متقدم

فهرس الكتاب

 

القضاء الشرعي

لقد مكث المسلمون ثلاثة عشر قرنًا والناس كلهم يتحاكمون إلى الشريعة الإسلامية، راضين بها ومنقادين لحكمها.

لأن الله سبحانه نصب الشريعة الإسلامية لعباده في الدنيا حكمًا قسطًا، تقطع عن الناس النزاع وتعيد خلافهم إلى مواقع الإجماع.

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡ [الأحزاب: 36]

﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٥١ [النور: 51].

فالقضاء الشرعي المبني على أساس متين من العلم والحكمة والعدل والقوة والأمانة هو رحمة من الله لعباده وراحة لهم قي قطع النزاع عنهم واستيفاء حقوقهم، إذ هو ظل الله في أرضه، يأوي إليه كل مظلوم من عباده ولولا من يقيمه الله لإنصاف المظلوم وردع الظالم لأكل الناس بعضهم بعضًا، إذ ليس كل أحد يقنع بحقه أو يقف على حده.
لو أنصف الناس استراح القاضي
وبات كل عن أخيه راضي
والقضاء وإن كان فيه خطر كبير وآثار تقتضي عنه التحذير[8]، لكن فيه أجرًا كبيرًا لمن خلصت نيته وصلح عمله، إذ هو من القيام لله بالقسط. وكن عالمًا إن القضاء فضيلة
وأجر عظيم للمحق المسدد
لأمر بمعروف وكشف ظلامة
وإصلاح ذات البين مع زجر معتد
إذا بذل الجهدَ المُحِقْ إن يصب يفز
بأجرين والمخطي له واحد قد
ولا بد من قاضٍ لفصل خصومة
مع الخطر البادي العظيم المشدد
والقضاء: هو الإلزام بالأحكام الشرعية، وهو فرض كفاية، وإذا لم يوجد غيره تعين عليه.

والأصل فيه قوله تعالى: ﴿يَٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَٰكَ خَلِيفَةٗ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [ص: 26].

والقضاء هو منصب شريف، إذ هو منصب أنبياء الله ورسله وخلفائه، وكان النبي ﷺ قاضيًا وأبو بكر قاضيًا وعمر قاضيًا وعثمان قاضيًا وعليّ قاضيًا.

ولما انتشرت الفتوح الإسلامية وامتد سلطان المسلمين على الأقطار الأجنبية عكف الصحابة جادين على تمهيد قواعد الدين وهدم قواعد الملحدين ونشر العلوم الإسلامية وفتح المحاكم الشرعية، فاستنبطوا الأحكام وبينوا للناس الحلال والحرام، وكشفوا عن قلوبهم سجوف البدع والضلال والأوهام.

فكانوا يتعاهدون القضاء والقضاة، بفتح الأبواب وإزالة الحجاب. ولمّا بلغ عمر أن سعد بن أبي وقاص قد اتخذ بابًا وحجابًا يمنعون الدخول عليه إلا بإذن، أرسل محمد بن مسلمة وأمره أن يحرق باب سعد قبل أن يكلم أحدًا من الناس، فمضى محمد بن مسلمة في سبيله حتى دخل العراق فاشترى حزمة حطب وأسندها على باب سعد فأحرقه وقال: عزمة من عزمات عمر وقد نفذتها.

وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري:

أما بعد: فإن القضاء آية محكمة أو سنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلُّمٌ بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، ومن ادعى حقًّا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه فإن أتى به وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت به بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا في حد أو ظنينًا في ولاء أو قرابة، فإن الله تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات والأيمان، ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق، وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة والخصوم، فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله.. فما ظنك بثواب عند الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام[9].

فهذه الرسالة هي من فنون الحكم وجوامع الكلم التي يجب على القاضي العدل التخلق بها والتأدب بآدابها لصدورها من الناصح المحدث الملهم والمهذب لرعيته، الذي جعل الله الحق على لسانه فأنطقه بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث أرسى في هذه الرسالة نظم القضاء وقواعده.

ومن أجل خطورة القضاء، قال النبي ﷺ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ، اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ» رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث بريدة.

وروى البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص، قال رسول الله ﷺ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، فأَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، وأَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» ونهى رسول الله ﷺ أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان. رواه البخاري عن عائشة.

واشترطوا في القاضي عشر صفات، كونه: بالغًا عاقلاً ذكرًا حرًّا مسلمًا عدلاً سميعًا بصيرًا[10] متكلمًا مجتهدًا ولو في مذهبه. قاله في مختصر المقنع.

إن طريق الإصلاح والعدل للقضاء والقضاة، هو أنه ينبغي للقاضي أن يحتسب في قضائه وأن يبكر في جلوسه لمباشرة عمله ويفتح أبواب محكمته ليتصل به الخصوم والشهود بسهولة ويتسع الوقت لسماع الدعوى وتسجيلها.

ويتأسى بسيرة مدراء الجامعات والكليات والمعاهد، الذين يباشرون أعمالهم وتعليمهم عند طلوع الشمس، فإن بركة اليوم في أوله وقد بورك لهذه الأمة في بكورها، ولأن الناس لسعة الوقت للقضاء أحوج إليه من غيره. ثم يبدأ بالنظر في قضية الأول فالأول من كل من يحضره وما يعرض عليه بدون أن يتقيد بعرض الشرطة للقضية، فيكون كالمحجور عليه إلا بإذنهم؛ لأن فيه تضييقًا على الناس.

ولو خصص للقضاء أعيان من الشرطة يكلفون بمباشرة الحضور عند جلوس القاضي لعرض الأقضية عليه عند جلوسه، لكان أفضل ليتم بذلك مصلحة التبكير، فلا يتعذر القاضي بالشرطة ولا الشرطة بالقاضي.

إن القضاء أمانة والقاضي بمثابة المستأجَر لتأدية هذه الأمانة في الأوقات المفروضة عليه حسب النظام من كل يوم.

فمن عدم الوفاء بهذه الأمانة، كون القاضي يغلق أبواب محكمته عليه ويترك الناس خلفها يغشاهم الذل والصغار، غير مكترث بهم ولا مهتم بأمرهم والنبي ﷺ يقول: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَفَقْرِهِمُ احْتَجَبَ اللَّهُ دُونَ حَاجَتِهِ» رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي مريم الأزدي.

ومع تحمل هذه الأمانة الكبيرة التي يترتب عليها المسؤولية من الله ومن الناس، فإن أكثر القضاة يضيع زمنًا طويلاً من الأوقات المفروضة عليه فيجعل شهرًا للعمرة وشهرًا للحج وشهرًا لصيام رمضان بمكة، ويوم فيوم لأعذار يذكرها ويترك الناس يموج بعضهم في بعض بالنزاع والخصام.

فهؤلاء يعتبرون مخالفين لنظام القضاء الشرعي الذي نص عليه الفقهاء من كل المذاهب.

فإن جلوس القاضي في ولاية عمله ومحل قضائه وحكمه أفضل من تطوّعه بحجه وعمرته؛ لأن جلوسه للقضاء يعد من الأمر المفروض عليه، أما تنقله بحجه وعمرته فغير مستحب في حقه وله وجه صحيح في القول بعدم صحته.

ولو نوزع فيما فيه غضاضة عليه من نقص راتبه على حساب غيبته وتعطيل وظيفته لقام وقعد وجدّ واجتهد في المطالبة بتكميله، والله سائل كل شخص عن ولاية عمله ﴿وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٠٥ [التوبة: 105].

* * *

[8] نشير إلى أحاديث وآثار عن السلف كثيرة، يخيل لبعض العلماء أنها خرجت مخرج الذم للقضاء والتحذير منه مطلقًا كحديث «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» رواه أحمد والأربعة من حديث أبي هريرة. وحديث «يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عُمْرِهِ»، وفي رواية «فِي تَمْرَةٍ» رواه البيهقي. فهذه الأحاديث وما في معناها إنما سيقت لبيان عظم المسؤولية وتحمل الأمانة العظيمة المترتبة على الدخول في القضاء، بحيث يحاسب الإنسان نفسه ويفكر في عظم مسؤوليته، فلا يقدم عليه إلا من وثق من نفسه بالقيام بواجبه، وحتى يحجم عنه من لا يستطيع تحمل أمانته لئلا تذهب حقوق الناس على يده، بسبب تقصيره بولايته. وإلا فإن القضاء في مواطن الحق هو مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذخر إذ هو من القيام لله بالقسط، وقد فسر بعض العلماء حديث «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» بأنه محمول على ما يلاقيه القاضي من المصاعب والمتاعب والمشقة والأذى من الناس في سبيل القضاء، وتنفيذه حتى مع عدله ما يجعله كأنه ذبح نفسه، حيث عرض نفسه للنكد والكدر وعدم الراحة، إذ لا أشق من القضاء وما يترتب عليه من الأذى، غير أن المكارم منوطة بالمكاره والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب وقد حفت الجنة بالمكاره.
في الحق ثقل وقاضي الأرض ممتحن
يمسي ونصف خصوم الناس يشكونه
زكـوه دهــرًا فلما صار قاضيهم
واستعمل الحق عـادوا لا يزكونه
[9] أخرجه الدارقطني، والبيهقي في السنن الكبرى. [10] إنه من الأمر المشكل على أهل البلاد، وخاصة بلاد الحراثة كونه يولى القضاء فيها من هو أعمى؛ لأنه وإن كان قد يوجد عند هؤلاء من سعة العلم والمعرفة بالحدود ومفاصل الحقوق ما لا يوجد عند الكثيرين من المبصرين، لكنه يفوت عليه الشيء الكثير مما عسى أن يدركه البصير وحسبك بخطر التزوير على خطه وختمه الذي يستبيحه الكثير في قديم الزمان وحديثه ممن له اختصاص بالقاضي فيتصرف في خطه وختمه باسمه؛ لأنه متى كان الغدر في الناس موجودًا فالثقة بكل أحد عجز، والله يقول: ﴿قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ إِنِّي مَلَكٌۖ إِنۡ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰٓ إِلَيَّۚ قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ٥٠ [الأنعام: 50]. وإنما شرط الفقهاء لولاية القضاء، كونه سميعًا بصيرًا؛ لأن القاضي بداعي الضرورة يحتاج إلى الاستعانة بقوة البصيرة فيما يقتضيه النظر وتوجيه الضرورة مثل دعوى الأضرار والطرق والشفعة والقسمة ومراسم الحدود والحقوق وعرض الأوراق والصكوك، فيعرف منها التحريف والطمس والتبديل بدلاً من أن يتكل في هذه الأمور على غيره فيقلدهم فيما يقولون، إذ ليس المخبر كالمعاين كما ثبت بذلك الحديث. ومما ينبغي أن ننصح به هو التحفظ على رواتب هؤلاء القضاة في حالة الاستغناء عنهم، بحيث توفى لهم رواتبهم كحالتهم السابقة لاستحقاقهم لذلك من جهات عديدة، أو ينقلون برواتبهم إلى أعمال غير متعبة، كالتعليم أو الوعظ أو الإرشاد أو عمل مما يحتاج إليه الناس.