بيع أسهم الشركات
إن نظام التعامل والتعاقد في الإسلام لا ينحصر على أشياء معينة من العقود المسماة عند الناس، بل يجوز استحداث عقود أو تعامل تتساير مع العقود الصحيحة مع سلامتها من الربا والميسر وسائر وسائل البطلان.
وفي هذا الزمان لمّا كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات كشركة الكهرباء والأسمنت والأسمدة ونحوها من الشركات الاجتماعية المحلية التي يُفتح الباب فيها لكل مشارك، كُل على حسبه.
بحيث يجتمع في رصيدها مال كثير يقدر بخمسين مليونًا أو أقل أو أكثر، ثم تتوسع هذه الشركة وتنتشر ويكون عندها العقارات والسيارات وسائر الآلات والنقود وغير ذلك من الواردات والصادرات والديون لها وعليها من أجور وحقوق الموظفين وغيرهم.
وإذا أراد شخص أن يخرج بسهمه من الشركة أو مات ميت وله أسهم في الشركة وأراد ورثته أن يبيعوها لحساب تصفية تركته أو لوفاء دينه؛ فمن المعلوم أنه لا يمكن تخليص سهمه في الشركة ناضًّا خالصًا إلا بكلفة ومشقة مما يقتضي توقيف أعمال الشركة وتثمين أموالها وتعطيل سير عملها، لهذا صار من الأمر المصطلح عليه أن كل من أراد أن يخرج بسهمه من الشركة فإنه يجوز له أن يبيعه على غيره ويقوم المشتري مقامه فيما له وعليه.
غير أن بعض أهل العلم يشك في صحة هذا البيع بهذه الصفة بحجة أن المشتري لا يعلم كمية السهم المشترى ناضًّا، وهل فيه ربح أو خسران، وهذا مما يؤكد دخوله في الجهالة أو الغرر أو شراء الدراهم بالدراهم، هذا بعض تعليل من يقول بمنعه.
والصحيح أن بيع الأسهم بهذه الصفة يعتبر جائزًا مباحًا، لكونه من باب المخارجة، وقد أجمع الصحابة على صحتها والعمل بها في قضية مشهورة، حاصلها هو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه توفي عن أربع زوجات إحداهن تماضر الأشجعية وكان قد طلقها في مرض موته، فاستشار عثمان الصحابة فيها فأجمعوا على أنها تستحق الإرث كإحدى الزوجات، فبعد العلم منها بذلك طلبت الخروج من التركة بسهمها، وكان قد خلف أموالاً كثيرة من عقار ونقود وحيوان، ومن ذلك ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال من تقطيعه، وخلف ألف بعير ومائة فرس وثلاثة آلاف شاة. ذكره ابن كثير في التاريخ.
فاتفق ورثته معها على أن يدفعوا لها ثمانين ألف دينار، فقبلت ذلك وجرى الدفع منهم فيه، ولم ينكره أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع منهم على جوازه في زمنهم.
وهذه هي نفس قضية بيع الأسهم من الشركات، سواء سميناه بيعًا أو صلحًا أو معاوضة أو مخارجة، إذ لا مشاحة في الأسماء، مع العلم بالحقيقة. وقال عطاء عن ابن عباس: إنه كان لا يرى بأسًا بالمخارجة يعني الصلح في الميراث. وسميت مخارجة لأن الوارث يُعطَى ما يُصالَح عليه ويُخرِج نفسه من الميراث، والاعتبار في مثل هذه القضية هو بعموم حكمها لا بخصوص سببها فلا يختص الحكم بجوازها بالميراث دون غيره مما يشابهه، بل الحكم في خروج الشخص بسهمه من الشركة كحكم خروج الوارث بسهمه من التركة، سواء وقع بلفظ الصلح أو البيع.
قال الموفق: ويصح الصلح عن المجهول بمعلوم إذا كان لا يمكن معرفته للحاجة.
فمتى حصل التبايع فيما لا سبيل إلى معرفته ناضًّا كأسهم الشركات المشتملة على العقارات والسيارات وأنواع كثيرة من الآلات والأثاث والنقود، وبما لها وعليها من حقوق وديون؛ فإنه يصح البيع والحالة هذه، لأنه إنما جاز مع الجهالة لإبراء الذمم وإزالة الخصام، وما روي عن الإمام أحمد من كراهية مخارجة المرأة عن ثُمنها، وأنه لا يصح واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثُمنها ولم يبين لها ما ترك زوجها فهي الريبة، فمحمول على قصد خديعة المرأة عن حقها في عدم بيان ما خلفه زوجها من التركة.
فكراهة الإمام أحمد لها محمولة على الغش والكتمان من الورثة لمثل هذه المرأة، حيث لم يبين لها ما خلفه زوجها، وهذا شيء منتفٍ في مثل هذه الشركات، كما أنه منتفٍ في قضية ورثة عبد الرحمن بن عوف مع زوجته، وقد سبق إجماع الصحابة على إباحته، وشهادتهم عليه حال وقوعه، مع العلم بجهالة كمية سهمها ناضًّا من كل شيء، لكثرة أمواله من كل الأجناس حتى من جنس الذهب والفضة كما سبق ذكره.
وسواء كانت القيمة من جنس رأس المال أو من غيره، وسواء كان دون رأس ماله أو أكثر منه، لكون الشريك الذي يريد الانفصال يأخذ عوض حقه مع علمه بثبوت أصله، فهو عقد معاوضة كالبيع الصحيح. وغير مانع لصحته جهالة كل من المشتري والبائع لحصول الربح وعدمه، لكونه يصح الصلح عن المجهول، سواء كان عينًا أو دينًا، ولأنه متى صلح الصلح مع العلم بالمبيع ناضًّا بدون رأس ماله أو أكثر منه فلأن يصح مع الجهل به أولى.
وحيث أجمع الصحابة على جوازه في مخارجة امرأة عبد الرحمن بن عوف من جميع مخلفاته حتى الذهب والفضة، فإنه يصح في أسهم الشركة وتدخل النقود تبعًا كحلية السيف؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها فألحقوا النظير بنظيره في حلالها وحرامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه، وهم عن علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، والله أعلم.
* * *