه غير سليم امتنعوا عن التعاقد معه، أو عرفوا أنه سكير يشرب الخمر امتنعوا عن التعاقد معه على تأمين حياته، لعلمهم أن إدمان السكر يقصم العمر قبل انتهاء العمر المعتاد، ومن صفة الخمر أنها تقصر الأعمار وتولد في الجسم أنواع المضار. [29] أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والدراقطني والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي. [30] ورد هذا الحديث في الفرج بعد الشدة للتنوخي. [31] نقل مصطفى الزرقا في كتاب التأمين عن محمد يوسف موسى، ص29، قال: ولا أجد في تاريخ الفقه الإسلامي واقعة أشبه بواقعة التأمين من بيع الوفاء في أول ظهوره، وقال أيضًا ص22: إن التأمين بكل أنواعه ضرب من ضروب التعاون التي تفيد المجتمع. قال: والتأمين على الحياة يفيد المؤمّن كما يفيد الشركة.
قال: وأرى شرعًا أنه لا بأس به إذا خلا من الربا. انتهى.
وأخذ الشيخ مصطفى الزرقا يصوب استجادة هذا الاستنباط وكأنه رآه عين الصواب والسداد وجعله بمثابة العدة والعمدة في القياس والاستناد ولا شك أن مشابهة التأمين على الحياة ببيع الوفاء أنه بعيد جدًّا فلا مداناة فضلاً عن المساواة وكيف يقول: إنه لا بأس بالتأمين على الحياة إذا خلا من الربا وهو غارق في الربا إلى الآذان لكون وسائل الربا والبطلان محيطة به من جميع جهاته.
[32] أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده.