الصلاة جماعة
شرع الإسلام اجتماع المسلمين في الصلاة بنظام خاص وتساوٍ في الصفوف وتراص، وقد جعلت صفوف المصلين كصفوف الملائكة لقول النبي ﷺ: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟»[147]. قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يُتِمُّونَ الصَّفَّ الْأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ». وشرع بناء المساجد للاجتماع للصلاة، كما شرع الأذان على المآذن العالية لإبلاغ الناس دخول وقت الصلاة ليتأهبوا بالحضور إليها، وورد الوعيد الشديد فيمن سمع النداء بالصلاة ثم لا يجيب، وأن التخلف عن الصلاة وعدم إجابة النداء إليها من صفة المنافقين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا نَادَيۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوٗا وَلَعِبٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَوۡمٞ لَّا يَعۡقِلُونَ ٥٨﴾ [المائدة: 58] فنفى الله عنهم العقل الصحيح لعدم إجابتهم لنداء الصلاة الذي هو نداء بالفلاح والفوز والنجاح؛ لأنه إنما يُسمى العقل عقلاً لكونه يعقل عن الله مراده؛ أي أمره ونهيه، أو من أجل أنه يعقل صاحبه على المحافظة على الفرائض والفضائل، ويردعه عن منكرات الأخلاق والرذائل، كما قيل:
والعقل في معنى العقالِ ولفظه
فالخيرُ يعقل والسّفاه يحلّهُ
فعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ، ثُمَّ لَمْ يَأْتِ، فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ». رواه ابن حبان والحاكم وإسناده على شرط مسلم لكن رجح بعضهم وقفه، وروى الإمام أحمد عن معاذ عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّ الْجَفَاءَ، وَالْكُفْرَ، وَالنِّفَاقَ، فِيمَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللهِ يُنَادِي بِالصَّلَاةِ، فَلَا يُجِيبُهُ»، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أنه قال: رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. وقد همَّ رسول الله ﷺ بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لولا ما اشتملت عليه البيوت من الذرية والنساء الذين لا تجب عليهم الجماعة؛ واستأذنه ابن أم مكتوم وهو أعمى وبينه وبين المسجد نخل وواد على أن يصلي في بيته، فقال له: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ؟». قال: نعم. قال: «فَأَجِبْ»، كما ثبت في الصحيحين، فلم يسمح له بالتخلف عن الجماعة.
وحسبك أن الله أمر بالصلاة جماعة في حالة القتال وحمل السلاح وتقابل الصفوف، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡ﴾ [النساء: 102]، وقد ترجم العلماء لهذا في كتب الحديث والفقه بـ «باب صلاة الخوف».
ولم يُحفظ عن رسول الله ﷺ أنه تخلف عن الجماعة مرة واحدة إلا في حالة مرضه الذي تُوفي فيه.
وهذه الأدلة تتعاضد على وجوب صلاة الجماعة إذا لم يكن ثمة عذر يبيح التخلف، وهذا الوجوب يثاب فاعله ويعاقب تاركه، كما أنه الظاهر من مذهب الإمام أحمد وكثير من المحدثين، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. قال ناظم المفردات:
في كل فرض تجب الجماعهْ
وقال باشتراطها جماعهْ
إن الصلاة مع الجماعة يترتب عليها حكم عديدة، ومصالح مفيدة، أهمها الخروج من عهدة من قال بوجوبها، كما أنه الراجح بالأدلة الواضحة. ومنها حصول الفضل المترتب على فعلها مع الجماعة. ومنها تنشيط الأجسام والقلوب على الاجتماع لها حيث إن بعض الناس ينشّط البعض على فعلها، وملاقاة الرجال فيه تقوية لأجسامهم وتلقيح لأفهامهم. ومنها التمرن على استمرار فعلها مع الجماعة حتى تكون محبتها ملكة راسخة في قلب أحدهم تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، حتى تكون في نفسه لذة وسرورًا، ومتى فاتته هذه الفريضة مع الجماعة علم أنه قد خسر شيئًا كبيرًا من الفضيلة والأجر. ومنها أن التهاون في فعلها مع الجماعة مدعاة إلى التهاون بها ثم إلى تركها. ومنها حصول الفضل المترتب على التخطي إليها حيث يكتب له بكل خطوة حسنة ويُمحى عنه بكل خطوة سيئة. ومنها حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين بحيث يلقى الرجل أخاه في صلاة الجماعة كل يوم خمس مرات فينجذب قلبه لمحبته والعطف عليه، فيسلم عليه إذا لقيه، ويسأل عنه إذا افتقده، ويعوده في مرضه، وقد قيل: إن الحكمة في مشروعية صلاة الجماعة هو حصول التعارف والتآلف بين المسلمين المصلين وإزالة الإِحن والشحناء عنهم؛ لأن التقارب بالأبدان مدعاة إلى التقارب بين القلوب، والتباعد بالأبدان مدعاة إلى التنافر بين القلوب، على حد ما قيل:
وإن تدنُ مني تدنُ منك مودتي
وإن تنأَ عني تلفني عنك نائيا
ولأجله قال ﷺ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ فِي ذِمَّةِ اللهِ حَتَّى يُصْبِحُ»، ولأن هذين الوقتين هما أثقل صلاة على المنافقين، وقال: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ كَقِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ» رواه مسلم من حديث عثمان بن عفان.
والحاصل أن الصلاة مع الجماعة هي من لذائد الحياة مَنْ ذاق منها عرف، ومن حُرم انحرف، كما قال النبي ﷺ: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»[148].
إن أعظم الناس بركة وأشرفهم مزية ومنزلة الرجل يكون في المجلس أو في المدرسة فيسمع النداء بالصلاة فيقوم إليها فرحًا، ويأمر من عنده من الجلساء والزملاء والتلاميذ بأن يقوموا إلى الصلاة معه فيصلون جماعة، يعلوهم النور والوقار على وجوههم، كل من رآهم ذكر الله عند رؤيتهم، أولئك الميامين على أنفسهم والميامين على جلسائهم وتلامذتهم، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.
وبضد هؤلاء قوم يكونون في المجالس أو في المدارس أو في النوادي والمقاهي فيسمعون النداء بالصلاة فلا يجيبون، ألسنتهم لاغية، وقلوبهم لاهية، قد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، فهؤلاء هم المشائيم على أنفسهم والمشائيم على جلسائهم وتلامذتهم.
يشقى رجالٌ ويشقى آخرون بهمْ
ويُسعد الله أقوامًا بأقوامِ
[147] أخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة. [148] أخرجه النسائي والإمام أحمد من حديث أنس.