إزالة الشبهات اللاحقة لتأمين السيارات
إن العقود والشروط والشركات والمبايعات كلها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، بخلاف العبادات، فإنها مبنية على التشريع والاتباع لا على الاستحسان والابتداع، والفرق بينهما هو أن العبادات حق الله، يؤخذ فيها بنصوص الكتاب والسنة.
أما المعاملات، فإنها مبنية على جلب المصلحة ودرء المفسدة، إذ هي من حقوق الآدميين بعضهم مع بعض، بحيث يتعامل بها المسلم مع المسلم والمسلم مع الكافر.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، فإنه ليس عندنا نص صحيح ولا قياس صريح يقتضي تحريم هذا التأمين يعارض به أصل الإباحة أو يعارض به عموم المصلحة المعلومة بالقطع؛ إذ العقود والشروط عفو حتى يثبت تحريمها بالنص أو بالقياس الصحيح.
والتحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا كما حققه أهل الأصول، وهذه الشركة المنعقدة للتأمين إن رأت في نفسها من مقاصدها أو رآها الناس أنها تجارية استغلالية، لكن حقيقة الأمر فيها والواقع منها أنه يتحصل منها اجتماع المنتفعين منفعتها في نفسها في حصول الأرباح لها ومنفعة الناس بها، فهي شركة تعاونية محلية اجتماعية تشبه شركة الكهرباء والأسمنت وغيرهما، فكل هذه الشركات تدخل في مسمى التعاون بين الناس؛ لأن الشخص غني بإخوانه قوي بأعوانه ويد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فهي من جنس المشاركة بالوجوه ومشاركة الأبدان ومشاركة المفاوضة.
وقد حصل الخلاف قديمًا بين الفقهاء في جواز هذه المشاركات، فمنهم من قال بجوازها، ومنهم من قال بمنعها، كما حصل الخلاف في شركة التأمين على حد سواء، ثم زال الخلاف عن هذه الشركات كلها واستقر الأمر على إباحتها على اختلاف أنواعها.
ووجه الإشكال دعوى دخولها في مسمى الجهالة والغرر الذي نهى عنه الشارع.
كما روى مسلم في صحيحه، قال: نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر[18].
وفسر هذا الغرر المنهي عنه بثلاثة أمور:
أحدها المعدوم: كبيع حبل الحبلة، وبيع ما في بطون الأنعام، وبيع ما ليس عندك ونحوه.
الثاني بيع المعجوز عن تسليمه: كبيع الآبق.
الثالث المجهول المطلق: كبعتك عبدًا من عبيدي أو ما في بيتي، ومنه بيع الحصاة وبيع الملامسة والمنابذة وضربة الغائص وبيع الحظ والنصيب المسمى باليانصيب.
فكل هذه داخلة في بيع الغرر المنهي عنه شرعًا؛ لكونها يقع فيها النزاع غالبًا نظير ما يقع في القمار، فإن هذا العبد الآبق إنما يبيعه صاحبه بدون ثمن مثله مخاطرة، فإن تحصل عليه قال البائع: غبنتني، فإن لم يجده قال المشتري: غبنتني ردّ علي ثمني.
وهذا المعنى منتف في هذه المشاركة التي مبناها على التعاون الاجتماعي الصادر عن طريق الرضا والاختيار بدون غرر ولا خداع.
فجواز المشاركة هذه أشبه بأصول الشريعة وأبعد عن كل محذور، إذ هي مصلحة محضة للناس بلا فساد.
غير أن فيها تسليم شيء من النقود اليسيرة في توطيد تأمين السيارة ومن السهل أن يختصرها الشخص من زائد نفقته كذبيحة يذبحها لأدنى سبب أو بلا سبب؛ لأن كل عمل كهذا فإنه يحتاج بداعي الضرورة إلى مال ينظمه ويقوم بالتزام لوازمه، وليس عندنا ما يمنع بذل المال في التزام الضمان. كما قالوا بجواز: اقترض لي ألفًا ولك منه مائة. وأنه جائز، ومنه ضمان الحارس بأجره.
فصحة هذا الضمان والتزام لوازمه يتمشى على نصوص الإمام أحمد وأصوله.
قال في المغني: دلت مسألة الخرقي على ضمان المجهول كقوله: ما أعطيته فهو عليّ وهذا مجهول، فمتى قال: أنا ضامن لك ما على فلان، أو ما يقضى به عليه أو ما تقوم به البيّنة أو ما يقرّ به لك أو ما يخرجه الحساب، صح الضمان بهذا كله وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.
قال: وفيه صحة ضمان ما لم يجب، وصحة الضمان عن كل من وجب عليه حق، وفيه صحة الضمان في كل حق من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب. انتهى.
وقال في المغني أيضًا:
ويصح ضمان الجنايات، سواء كانت نقودًا كقيم المتلفات أو نفوسًا كالديات؛ لأن جهل ذلك لا يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع جوازه بالالتزام. قال: ولا يشترط معرفة الضامن للمضمون عنه ولا العلم بالمضمون به.
وهذه هي نفس قضية ضمان التأمين على السيارات، فإن شركة التأمين تلتزم ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات كما ذكر جوازه صاحب المغني و الشرح الكبير و الإقناع، ولا يقدح في صحته جهل الضامن للمضمون به ولا المضمون عنه. فنصوص الإمام أحمد وأصوله تتسع لقبولها كنظائرها من الضمانات، وكذلك الإمام مالك وأبو حنيفة كما ذكرنا موافقتهما على ذلك.
غير أن الإمام أحمد أكثر تصحيحًا للعقود والشروط من سائر الأئمة، ونصوص مذهبه تساير التطور في العقود المستحدثة.
وإنما وقع اللبس فيها على من قال بتحريمها من علماء هذا العصر، كابن عابدين وغيره من جهة أنهم اعتقدوها قمارًا أو جهالة أو غررًا، أو التزام ما لا يلزم أو كونها على عمل مجهول قد يفضي إلى غرامات باهظة.
ويتمسكون بما بلغهم من العمومات اللفظية والقياسات الفقهية التي اعتقدوا شمولها لمثل هذا العقد يظنونها عامة أو مطلقة وهي لا تنطبق في الدلالة والمعنى على ما ذكروا.
أو يعللون بطلان مثل هذا العقد بكونه لم يرد به أثر ولا قياس.
والله سبحانه قد أمر عباده بالوفاء بالعقود في قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. وهو شامل لكل عقد يتعاقده الناس فيما بينهم ويلتزمون الوفاء به، ولم يكن قمارًا ولا ربًا ولا خديعة.
إذ الأصل في العقود الصحة والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه، لكون العقود والشروط والمشاركات من باب الأفعال العادية التي يفعلها المسلم مع الكافر وليست من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع.
فمن أعطى الشركة مالاً على حساب التزام ضمان سيارته بطيب نفس منه والتزمت الشركة لوازمه، فإن مقتضى الشرع يحكم بصحة هذا الضمان، أخذًا من قوله تعالى: ﴿أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]. ومن قوله: ﴿لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡ﴾ [النساء: 29]. وفي الحديث «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»[19]، وهذا العوض قد خرج عن طيب نفس من مالك السيارة ومن الشركة، فثبت بذلك إباحته وقواعد الشرع لا تمنعه؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه وربما يجبرون بطريق النظام عليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه، لأن المال عزيز على النفوس لا تسخو ببذله إلا في سبيل منفعتها، وفي هذا المقام هو في حاجة إلى تأمين سيارته لحصول الاطمئنان والأمان عما عسى أن ينجم عنها من حوادث الزمان.
وبما أن هذه الشركة هي من ضمن العقود التي أمر الله بالوفاء بها، ومن جنس التجارة الواقعة بين الناس بالتراضي، ومن جنس المشاركة بالأبدان والوجوه والمفاوضة، فإنها أيضًا من جنس الصلح الجائز بين المسلمين، لما روى أبو داود والدارقطني عن سليمان بن بلال، عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا، الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» وكثير بن زيد قال فيه يحيى بن معين: هو ثقة. وضعفه في موضع آخر.
وروى الترمذي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله ﷺ قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا الحديث يترقى إلى الصحة بتعدد طرقه، مع العمل عليه بإجماع أهل العلم.
فهذا الاشتراك الاجتماعي الأهلي المنعقد للضمان في تأمين حوادث السيارات يعتبر من التعاون المباح وما ينتج عنه من الأرباح فحلال لا شبهة فيه، أشبه بشركات الكهرباء والأسمنت ونحوها، ويدخل في عموم الصلح الجائز بين المسلمين وإباحته تتمشى على ظاهر نصوص مذهب الإمام أحمد.
قال في الإقناع[20]: ويصح ضمان أروش الجنايات نقودًا كانت كقيم المتلفات أو حيوانًا، كالدّيات، لأنها واجبة أو تؤول إلى الوجوب.. انتهى. وسبق قول صاحب المغني.
وهذه تشبه قضية ضمان التأمين على السيارات، حيث تلتزم الشركة ضمان الديات وأروش الجنايات وقيم المتلفات، كأضرار السيارات ونحوها من كل ما هو واجب بالضمان أو يؤول إلى الوجوب ولا يشترط معرفة المضمون عنه ولا المضمون به.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان كون المؤمِّن على سيارته يدفع شيئًا من المال، فإن هذا لا يقدح في صحة الضمان والحالة هذه، إذ ليس عندنا ما يمنعه.
ولا يقدح في صحة هذا الضمان تبرع الشركة بدفع الديات وقيم الأضرار والمتلفات بدون رجوع فيه إلى أحد، فإن هذا كله جائز على قواعد المذهب إذ من المعلوم شرعًا وعرفًا أن الجناية تتعلق بالجاني المباشر لها في خاصة العمد وعلى العاقلة في قتل الخطأ فيما زاد على الثلث من الدية، غير أن التزام الشركة بضمان هذه الجنايات وإن عظم أمرها وعدم الرجوع منها على أحد في غرمها أنه صحيح جائز، وهو مما يجعل الجاني الذي لم يتعمد وكذا عاقلته في راحة عن المطالبة والغرامة، وهو خير من كونهم يتكففون الناس في سؤال هذه الغرامة أعطوهم أو منعوهم.
وغاية ما يدرَكون عليها هو الجهالة عن قدر الغرامة، وهي مغتفرة فيها كسائر أمثالها من الضمانات والشركات التي لا تخلو من الجهالة كشركة الأبدان والوجوه والمفاوضة، فإن فيها كلها شيئًا من الجهالة. وقد تكلم بعض الفقهاء المتقدمين بعدم جوازها من أجله ثم استقر الأمر على أن مثل هذه الجهالة مغتفرة.
قال في الإقناع: ويصح ضمان ما لم يجب وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن ما يجب على التاجر للناس من الديون وهو جائز عند أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة وأحمد.. انتهى.
وقال في الاختيارات: ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة. وتجوز كتابته والشهادة به لمن لم ير جوازها... لأن ذلك محل اجتهاد.. انتهى.
فهذه المشاركات وما يترتب عليها من الالتزامات التي هي بمعنى الضمانات كلها من الأشباه والأمثال والنظائر التي يجب أن يقاس بعضها على بعض في الإباحة كشركة الأبدان وشركة الوجوه وشركة المفاوضة، ومثله شركة الكهرباء والأسمنت، ولأن حمل معاملة الناس وعقودهم وشروطهم على الصحة حسب الإمكان أولى من حملها على البطلان بدون دليل ولا برهان.. والله أعلم.
* * *
[18] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [19] أخرجه أحمد من حديث عم أبي حرة الرقاشي. [20] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.