(9) رسالة إلى المسؤولين عن التعليم بشأن الإخلاص في العمل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إلى وزراء التربية والتعليم وإلى مديري المعاهد والجامعات والمدرسين والمتعلمين
سلام الله ورحمته عليكم أجمعين
أما بعد:
فإن المحبة الودية توجب علينا النصيحة الدينية، فإن الدين النصيحة لله ولدينه ولعباده المؤمنين.
وقد أوجب الله علينا أن ننصح من ولاه الله شيئًا من أمرنا، وإنه من المعلوم عند كافة الناس العام منهم والخاص أن وزارة التعليم قامت وتقوم بعمل كبير، تنفق فيه عزيز المال الكثير في محاولة إيصال النفع بالعلم ومحاربة الجهل عن الذكر والأنثى والصغير والكبير، لكنها بداعي الحاجة وعموم المصلحة تحتاج إلى رعاية وعناية مستأنفة من جديد فيما يتعلق بأمر الدين في توسيع حصته، وتكليف الطلاب بالقيام بفرائضه، والتخلق بآدابه وفضائله، وتربية النشء على محبته؛ لأن الدين هو عقيدة الإسلام وهو بمثابة الروح لكل إنسان، فضياعه من أكبر الخسران؛ لأنه يهذب الأخلاق، ويطهر الأعراق، ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، فهو رأس كل خير، كما أن عدم الدين أصل كل شر، وإنما تنجم الحوادث الفظيعة والجرائم الشنيعة من القتل والنهب وهتك الأعراض والسرقة وشرب الخمور، والتوسع في فنون الفجور والشرور من العادمين للدين الذين لا يرجون عند الله ثوابًا ولا يخافون عقابًا، فلا يبالون بما يفعلون، بخلاف المتدين بدين صحيح فإن دينه ينهاه؛ إذ الدين أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأعظم رادع عن ارتكاب المنكرات.
لا ترجع الأنفس عن غيّها
ما لم يكن منها لها زاجر
ولهذا يقال: إن كل متدين متمدن، فإذا أردت أن تعرف فضل الدين وعموم نفعه وحصول الوقاية عن الشر بالتخلق به، ثم تعرف خسارة فقده والتخلق بضده، فانظر إلى البلدان التي قُوضت منها خيام الإسلام، وترك أهلُها فرائضَ الصلاة والصيام، واستباحوا الجهر بالكفر والفسوق والعصيان، ثم انظر كيف حالهم، وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون عن قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض وأكثرهم فاسقون.
إن صلاح التعليم ينجم عن صلاح الرأس والرئيس، ومن تضم منصة التدريس، فكل إناء ينضح بما فيه، وعادم الخير لا يعطيه، فمتى صلح التعليم صلح العمل وحسنت النتيجة، ومتى ساء التعليم ساء العمل وساءت النتيجة.
وإن الأمراء والوزراء والرؤساء ومجلس الشورى كل هؤلاء بمثابة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه من دخول الإلحاد وتسرب الفساد إلى البلاد والأولاد، لاعتبار أنهم متكاتفون متكافلون على إيصال المنافع ودفع المضار، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، يأخذون على أيدي سفهائهم ويأطرونهم على الحق أطرًا؛ أي يلزمونهم به إلزامًا، فمتى قصَّر هؤلاء في حماية دينهم ووطنهم وأهملوا أولادهم فلم يردعوهم عما يضرهم، وتركوا الخمور تُجلب إلى بلادهم، والحوانيت تُفتح لبيعها بحيث تكون في متناول كل يد من كل أحد، وصار مآل أمرهم هو التلاوم فيما بينهم بدون أن يناصحوا من ولاه الله أمرهم، فإنه بذلك يتحقق خراب البلاد وفساد العباد وخاصة النساء والأولاد، بحيث تنطبع أخلاق السوء والفساد فيهم.
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يُفيد ولا أديبُ
فالعلم بأحكام شرائع الدين ثم تطبيق العمل بها هو مما يكسب حصول العلم والتوفيق فيه، وخاصة المحافظة على الصلاة جماعة في المدرسة متى دخل وقت الفريضة وهم في دوام الدراسة، فقام الطلاب والأساتذة والفراشون فأذَّنوا بالصلاة ثم أقاموها، وتقدم بهم أمراؤهم فصلوها جماعة، فإن المحافظة على الصلاة هي من أكبر ما يُستعان به على تهذيب أخلاق البنين والبنات؛ لأنه لا إسلام ولا دين إلا بالعمل، فالعمل بشرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام هو الذي يحقق الإسلام ويصدقه، كما روى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ قال: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ». معنى كون الإسلام علانية أن المسلم على الحقيقة لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس بحيث يرونه يصلي مع المصلين، ويصوم مع الصائمين، ويؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، ويميل بمحبته وموالاته ونصرته إلى أهل الدين، فيظهر بذلك إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه.
أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يدين دين الحق فلا شك أن إسلامه كاذب بالحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.
فالتكاتف على العمل بشرائع الإسلام هو الذي يوحّد المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويصلح ذات بينهم، ويجعلهم مستعدين للنصر على عدوهم، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الله قد أعزكم بالإسلام، ومهما طلبتم العز في غيره أذلكم الله.
وقد ورد أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وقد أخرجه ابن النجار في ذيل التاريخ من حديث أنس أن النبي ﷺ قال: «لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي، وَلكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ». وقال الحسن: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقول: إني لحسن الظن بالله. وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل[145]. وخطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد موت رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس، إنما كنا نعرفكم ورسول الله حي ينزل عليه الوحي إذ ينبئنا الله من أخباركم، وإن رسول الله قد انطلق به، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نعرفكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا منكم خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا منكم شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه عليه.
فالذي يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يصوم ولا يحرم ما حرم الله ورسوله من الربا والزنا والخمر لا شك أن إسلامه لا حقيقة له، بل هو إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان، ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَمَا هُم بِمُؤۡمِنِينَ ٨ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَمَا يَخۡدَعُونَ إِلَّآ أَنفُسَهُمۡ وَمَا يَشۡعُرُونَ ٩﴾ [البقرة: 8-9].
لأن للإسلام صوى ومنارًا كمنار الطريق يعرف به صاحبه كما ورد بذلك الحديث[146]، فعقيدة الإسلام أنه قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيفرح بذكره، ويندفع إلى القيام بفرضه ونفله، طيبة بذلك نفسه منشرحًا به صدره.
وإذا حَلّتِ الهدايةُ قلبًا
نشطت في مُرادها الأجسامُ
﴿وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا﴾؛
أي: ضيقًا بذكر الإسلام، حرجًا من أمره ونهيه وصلاته وصيامه وسائر حدوده وأحكامه، يألف البطالة وينفر عن الطاعة في الله، فنسيه، وقد حذر الله المؤمنين أن يكونوا أمثاله فقال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَىٰهُمۡ أَنفُسَهُمۡۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ١٩﴾ [الحشر: 19]؛ أي أنساهم مصالح أنفسهم الدينية والدنيوية.
[145] أخرجه ابن أبي الدنيا في الوجل والتوثق بالعمل. [146] عزاه في مجمع الزوائد للطبراني في الكبير عن أبي الدرداء، ولفظه:«إن للإسلام صوى وعلامات كمنار الطريق..».