متقدم

فهرس الكتاب

 

لكلّ حادثٍ حَديث

إن فقهاء الإسلام وجهابذة العلماء الأعلام قد قاموا بتدوين فقه الإسلام أتم قيام، فحفظوا نصوص الأحكام، وبينوا للناس الحلال والحرام، وقرروا أصولاً من القواعد الفقهية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، بذلوا غاية جهدهم واجتهادهم في تحقيقها وتنقيح مناطها بأمانة الإسناد وغزارة الاستنباط.

وهي وإن لم تنص على كل عقد باسمه، لكنها كافية لحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، إما بالنص أو الاقتضاء أو التضمين أو القياس الصحيح المقتضي لإلحاق النظير بحكم نظيره.

كما في رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حيث قال: الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما لم يكن في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق [5].

غير أن الناس يتفاوتون في التحقيق وسياسة التطبيق وفي العلوم والفهوم أعظم من تفاوتهم في العقول والجسوم، و «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».

إنه في هذا الزمان، لمّا كثر اختراع الصناعات وفاض المال على الناس من جميع الجهات، استدعت الحاجة إلى إحداث شركات ومعاملات لم تكن معروفة في السنين السابقة كشركات التأمين بأنواعها والمقاولات على البنيان وبيع الأسهم من الشركات، ومشاكل التعامل بالأوراق النقدية، وغير ذلك من سائر المعاملات المحدثة التي لم تكن معروفة في السنين السابقة، فأشكل على بعض الناس فهمها والإحاطة بحقيقة حكمها لصعوبة تطبيقها على قواعد الفقه المقرّرة في فقه المذاهب المتداولة بأيدي العلماء.

لهذا ظن من ظن أن هذه المعاملات لن يوجد لها أصل يرجع إليه ولا نظير يقاس عليه.

وهذا الاعتقاد ليس بصحيح، فإن كل ما يقع بين الناس من المشاكل في العقود والشروط والشركات وسائر المعاملات المستحدثة، فإن طريق حلها وبيان صحيحها من فاسدها سهل ميسر عن طريق الفقه الإسلامي الصحيح بدون رجوع ولا حاجة إلى الأنظمة والقوانين ﴿وَلَوۡ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنۡهُمۡ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسۡتَنۢبِطُونَهُۥ مِنۡهُمۡ [النساء: 83].

غير أن علم الفقه بحر لا ساحل له، واستنباط درر المسائل اللازمة لحل المشاكل يتوقف على مهارة علمية واسعة وملكة راسخة وسياسة حكيمة لعمل التحقيق وسياسة التطبيق، وذلك بِرَدِّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها حتى يجد القاضي طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل، وتمييز الصحيح من الفاسد، فالفقه على النحو الذي تحفظ به الحدود والحقوق بميزان العدل والتحقيق ويسلك بالأمة أقوم الطريق إنما يستطيعه من امتلأ قلبه من أحكام علوم القرآن والحديث، ثم عمل عمله في البحث عن هذا التشريع فعرف منها مقاصد الشارع والمصالح والمفاسد بميزانها الصحيح العادل.

لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يمثلون الوقائع بنظائرها ويشبهونها بأمثالها، ويردون بعضها إلى بعض في أحكامها، ففتحوا للعلماء باب الاجتهاد في الاستنباط ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سنة تطبيقه وتحقيقه.

لأن دين الإسلام كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع بعد أزمان، صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام، ولم يتحمل أمانة رسالة البشرية كلها إلا وفي علومه وعقائده وقواعده حل مشاكلهم في حاضرهم ومستقبلهم، فلا واقعة إلا ولها حكم مدلول عليها بالنص أو بأصل من الأصول المستحدثة من النصوص.

إذا ثبت هذا، فإننا متى عرفنا تمام المعرفة أن هذه العقود والشروط والشركات المستحدثة، كشركة التأمين وغيرها، أنها قد تغلغلت في البلدان وراجت في الأذهان، ومن لوازمها أن تنشأ عنها المنازعات والخصام ثم الترافع إلى القضاة والحكام، في سبيل إزالة الشقاق وعمل الوفاق؛ لهذا يصير قضاة الشرع ملزمين بتحقيق النظر في حكم هذه المعاملات والاستعداد لكشف ما يشكل منها عند المنازعات.

لأنهم متى سكتوا عن الحكم في هذه القضايا أو أعرضوا عنها، بدعوى التورّع منها أو حكموا فيها بالتحريم بدون دليل وقد راج بين الناس إباحتها، فحينئذ يظن قضاة النظم والقوانين أنه من قصور فقه الإسلام عن حل مثل هذه المشاكل العظام فيسيئون الظن بالإسلام وبالقضاة الشرعيين، ويظنون أنهم إنما يحكمون بمجرّد آرائهم، ومن المعلوم أنهم إذا لم ينظروا في مثل هذه القضايا بعلم وحكمة، فإنه لابد أن ينصرف إلى غيرهم.

ولهذا قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجامد والجاحد.

وقد قالوا: إنها إنما دخلت القوانين في بلدان المسلمين، كله من أجل القضاة[6] الضعيفة مداركهم والضيقة أعطانهم والمتحجرة أفهامهم، فكانوا يعاملون الناس بالتعليل والتمليل في أقضيتهم وأحكامهم، فسئم الناس من سوء معاملتهم لهم ولجؤوا إلى القوانين لظنهم أنها تقوم بحل مشاكلهم، فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار.

ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: اللهم إني أشكو إليك من جلد الفاجر وعجز الثقة[7].

وإن غاية ما نهتم به في هذا البحث هو تفصيل أشياء من العقود والمعاملات الغامضة والرائجة بين الناس، كشركات التأمين على اختلاف أنواعها، وبيع الأسهم من الشركات، واستبضاع السلعة وبيع الأنموذج والتبايع بالأوراق النقدية، وغيرها من المشاكل، فنخرجها للناس من حيز الخفاء والغموض إلى حالة التجلي والظهور بالدلائل القطعية المستنبطة من نصوص الكتاب والسنة وعمل الصحابة، حسبما وصل إليه علمنا، وقد يظهر لغيرنا ما عسى أن يخفى علينا، إذ لا علم لنا إلا ما علمنا ربنا ﴿وَفَوۡقَ كُلِّ ذِي عِلۡمٍ عَلِيمٞ ٧٦ [يوسف: 76].

* * *

[5] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى. [6] لقد عم النقص في هذه الأزمنة في علم الفقه وحملته وقَلَّتْ رغبة الناس في تعلمه بعد إنشاء المدارس والجامعات والكليات العصرية التي من شأنها اختصار حصة العلوم الشرعية، فكان الشخص إذا تخرج من إحدى الجامعات أو الكليات أو تقلد وظيفة القضاء أو الإدارة أو أي وظيفة، انصرف غالبًا بكل جهوده ونشاطه عن البحث والتفتيش والتأليف من كل ما يقتضي تعاهد العلم وزيادته ونفع نفسه والناس به، حتى كان الحصول على الوظيفة هي مبلغ علمه وغاية قصده وبعدها ألقى عصا التسيار عن تعاهد علمه والسعي في توسعته؛ لأن محبة العلم الحقيقي لم تخالط بشاشة قلبه، على أن أحد هؤلاء قد أعطي صحة في الجسم والسمع والبصر وقوة في الحفظ والفهم من كل ما يؤهله إلى التوسع في العلوم والفنون، لكنه يكسل عن استخدام هذه القوى في سبيل ما خلقت له، ويستولي عليه الخمول والاتكال على غيره فيما يعد من واجبه، فيذهب علمه على أثر تعطيله وينسى الكثير مما يحفظه، لكون التعطيل يذهب التحصيل، فيكون بمثابة السيف المدسوس دائمًا في غلافه وقت الحاجة إلى الجهاد به، فإن الجهاد بالحجة والبيان آكد من الجهاد بالسيف والسنان، والعاشق للعلم على الحقيقة يواصل عمله في تعاهد علمه وتوسعته من المحبرة إلى المقبرة. [7] ذكره ابن تيمية في منهاج السنة.