متقدم

فهرس الكتاب

 

الأمر والنهي والتحليل والتحريم

إن القاعدة في التحليل والتحريم وكذا الأمر والنهي هو ألا تُعارَض أحكامها بترخص جافٍ ولا تُعارَض بتشديد غال ولا تُحمَل على علة توهن الانقياد.

أما الترخص الجافي: فهو الذي يتساهل في الأمور المحرمة أو شديدة الشبهة، فيلطفها بخلابة لفظه وخداع غرضه لقصد مسايرة التطوّر كما زعموا، أو لقصد مصانعة الناس على عوائدهم أو مصانعتهم على حسب رغباتهم، فيحلل لهم ما حرم عليهم بدون نص يؤيده ولا قياس يعضده، كالقائلين بإباحة الربا للمحتاج أو جواز المراباة مع الكافر أو نكاح المحلل ونحو ذلك من العقود المحرمة بأصل الشرع.

وأما التشديد الغالي: فهو ما يتخلق به بعض الفقهاء، حيث يحرمون على الناس أشياء من المعاملات أو العادات لم تكن صريحة في التحريم والتي لم يتوصلوا إلى حقيقة العلم بتحريمها، فيحكمون عليها بالتحريم وبالمنع بدون نص صحيح ولا قياس صريح.

وربما تحاملوا بالتفنيد وعدم التسديد على رأي الجريء بقول الحق متى خالف رأيهم أو مذهبهم، فينشرون عنه التجهيل والتسفيه والزراية وعدم الدراية ليوقعوا في قلوب الناس عدم الثقة به وعدم الاعتبار بقوله، وينسبونه للتسرع إلى الفتيا المنهي عنها وإلى عدم الورع والتدين.

وهذا بما أنه من التشديد الغالي، فإنه أيضًا موقف عجز وضيق رحب عما يعرض له من الحقائق التي تخالف رأيه أو مذهبه أو ما عليه أهل بلده فلا ينشرح صدره لقبولها، ويترتب على ذلك من المضار وقوف الناس حيارى أمام هذه المشاكل المستحدثة والعقود المستجدة، فبعض الناس يقول: هي حلال، وبعضهم يقول: هي حرام، والورعون واقفون حيارى ينتظرون ماذا يقوله العلماء فيتبعونهم ويمتثلون أمرهم.

إن العالم التقي والمؤمن القوي الذي يخشى الله في عمله وعلمه متى عرف مظاهر الحق وأسفر له صبحه ووفق لاستنباطه من مظانه، فإنه حينئذ يجب عليه بيانه ويحرم في حقه كتمانه، ولا يهمه أكان موافقًا لرغبة الناس وعوائدهم ومذاهبهم أو كان مخالفًا لهم، بشرط أن يستوثق من نفسه وفي بحثه بالدلائل القطعية والبراهين الجلية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة ببصيرة ناقدة وفكرة صحيحة صادقة وتطبيق سليم، إذ الحق فوق قول كل أحد، ومن كان على الحق فهو الأمر الذي يجب أن يقتدى به، وإذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر.

وأما حمل الأمر والنهي على علة توهن الانقياد والعمل، فهي في مثل معارضة أحكام الشرائع بالآراء والعقول، كقولهم في الجاهلية: كيف نأكل مما قتلناه بأنفسنا، ولا نأكل مما قتله الله؟ وكقولهم: كيف حرم الربا، وإنما البيع مثل الربا؟ وغير ذلك من معارضة الأحكام الشرعية بمجرد الآراء[14].

والعبادة هي ما أمر به الشارع حكمًا من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، مع اعتقاد أن الله سبحانه لم يخبر بما ينفيه العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل ﴿وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗا [الأنعام: 115] فلا يوجب الله شيئًا إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة، فالعقول المؤيدة بالتوفيق ترى أن ما أخبر الله به رسوله هو الحق الموافق للعقل والحكمة، أما العقول المضروبة بالخذلان فإنها ترى المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع، فتقع في اضطراب في التفكير وعدم التصديق والعمل.

* * *

[14] قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): إنه يجب على كل مسلم التصديق بما أخبر الله به ورسوله، وأنه ليس موقوفًا على أن يقوم دليل عقلي على ذلك الأمر أو النهي بعينه، فإن مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن الرسول ﷺ إذا أخبر بشيء وجب علينا التصديق به، وإن لم نعلم بعقولنا حكمته ومن لم يقرّ بما جاء به الرسول ﷺ حتى يعلمه بعقله، فقد أشبه الذين قالوا: ﴿لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ [الأنعام: 124]، ومن سلك هذا السبيل فليس قي الحقيقة مؤمنًا بالرسول ولا متلقيًا عنه الأخبار بالقبول ولا فرق عنده بين أن يخبر الرسول بشيء من ذلك أو لم يخبر به، فإن ما أخبر به إذا لم يعلمه بعقله لا يصدق به، بل يتأوله أو يفوضه، وما لم يخبر به إن علمه بعقله آمن به، فلا فرق عند من سلك هذا السبيل بين وجود الرسول ﷺ وإخباره وبين عدم وجود الرسول ﷺ وإخباره، وصار ما يذكر من القرآن والحديث والإجماع عديم الأثر عنده... انتهى.