الأوراق المالية الجاري بها التعامل في هذه الأزمنة
إن كل عارف بنصوص الفقه وأصوله يتبين له أن هذه الأوراق الجاري بها التعامل قد قامت مقام التعامل بالنقود المعدنية من الذهب والفضة وانطبق عليها حكمهما، سواء بسواء في منع بيع بعضها ببعض نَساء وفي ضمانها بالإتلاف وفي وجوب زكاتها، وغير ذلك من سائر الأحكام.
وكان تعامل الناس في قديم الزمان منذ خلق الله الدنيا بالذهب والفضة، ولهما المكانة العالية والقيمة الغالية في نفوس الناس؛ لأنهما قيم نفائس الأموال والمعاملات والأرزاق، كما أنهما من زينة الحياة وجلب الخيرات، يقول الله: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ مِنَ ٱلنِّسَآءِ وَٱلۡبَنِينَ وَٱلۡقَنَٰطِيرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ﴾ [آل عمران: 14]. ويقول: ﴿وَٱلَّذِينَ يَكۡنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلۡفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرۡهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٖ ٣٤﴾ [التوبة: 34].
وقال عن أهل الكهف: ﴿فَٱبۡعَثُوٓاْ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَٰذِهِۦٓ إِلَى ٱلۡمَدِينَةِ فَلۡيَنظُرۡ أَيُّهَآ أَزۡكَىٰ طَعَامٗا فَلۡيَأۡتِكُم بِرِزۡقٖ مِّنۡهُ﴾ [الكهف: 19].
والورق من الفضة كما حكى عن نبي الله يوسف: ﴿وَشَرَوۡهُ بِثَمَنِۢ بَخۡسٖ دَرَٰهِمَ مَعۡدُودَةٖ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزَّٰهِدِينَ ٢٠﴾ [يوسف: 20].
والدراهم من الفضة وقال: ﴿۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِدِينَارٖ لَّا يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ إِلَّا مَا دُمۡتَ عَلَيۡهِ قَآئِمٗا﴾ [آل عمران: 75]. والدينار من الذهب، فهما العملتان الدارجتان عند الأمم قبلنا.
فمن حكمة الله ورحمته وجود هذين النقدين وعزتهما في النفوس، وعجز الناس عن صنعة ما يشبههما أو يقوم مقامهما في عزتهما ونفاستهما، على أن أهل الكيمياء قد بذلوا جهدهم وغاية اجتهادهم للحصول على مثلهما فلم يظفروا بذلك[35].
وقد جرى التعامل بهما زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه وأصحابه باسم الدنانير من الذهب والدراهم من الفضة. فأما الدراهم فنوعان: صحاح ومكسرة، فالصحاح يتبايعون بها عددًا والمكسرة يتبايعون بها وزنًا.
فاستقر عمل الناس ومعاملتهم على الذهب والفضة قديمًا وحديثًا، فكانوا يظنون كل الظن أنه لا غنى للناس عنهما، وأنه لن يقوم غيرهما في التعامل وقيم الأموال مقامهما أبدًا.
حتى روى البخاري في صحيحه عن النبي ﷺ ما يدل على عدم التعامل بهما في آخر الزمان، وأن الناس يتبايعون بينهم بدون ذهب ولا فضة.
فروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: كيف بكم إذا لم تجتبوا دينارًا ولا درهمًا - وفي رواية: لا صفراء ولا بيضاء - فقيل له: وكيف ترى ذلك كائنًا يا أبا هريرة؟ فقال: والذي نفس أبي هريرة بيده إنه قول الصادق الصدوق.
فقد وقع مصداق ما أخبر به، بينما السامعون لهذا الحديث قد استغربوا سماعه واستبعدوا وقوعه لظنهم أنه لن تستقيم أعمال الناس ولا معاملتهم بدون ذهب ولا فضة، فوقع كما أخبر. نظيره خبره عن أرض العرب، وأنها لا تقوم الساعة حتى تكون أرض العرب مروجًا وأنهارًا وكانت توصف في الأزمنة السابقة بالأرض العابسة اليابسة قليلة الماء والنماء.
إن أسبق تاريخ عرفناه عن ابتداء اختراع الأوراق المالية والتعامل بها هو ما ذكره ابن بطوطة في رحلته إلى الصين[36].
قال: وأهل الصين لا يتبايعون إلا بقطع كاغد على قدر الكف مطبوعة بطابع السلطان، وإذا تمزقت الكواغد في يد إنسان حملت إلى دار تشبه دار السكة وأبدلت بكاغد جديد بدون أن يعطي شيئًا من العوض عليها، وإذا مضى إنسان إلى السوق بدراهم فضة أو دنانير ذهبًا، يريد شراء شيء لم يؤخذ منه ولم يلتفت إليه حتى يصرفه بالبالشت - أي نقود الكاغد - ثم يشتري به ما أراد... انتهى.
فهذا هو أول تاريخ عثرنا عليه في التعامل بورق الكاغد.
أما بلدان أوروبا فيظهر من تاريخهم أن أسبق من استعمله فرنسا، ويسمى بلسانهم (بنك نوت)، ففي أشهر القواميس للغة الفرنسية، لصاحبه لاروس قال في تعريفه:
ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع على حاملها وهو يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية من الذهب والفضة، غير أنه ينبغي أن تكون مضمونة ليثق الناس بالتعامل بها... انتهى.
فاستقر عمل الناس في التبايع بينهم بالأوراق النقدية كنقود معدنية، وذلك في كل مكان ولكل زمان دولة ورجال. وصارت هذه النقود بمثابة الأجناس المتنوعة أشبه الذهب والفضة فلكل دولة نقود تسمى باسمها، فيجوز التبايع بين هذه النقود متفاضلاً بشرط الحلول والتقابض حال العقد، ولا يجوز بيع بعضها ببعض نسيئة كالذهب مع الفضة، كما سيأتي بيانه.
* * *
[35] إن كلمة الكيمياء كلمة عبرانية يراد بها حق وباطل، أما الباطل فقد قالوا في تعريفه: إنه علم يراد به سلب الجواهر المعدنية خواصها، وإفادتها خواص لم تكن لها كأن يجعل الحصى ذهبًا. وأول من تكلم في هذا العلم ووضع فيه الكتب خالد بن يزيد بن معاوية وأخذه عنه تلميذه جابر بن حيان وهو أول من نشره، وقد أنكر المحققون من العلماء هذا العلم الموهوم وبينوا بطلانه، لأن قلب الحصا ذهبًا لا يمكن أبدًا، وأنشدوا في ذلك:
كجوهر الكيمياء ليس يرى
من ناله والأنام في طلبه
ولما درس بعض المغترين بكتب جابر بن حيان ورأى أنها لا تفيدهم علمًا ولا تعود عليهم بطائل، كتب عليها:
هذا الذي بمقاله
غر الأوائل والأواخر
ما أنت إلا كاسر
كذب الذي سماك جابر
وكثير من مشاهير الأدباء قد فتنوا بطلب هذا العلم الباطل حرصًا على حصول المال من غير طريق الكسب المعتاد؛ ولهذا يقول الشافعي رحمه الله: من طلب المال بالإكسير افتقر، والإكسير شيء يزعمون أنه إذا وضع على الحصا انقلب ذهبًا، ولما عجز بعض المغترين بطلبه عن إدراكه أخذوا يعللون عن عدم نجاحهم بمقاومة الحكام لهم، ويقول الطغرائي:
ولولا ولاة الجور أصبحت والحصا
بكفي أنى شئت در وياقوت
وهو كاذب في ذلك، بل سبب عدم نجاحه بطلانه في نفس الأمر والواقع؛ لأن هذا العمل بهذه الصفة مبني على الآمال والأماني الكاذبة التي هي رأس أموال المفاليس فهم يطلبون المال بالكيمياء ولا يزيدهم هذا الطلب إلا فقرًا، وهذا العلم وهذا العمل قد أنكرته العقول وترفعت عن الاعتراف بصحته وقد قيل:
أعيا الفلاسفة الماضين في الحقب
أن يصنعوا ذهبًا إلا من الذهب
أو يصنعوا فضة بيضاء خالصة
إلا من الفضة المعروفة النسب
أما الكيمياء الصحيح: فهو العلم الذي يبحث عن المعادن والنباتات وطبقات الأرض، وما أودع الله فيها من الذهب والفضة والبترول وسائر الكنوز والنباتات والأدوية، وسائر المنافع باستخدام الوسائل من كل ما يؤهلهم إلى الوصول إلى الغاية وإدراك المقصد حتى توصلوا به إلى ما تحصلوا عليه من مطالبهم ومعارفهم النافعة؛ من المخترعات والصناعات الباهرة والأدوية الطبية وغير ذلك من الاختراعات النافعة، حتى صار اللؤلؤ الصناعي يشبه الطبيعي والدهن الصناعي يشبه الطبيعي والصوف الصناعي يشبه الطبيعي كله من ثمرة العلم بالكيمياء الصحيح الذي يشهد بصحته الحس والواقع، حيث دخلوا على العلم به من بابه واستخدموا في الحصول عليه سائر وسائله وأسبابه، وما خفي عليهم من أسرار الكون أكثر مما علموا.
[36] ص160 الجزء2 من الرحلة. واسمه محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي، رحل إلى الهند والسند والصين وكثير من الأقطار وإلى اليمن والحجاز ثم استوطن فارس وانتهى من تحرير رحلته في 757 هجرية. وترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة لكنه لم يذكر تاريخ وفاته، كما أننا لم نعثر عليها والله أعلم.