تسامح مذهب الحنابلة في تقبل التأمين على السيارات وكثير من العقود والشروط والمعاملات
إن كل مختص في فهم فقه الأئمة الأربعة، فإنه سيعرف تمام المعرفة أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تستصحب الحكم بصحة عقد التأمين على السيارات وأن جوازها يتمشى على مذهبه، كما يوافقه مذهب الإمام مالك وأبي حنيفة.
ولا نعني بذلك أن الحنابلة ذكروا هذا العقد باسمه وصفته في كتبهم، بل ولا غيرهم من سائر المذاهب لكونها حديثة الاختراع ولكل حادث حديث.
وإنما نعني أن نصوص الإمام أحمد، تتسع لقبولها كسائر نظائرها من الشركات والضمانات وبيع أسهم الشركات.
لكون الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.
لأن نصوصه وإن لم تنص على كل عقد أو شرط باسمه لكنها كافية لحل جميع مشاكل العقود والشروط والشركات بالنص أو الاقتضاء أو التضمن، غير أنها تحتاج إلى فهم ثاقب وتطبيق سليم وتبحر في فقه النصوص والقصود.
وقد اشتهر عند المتأخرين تسامح مذهب الإمام أبي حنيفة في مسايرة التطوّر في العقود المستحدثة، من أجل أن أصحابه نشروا عنه ذلك وهو صحيح، غير أن مذهب الإمام أحمد يمتاز عليه في كثير من المسائل التي تقتضيها الحاجة وتوجبها المصلحة، من ذلك أن نصوص الإمام أحمد وأصوله تدل على أن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما دل الدليل على التحريم خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة من أن الأصل في العقود والشروط الحظر إلا ما دل الدليل على الإباحة وهو قول الظاهرية. وهو مذهب الشافعي.
ومنها عقد المساقاة على النخل والشجر بالثلث أو النصف أو بشيء مما يخرج منها أو من غيرها أو بالنقود.
فقد أنكرها الإمام أبو حنيفة والإمام الشافعي وقالا: إنها بيع ما لم يخلق وإنها من الإجارة المجهولة وتفضي إلى الغرر.
أما الإمام أحمد فقد أجازها عملاً بحديث خيبر وكما أن الضرورة والحاجة وعموم المصلحة تقتضي ذلك وعليه العمل في هذا الزمان.
ومنها شركة المفاوضة، وهي أن يفوّض كل واحد منهما إلى شريكه التصرف في ماله مع حضور صاحبه وغيبته، فقد قال الإمام الشافعي: لا يجوز. واتفق الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازها.
ومنها شركة الأبدان، فقد قال الإمام الشافعي بمنعها، واشترط الإمام مالك لصحتها اتحاد الصنعة بين الشريكين.
أما الإمام أحمد، فقد أجازها مع اختلاف الصنعة واتفاقها، كما أجاز الاشتراك على الدابة له نصف وللدابة النصف الثاني.
ومنها شركة الوجوه، فقد قال الإمام مالك والشافعي ببطلانها لكون الاشتراك الصحيح يتعلق على المال وعلى العمل وكلاهما معدومان في هذه المشاركة مع ما فيه من الغرر؛ لأن كل واحد منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود لا بصناعة ولا بعمل مخصوص. هذا حجة من قال بمنعها كمالك والشافعي.
أما الإمام أحمد، فقد قال بجوازها لأنها عمل من الأعمال فجاز انعقاد الاشتراك عليها.
وهذا هو الظاهر من مذهب الإمام أبي حنيفة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها شرط الخيار في البيع، فقد قال الإمام مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز الخيار فوق ثلاثة أيام. إلا أن الإمام مالكًا قال: لا يزاد الخيار على ثلاثة أيام إلا بقدر الحاجة، كأن يصل إلى البلد وهو لا يصل إليها إلا فوق ثلاثة أيام.
أما الإمام أحمد، فإنه قال بجواز شرط الخيار على ما يتفقان عليه زادت المدة أو قصرت حتى ولو زاد على الشهر، لأنه حق ثابت بالشرع فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ويحكم بالملك في مدة الخيار للمشتري له غنمه وعليه غرمه.
ومنها إذا باع شيئًا واستثنى نفعه المباح مدة معلومة غير الوطء ودواعيه، كما لو باع بيتًا واستثنى سكناه حولاً أو أكثر.
فقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: لا يصح هذا الشرط؛ لأنه ينافي مقتضى البيع، أشبه ما لو اشترط ألا يسلمه إليه.
أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزوم ما يترتب عليه، لقصة جابر حين باع بعيره على النبي ﷺ واستثنى حملانه إلى المدينة.
وتأخير تسليم المبيع إلى المدة المحدودة لا ينفي صحة البيع كالدار المؤجرة فإنه يصح البيع فيها مع تأخير تسليمها.
ومنها بيع التلجئة وهي إذا خشي إنسان سلطانًا أو ظالمًا أن ينتزع ملكه منه قهرًا فاتفق مع إنسان بأن يظهر للناس أنه اشتراه منه ليحتمي بذلك من هذا الظالم ولا يريد بيعه على الحقيقة، فإن هذا يسمى بيع تلجئة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والشافعي: هو بيع صحيح، تم بأركانه وشروطه فلزم العقد فيه.
أما الإمام أحمد، فقد قال بعدم لزوم البيع لأنهما لم يقصدا البيع الحقيقي الذي هو انتقال المبيع إلى المشتري، فلم يصح بناءً على ما اتفقا عليه قبل العقد، لكون العقود محمولة على القصود.
ومنها بيع العربون وهو أن يشتري شيئًا فيسلم بعض ثمنه ويقول: إن جئتك ببقية الثمن وإلا فالعربون لك.
فقد قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هذا لا يصح لأنه بمثابة الخيار المجهول.
أما الإمام أحمد، فقد قال: لا بأس به وفعله عمر وأجازه ابن عمر، وضعّف حديث النهي عن بيع العربون.
ومنها لو اشترطت الزوجة في صلب العقد بألا يتزوج عليها أو ألا يتسرى عليها أو ألا يخرجها من دار أهلها أو بلدها ونحو ذلك.
فقد قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: هذا شرط باطل لحديث «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ»[21]، وحديث «إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»[22]، وهذا الشرط يقتضي تحريم الحلال من التزوج بغيرها أو التسري أو السفر.
أما الإمام أحمد، فقد قال بصحة هذا الشرط ولزومه، وأنه إن لم يَفِ به فلها الخيار بين البقاء أو فسخ النكاح؛ لما روى البخاري أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهِ، مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ»[23]، وحديث: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ»[24].
والقول بصحة هذا الشرط ولزومه يروى عن عمر وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعًا.
وتزوج رجل بامرأة واشترطت عليه دارها فأراد نقلها بغير اختيارها، فخاصموه إلى عمر، فقال: لها شرطها. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إذًا يطلقننا. فقال عمر: إنما مقاطع الحقوق عند الشروط[25].
فهذه العقود والمشاركات والشروط وما يترتب عليها من الالتزامات والضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يقاس بعضها على بعض في الإباحة لملاءمتها للمعاملات المستحدثة في هذا العصر والتي لا توجد عند غيره من الأئمة.
وكل ما يصححه من العقود والشروط، فإن لديه دليلاً خاصًّا من أثر أو قياس لكونه يستنبط دلائل مذهبه من مسنده وقد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي ﷺ وعن الصحابة ما لم يبلغ غيره من الأئمة فقال به.
فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد لضمان تأمين السيارات والطائرات والسفن ونحوها، يعتبر من التعاون المباح ويدخل في حدود التعامل الجائز، وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركة الكهرباء والأسمنت ونحوهما.
لأن حمل معاملة الناس على الصحة، حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان لكون العقد الصحيح عند أهل الأصول هو ما يتعلق به النفوذ من بلوغ المقصود ويعقد به. والباطل بخلافه وهو ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به، وهذا الاشتراك وما يترتب عليه مستكمل لشروط الصحة شرعًا.
ومن تأمل هذا تبين له أن جواز هذا الاشتراك وإباحة ما يترتب عليه من الربح أنه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محظور.
لكون الأصل في العقود والشروط الإباحة إلا ما دل الدليل على تحريمه، وأصول الإمام أحمد ونصوصه وقواعد مذهبه تقبل مثل هذا العقد وتنافي تحريمه.
لكن بعض العلماء في هذا العصر القائلين بمنعه إنما أخذوه من العموميات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد ظنًّا منهم أنه جهالة أو غرر، وما عارضوا به لم يصح عن الشارع القول بموجبه ولم يدخل في عموم المنهي عنه في أصل الشرع ولا في نصوص أحمد وأصوله، لكون الجهالة فيه مغتفرة وليست من الغرر المنهي عنه، بل هي من النوع الجائز كسائر أمثاله من الضمانات والشركات.
وبهذا تندفع الاعتراضات وتبقى الأدلة الشرعية كافية للإقناع العلمي الذي تزول به الشكوك والشبهات.
لهذا يجوز للقاضي الشرعي أن يحكم بصحة هذا العقد ولزوم ما يترتب عليه من الضمان.
ومتى صدر الأمر به من الحكومة يتمحض للحتم والإلزام.
وهو يدخل في ضمن عقد الضمان الذي ذكره الفقهاء من الحنابلة والمالكية والأحناف، حيث قالوا بصحة ضمان ما لم يجب وضمان المجهول وضمان أروش الجنايات، سواء كانت نقودًا أو ديات، وكونه لا يشترط لصحة مثل هذا الضمان معرفة الضامن للمضمون عنه ولا قدر المضمون به، فمتى قابل العاقل بين هذا الضمان الموصوف بما ذكر وبين ضمان التأمين على السيارات وجده منطبقًا عليه بجميع صفاته وإن اختلفت مسمياته، وقواعد الشرع تعطي الشيء حكم نظيره. والله أعلم.
* * *
[21] أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث عائشة. [22] أخرجه الترمذي والبيهقي من حديث عمرو بن عوف المزني. [23] متفق عليه من حديث عقبة بن عامر. [24] أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة. [25] أخرجه سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في السنن الكبرى.