استصناع السّلعَة
إن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والمعاملات، فإن له صلة وأصلاً من الفقه الإسلامي يرد إليه ويقاس عليه ويؤخذ صحته وفساده من نصوصه وأصوله.
من ذلك استصناع السلعة، أي طلب عمل صنعة من بناء أو نجارة أو حدادة، وهي عبارة عن إجراء عقد اتفاق بين المالك والمقاول على صفة شيء موصوف من بناء بيت أو سفينة أو أبواب أو شبابيك أو صناديق وغير ذلك.
بحيث يقول المالك للمقاول: أريد أن تبني لي عمارة صفتها كذا وارتفاعها كذا وفيها من الدور كذا وكذا. ثم يستقصي أوصافها اللازمة ويتفق معه على قدر معلوم من المال.
فهذا العقد بهذه الصفة يسمى عند الفقهاء: استصناع السلعة.
والظاهر من مذهب الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة، أنه لا يجوز، لأنه من بيع ما ليس عندك المنهي عنه شرعًا.
قال في الإقناع[33]: ولا يصح استصناع السلعة لأنه باع ما ليس عنده على غير وجه السلم.
وخالف أبو يوسف صاحبه الإمام أبا حنيفة، فقال بجواز العقد في استصناع السلعة فإذا وجد المصنوع موافقًا للصفات التي بينت في العقد لزم من كلا الجانبين وليس لأحد منهما الرجوع.. انتهى.
وعلى قول أبي يوسف هذا استقر عمل الأحناف على القول بصحته، وأدرجوه في مجلة الأحكام للحكم به.
وجرى عرف الناس في سائر الأمصار على العمل به وكأنه السبب الذي جعل الناس يتحدثون بأن مذهب الأحناف يساير التطور ويتسع رحبه للمعاملات الحديثة.
وكل شيء تعومل في استصناعه من بناء دور أو سفينة أو أبواب أو ثياب أو قدور أو شبابيك، فإنه يصح على القول بهذا ولا يلزم في الاستصناع دفع الثمن حال العقد بخلاف السلم.
وليس للمالك إلا أقل ما تقع عليه الصفة.
وإذا لم يقع المصنوع على الأوصاف المطلوبة المبينة في العقد فللمستصنع أي المالك الخيار بين قبوله ورده.
فقول الأئمة بمنعه بحجة أنه من بيع ما ليس عنده غير صحيح، فإن هذا العقد مشبه بالسلم الذي محله الذمة والذي يصح في المعدوم وفيما ليس عنده، كما في البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: كان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى. قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. لكون السلم محله الذمة.
ثم إن العادة والعرف والضرورة قد فرض التعامل بهذه الصفة على الناس في كل مكان وزمان فرضًا إلزاميًّا لا محيص لهم عنه، ولن يجدوا بدًّا منه لفخامة البنايات وسائر المقاولات التي لا يستطيع المالك أن يستقل بالتصرف فيها إلا بطريق الاتفاق مع المقاولين والفنيين والمهندسين.
ومن المعلوم أن العادة والعرف لهما مدخل في الشرع ويقدمان في بعض الصور على الأصل وقد ترجم عليه البخاري في صحيحه فقال:
باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع والإجارة والمكيال والوزن.
قال في الفتح: قال ابن منير وغيره: مقصوده بهذه الترجمة إثبات الاعتماد على العرف، وأنه يقضى به على ظواهر الألفاظ.. انتهى.
ثم إن العقود والشروط والمعاملات في البنايات وسائر الصناعات هي من الأفعال العادية لا من العبادات الشرعية التي تفتقر إلى دليل التشريع، إذ الأصل في العقود رضى المتعاقدين، ونتيجتها هو ما أوجباه على أنفسهما بمقتضى التعاقد وليس فيها ربا أو قمار ولا نص في المنع منها.
وقد توسع الناس في الاستصناع في هذا الزمان على اختلاف أنواعه حتى صار من أكبر المعاملات، بحيث يتفقون مع المقاولين ومع الشركات على بناء العمارات العظيمة ذات الطوابق والشقق، وكذا المدارس والمستشفيات والطرق وحتى المساجد والبيوت الصغيرة والكبيرة، كلها إنما تبنى غالبًا على سبيل الاستصناع بالصفات المتفق عليها بينهما. حتى صار من الأمر العرفي الجاري به النظام في كل بلد.
ويوجد في نصوص الفقه ما يقرب من صفته وما ينبغي أن يقاس عليه في القول بصحته، من ذلك عقد السلم، فإنه عقد على موصوف في الذمة معدوم حال العقد بثمن مقبوض.
ومن ذلك البيع بالصفة الذي ذكره فقهاء الحنابلة في كتبهم وحكموا بصحته.
والصفة نوعان: صفة معينة، كأن تقول: أبيعك عبدي الفلاني أو بعيري الفلاني الذي صفته كذا وكذا، ويستقصي في أوصافه كما يستقصي في أوصاف السلم.
والنوع الثاني: الصفة غير المعينة، كأن يقول: أبيعك عبدًا أو بعيرًا صفته كذا وسنه كذا، ويستقصي صفاته كما في السلم.
ويصح العقد في كلا الصفتين بشرط أن يسلم الثمن حال العقد قبل التفرّق ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه، كالبنيان ونحوه، فهذا ونحوه مما ينبغي أن يقاس عليه جواز الاستصناع إذ هو نظيره في الحكم والمعنى خلاف ما ذهب إليه الفقهاء من القول منهم بمنعه.
والأصل في الاستصناع أن يعمل الصانع الصنعة في محله كما يعمل النجار الأبواب في موضع نجارته، والحداد يعمل الشبابيك ونحوها في موضع الحدادة، فإن جاء بها مطابقة للأوصاف أخذها المستوصف، وإن لم تطابق الأوصاف ردها على صاحبها.
أما استصناع البناء، فإنه يزيد إشكالاً من جهتين:
الأول: من جهة كون المقاول يعمله في أرض المالك مما لا سبيل إلى رده إلا بهدمه وإتلافه.
والأمر الثاني: أنه بتجدد الأعصار أخذت مسائل الاستصناع التي يلزم بناؤها على مثل ما ذكره الفقهاء تختلف في مثل هذا العقد، حيث أدخلوا فيها أشياء كثيرة من الشروط والتحديدات والغرامات مما يتغير الحكم بدخولها في عقده، أضف إليه إدخال الكثير من الآلات والأدوات المتنوعة الجليلة والدقيقة مما قد يوجد في بلد العقد وقد لا يوجد.
* * *
[33] هو من الكتب المعتمدة عند الحنابلة لمؤلفه موسى الحجاوي.