متقدم

فهرس الكتاب

 

التأمين على السّيارات

إن الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيّه بيّن الحلال والحرام بيانًا واضحًا فقال تعالى: ﴿وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَيۡهِ [الأنعام: 119]. وقال: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ [النحل: 116]. وقال: ﴿قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ٥٩ [يونس: 59].

وفي البخاري و مسلم عن النعمان بن بشير، أن النبي ﷺ قال: «الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ».

فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث أن الحلال المحض بيّن واضح لا مجال للشك فيه، وأن الحرام المحض بيّن لا يختلج في القلب الجهل به ولكن بينهما أمور مشتبهات لا يعلم أكثر الناس حقيقة الحكم فيها، هل هي من الحلال أو من الحرام. ومفهوم الحديث أن القليل من الناس - وهم أهل العلم والمعرفة - يعرفون حكم الله في هذه المشتبهات فيلحقون الحلال بنظيره من الحلال، والحرام بنظيره من الحرام.

فالذي يُخاف عليهم من الوقوع في الحرام عند مقاربتهم للمشتبهات هم العوام الذين تخفى عليهم غوامض الأحكام ويتجاسرون على الأشياء المشتبهات بدون سؤال عن الحلال والحرام، كما أن العلماء ينبغي أن يتركوا المشتبهات عندما يخفى عليهم طريق الحكم فيها، لحديث: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[15].

ثم إن هذه المشتبهات تقع في العقود والشروط والمبايعات والأنكحة والأطعمة والرضاع، وقد ترجم عليها البخاري في صحيحه، قال: باب تفسير المشبهات، ثم ساق بسنده عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء فقالت: إني قد أرضعتكما، فسأل النبي ﷺ فقال: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟»، ففارقها عقبة ونكحت زوجًا غيره.

ثم ذكر حديث عبد الله بن زمعة مع عتبة بن أبي وقاص، حيث قال: فأمر سودة أن تحتجب عنه مع أنه محكوم بكونه أخاها، لكن لمّا رأى قرب شبهه بعتبة بن أبي وقاص أمرها أن تحتجب عنه وهو من باب اتقاء الشبهات. فقال رسول الله ﷺ: «الْوَلَدُ لَكَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَمْعَةَ، وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ».

فمن هذه المشتبهات ما يقع مشكلاً مشتبهًا في وقت إلى أن يتصدى له من يخرجه من حيز الاشتباه والغموض إلى حيز التجلي والظهور حتى يصير واضحًا جليًّا لا مجال فيه للاشتباه.

فمن هذا النوع قضية التأمين على السيارات، فهي وإن أشكل على الكثير من الناس حكمها من أجل تجدد حدوثها وغموض أمرها وعدم سبق الحكم من الفقهاء فيها باسمها، فإن لها في الفقه الإسلامي أشباهًا ونظائر ينبغي أن ترد إليها ويؤخذ قياسها منها، كما يرد الفرع إلى أصله والنظير إلى نظيره.

وهذا يعد من القياس الصحيح الذي نزل به الكتاب والسنة وعمل به الصحابة - رضي الله عنهم - فإنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تحقيقه وتطبيقه. كما سيأتي بيانه.

* * *

[15] أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي.