متقدم

فهرس الكتاب

 

الأنظمة والقوانين

يقول الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيۡتَ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودٗا ٦١ [النساء: 60-61].

ويقول: ﴿وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ يَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠ [المائدة: 49-50].

الأنظمة والقوانين إنما نَظَّمَ مناهجها وقرّر حججها قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، صنعوها بمثابة المصطلح لهم على حسب أديانهم وبلدانهم وأخلاقهم ومذاقهم وعوائدهم، وإنما دخلت على المسلمين من باب العدوى والتقليد الأعمى، وصدق عليهم ما أخبر به رسول الله ﷺ، حيث قال: «لَتَأْخُذَنَّ مَا أَخَذَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرِ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ»[11]، وصدق عليهم المثل: أعط صاحبك تمرة فإن لم يقبلها فأعطه جمرة.

فهي مبنية على عزل الدين عن الدولة، والدين ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

تبيح للناس ما حرم عليهم من الربا والزنا الواقع بالتراضي، وشرب الخمر إذا لم يحصل من شاربها تعدٍّ على الناس، ويعدون السماح بهذه الأشياء من تمام حرية الشخص.

ترفع ولاية الولي الشرعي عن ابنته وموليته ورقابته عليها وتعطيها الحرية التامة تتصرّف كيف شاءت.

تقوم بحماية حرية الرأي[12]، بحيث تبيح لكل ملحد وكافر أن يجهر بكفره وإلحاده، غير محجور عليه في رأيه حتى لو سب الله ورسوله علانية، أو كذب بالقرآن أو الرسول، فهي تحميه على حرية رأيه وفساد اعتقاده، بناءً منهم على عزل الدين عن الدولة.

لهذا تكثر المذاهب الهدامة في البلدان التي يحكم فيها بالأنظمة والقوانين، لعدم العقاب والعتاب عليهم فيما يقولون ويفعلون ومن أمِنَ العقوبة أساء الأدب فينشأ عنها فتنة في الأرض وفساد كبير، بينما الأحكام الشرعية الإسلامية تحمي عقيدة الدين أشد مما تحمي به الدماء والأموال، لكون الشريعة مبنية على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول. لهذا ترى البلدان التي يُحكم فيها بشريعة الإسلام ويُؤمر فيها بالمعروف ويُنهى فيها عن المنكر، تجدها آخذة بنصيب وافر من الأمن والإيمان والسعادة والاطمئنان، سالمة من الزعازع والافتتان، فكانت أعمالهم بارة وأرزاق الله عليهم دارة؛ لأن الدين بحكمته يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق، فله سيادة وسيطرة على النفوس لا تماثله النظم والقوانين.
لا ترجع الأنفس عن غيها
ما لم يكن منها لها زاجر
أما النظم البشرية مهما بلغت من إدراك وتفوّق، فإنها لن تكفل للبشر سعادتهم ولا حصول الراحة والأمان والاطمئنان لهم ولا حل مشاكلهم على الوجه الأكمل، بل هي بالضد من ذلك كله.

فإنها بِسَيْرِ أعمالها وقانون نظمها تنشئ المشاكل وتسهل ارتكاب الجرائم، من أجل أنه ليس فيها قصاص ولا حد ولا تعزير ما عدا السجن الذي يعده أكثر المجرمين بمثابة الراحة له عن الكد والسعي.

فلا بد للناس من التشريع الإلهي الذي يفوق سائر ما وضعه البشر من الأنظمة والقوانين؛ لأن علم الشريعة وأحكامها محيط بكل ما يحتاج إليه الناس في حاضرهم ومستقبلهم.

والناس إنما يخضعون وينقادون لحكم الشرع لعلمهم واعتقادهم أنه تشريع إلهي وله القوة الفعالة والوازع القوي في نفوس الناس.

فمتى قيل للحَجوج اللَّجوج: هذا مقتضى حكم الله ورسوله؛ وقف على حده وقنع بحقه وعرف أنه لا مجال للجدل مع حكم الله ورسوله.

لهذا تجد القضايا المعقدة والمشاكل العويصة إنما يتوصل إلى حلها عن طريق الفقه الإسلامي، وأكرم به متى كان صادقًا قاضيًا عالمًا حكيمًا.

وما كل من أمسك الكتاب حكيم.

أما إذا كانت هذه المشاكل عن طريق النظم والقوانين، فإنها تأخذ السنين بعد السنين بين حكم واستئناف وحل وإبرام حتى ينزف ما في جيبه من النقود.

إن شريعة الإسلام هي شريعة البشرية كلها ومدارها على حفظ الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.

فوقاية الحكومة بها وحفظ رعاياها عن التعدي على الحقوق وانتهاك الحدود أعظم من تسلحها بالحرس والجنود.

لأن القضاء الشرعي من أكبر ما تستعين به الحكومة على سياسة مملكتها وسيادة رعيتها واستقرار الأمن والهدوء في مجتمعها، وقد حذر النبي ﷺ عن سوء عاقبة رفع الأحكام الشرعية عن الأمة، فقال: «ما نقض قوم عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم شديدًا»[13]، وصدق الله ورسوله، فإن هذا الحديث بمثابة البرهان القاطع والصبح الساطع الذي يشهد بصحته الحس والواقع.

إن حكام المسلمين والزعماء المفكرين في حالة المناسبات والجلسات التي يعقدون الاجتماع لها للتذاكر في شؤون أمتهم وعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم فيتفق رأيهم على كلمة واحدة لا يختلف فيها اثنان.

وهي أن الأمر الذي فَلَّ حدهم وشتت شملهم وألقى العداوة بينهم هو تقصيرهم في أمر دينهم وخروجهم عن نظام شريعة ربهم وسنة نبيهم.

وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو اعتصامهم بدين الإسلام وأخلاقه وآدابه والمحافظة على فرائضه والتحاكم إلى شريعته، فإنه الكفيل بإصلاح الدنيا والدين، فهم يتناصحون بهذا ويتواصون بموجبه، ولم يبق سوى التنفيذ وسيكون لهذا التداعي تجاوب ولو بعد حين ﴿فَإِن يَكۡفُرۡ بِهَا هَٰٓؤُلَآءِ فَقَدۡ وَكَّلۡنَا بِهَا قَوۡمٗا لَّيۡسُواْ بِهَا بِكَٰفِرِينَ ٨٩ [الأنعام: 89].

* * *

[11] أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري. [12] إن حرية الرأي قد اشتهرت وانتشرت في البلدان التي أفسد التفرنج تربية أهلها فاستباحوا الجهر بكل ما يَعِنّ بالفكر من آراء الكفر غير محجور على أحدهم في رأيه، لأن المعتقدين لها قد تحللوا عن التقيد بشيء من حدود الدين وحقوقه وشرائعه وبنوا أمرهم على رأيهم فقط واخترعوا هذه التسمية لتكون بمثابة الوقاية عن وقوع العقاب بهم على جريمة كفرهم ومروقهم عن دينهم، فكانوا يجهرون بجحود الرب وإنكار الوحي وبعثة الرسل والتكذيب بالقرآن وبالرسول والتكذيب بالجنة والنار، ثم يعتذرون عن كل ما يقولون ويفعلون بحرية الرأي، كأنها تبرر لهم مساوئ أعمالهم وفساد اعتقادهم، ومع هذا الكفر المتظاهر ترى أحدهم يدَّعي الإسلام بمعنى الجنسية لا بالتزام أحكامه الشرعية، فتراه لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله ولا يدين دين الحق، قد خرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين. فهؤلاء عند علماء الإسلام أكفر من اليهود والنصارى، وضررهم على الناس أشد من ضرر اليهود والنصارى؛ لأن الفتنة بهم أشد من أجل أن الناس ينخدعون بهم من أجل انتسابهم لدينهم وكلامهم بلسانهم، ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسدهم أخلاقه، فإن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل والمرء على دين خليله وجليسه. إن حرية الرأي إنما تمدح إذا لم تخرج عن حدود الحق كما في الحديث أن النبي ﷺ قال: «قُلِ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا»، وقال: «أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» أما إذا خرجت حرية الرأي عن حدود الحق فإنها تدخل في مسمى الهوى، وإعجاب كل ذي رأي برأيه وقد أخبر الله بأنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وقال: ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ [المؤمنون: 71]. وقال: ﴿فَإِن لَّمۡ يَسۡتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهۡوَآءَهُمۡۚ وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيۡرِ هُدٗى مِّنَ ٱللَّهِۚ [القصص: 50]، وقال: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٢٣ [الجاثية: 23]. إن جهل الناس بكنه حرية الرأي وتساهلهم فيها وسكوتهم عنها مع حقيقة فتكها بالأعمال والأخلاق والآداب. إنه لمما يقود العامة إلى الخروج عن الإيمان وشرائع الإسلام، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأخلاق والأعمال والأحوال والتضارب في الآراء والأفكار وإعجاب كل ذي رأي برأيه. وعلى قدر انتشار هذه الفكرة يتضخم الجهل والطفور والطغيان ويستفحل الكفر والفسوق والعصيان وتسود الفوضى في الجماعات والأفراد حتى تكون من أقوى عوامل الانحطاط. أما رأيت النصارى في تعليل إباحتهم للزنا واللواط والخمور أن السماح بها يعدونه من إعطاء الشخص كمال حريته، وعلى هذا فَقِسْ. لهذا يجب على علماء المسلمين وعلى الكتّاب السلفيين وعلى القائمين بتحرير الجرائد والمجلات وتعميم نشرها، بأن يبينوا للناس فساد هذه الفكرة الأثيمة وما ينجم عنها من المضار العظيمة وأن القائلين لها إنما يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة ويبثون بينهم عوامل السفه والفساد والضلالة من كل ما يزيغ المسلم عن معتقده الصحيح من صالح الأخلاق والأعمال ويقوده إلى الإلحاد والانحلال. ولكون الذين تبنوا هذه الفكرة قد تحللوا من عُقَل الدين وحدوده وحقوقه فهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين لأنهم يحبون أن يعيشوا عيشة البهائم ليس عليهم أمر ولا نهي ولا حلال ولا حرام ولا صلاة ولا صيام، كما قال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]. إن العامة بما طبعوا عليه من السذاجة وعدم الرسوخ في العلم والمعرفة، قد يعتقدون على طول الزمان صحة ما يقوله هؤلاء في حال سكوت العلماء عن بيانها فتتغير بذلك عقولهم وعقائدهم وينقادون لداعي التضليل والتمويه. إن سبب انتشار حرية الرأي في الأمصار خاصة في هذا العصر هو إطلاق السراح للكتّاب المتطرفين في الدين وكتاب الجرائد المستأجرين في ترويج الباطل فترى أحدهم يطعن في صميم الدين فيكذب الرسول ويكذب بالقرآن كله بحجة حرية الرأي بدون أن يردعه أحد ولو تصدى له من يتحامل عليه بالطعن في أخلاقة وأعماله بذكر مساوئه وما عسى أن يكون واقعًا فيه، لأثارها عليه غضبًا وحربًا ولن يرضى بإطلاق حرية الرأي فيه نفسه، وهذا هو حقيقة ما عناه الشاعر بقوله:
يساق للسجن من سب الزعيم ومن
سب الإله فإن الناس أحرار
فمثل هؤلاء يجب قطع دابرهم بإبعادهم عن أوطان المسلمين لئلا يضلوا الناس ويفتنوهم عن دينهم وجناية التحرير الذي يتطلع إليها الصغير والكبير، ويترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير، إذ الجناية على الدين أشد من الجناية على الأنفس، والفتنة في الدين أشد من القتل. كما يجب مقاطعة الجرائد التي تقوم بنشر حرية الرأي متى كان هذا الرأي خارجًا عن حدود الحق والعدل لاعتبارها جرثومة فساد ومن أسباب خراب البلاد وضلال العباد؛ لأن حرية الرأي التي يلهج الإباحيون بها هي منصرفة إلى التحلل عن الفرائض والفضائل وإباحة منكرات الأخلاق والرذائل جهارًا، ويعتقدون أن هذه من الكمالات الأوروبية ويقول أحدهم: إن لكل هؤلاء الذين عودونا على التحرر شكر الإنسانية أجمع. ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡ‍ًٔاۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمۡۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞۖ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ ٤١ [المائدة: 41].
[13] رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي من حديث ابن عمر واللفظ للبيهقي.