شركات التأمين
اعلم أنها لما كثرت الخيرات واتسعت التجارات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، اخترع الناس لهم فنونًا من المعاملات والشركات لم تكن معروفة في سالف السنين ولم يقع لها ذكر عند الفقهاء المتقدمين.
من ذلك شركات التأمين على اختلاف أنواعها، وهي قضية ذات أهمية وليدة هذا العصر، وقد راجت بين العالم وصارت حديث القوم في سمرهم ومجالسهم، وأخذ بعض الناس يموج في بعض في موضوعها بالتجهيل والتضليل وبالتحريم والتحليل.
وأسبق من رأيناه طرق موضوع الكلام فيها من علماء المسلمين هو الشيخ ابن عابدين المتوفى عام (1252هـ) فقد ذكرها في كتابه رد المحتار ونصه:
قال: إنها جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي يدفعون له أجرته ثم يدفعون أيضًا مالاً معلومًا لرجل مقيم في بلاده يسمى ذلك المال (سوكره) على أنه مهما هلك المال الذي في المركب بغرق أو حرق أو نهب أو غيره، فذلك الرجل ضامن له بثمنه في مقابلة ما يأخذه منهم، فإذا هلك من مالهم شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تمامًا.. قال: والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك، لأن هذا التزام ما لا يلزم. انتهى.
ويظهر أن مبدأ عملية التأمين هو الخوف من الحوادث والكوارث الشديدة التي تفاجئهم فتجحف بذهاب أنفسهم وأموالهم، فأراد بعض التجار بهذا التأمين التحفظ على ضمان أموالهم كما أراد الآخرون التأمين على بدل حياتهم، وهذا كله لم يكن معروفًا في بلدان المسلمين قبل هذه السنين.
ثم أخذ علماء هذا العصر يتكلمون في موضوعها، حيث دعت الحاجة والضرورة إلى البحث فيها، فلكل حادث حديث، ولكل مقام مقال.
فمنهم من قال بتحريم التأمين بكل أنواعه، ومنهم من أباحه بكل أنواعه، ومنهم من توسط فيه فقال بإباحة شيء ومنع شيء منه.
ولسنا من المجازفين القائلين بإباحته بكل أنواعه ولا من الجافين القائلين بتحريمه بكل أنواعه.
وإنما موقفنا منه موقف التفصيل لأحكامه، ثم التمييز بين حلاله وحرامه. والذي ترجح عندنا هو أن التأمين على حوادث السيارات والطائرات والسفن والمصاغ والمتاجر أنه مباح لا محظور فيه، إذ هو من باب ضمان المجهول وما لا يجب وقد نص الإمام أحمد ومالك وأبو حنيفة على جوازه.
وهذا نوع منه يقاس عليه لإلحاق النظير بنظيره، كما سيأتي بيانه.
أما التأمين على الحياة، فإنه غير صحيح ولا مباح لأننا لم نجد له محملاً من الصحة لأن وسائل البطلان محيطة به من جميع جهاته، فهو نوع من القمار ويدخل في بيع الغرر كبيع الآبق الذي لا يدري أيقدر على تحصيله أم لا، ويدخل في مسمى الربا الذي هو شراء دراهم بدراهم مؤجلة، ويدخل في بيع الدين بالدين، حيث إن المؤمن يدفع قيمة التأمين مقسطة في سبيل الحصول على دراهم أكثر منها مؤجلة، أضف إليه أنها لا تقتضيه الضرورة ولا توجبه المصلحة، كما سيأتي بيانه قريبًا إن شاء الله.
* * *