متقدم

فهرس الكتاب

 

العبادات الشرعية وما تُكسبه من الأخلاق المرضية

إن الله سبحانه خلق الخلق ليعبدوه، وركب فيهم العقول ليعرفوه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ليشكروه.

والعبادة، وإن كان قد يرى بعض الناس من الكسالى أن فيها نوع ثِقَلٍ عليهم كعبادة الصلاة والزكاة والصيام، لكنها حسنة العاقبة؛ لأن الحق ثقيل على النفوس لكنه مريء، كما أن الباطل خفيف على النفوس لكنه وبيء، فقد حُفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، يقول الله تعالى: ﴿وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ؛ أي ثقيلة ﴿...إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ ٤٥ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ٤٦ [البقرة: 45-46]، فالمؤمنون الذين يعتقدون أن الله سيثيبهم على حسناتهم وصلاتهم، فإن الصلاة تكون سهلة عليهم، بل هي لذة أرواحهم ونعيم أجسامهم، وكذلك عبادة الصيام وسائر عبادات الإسلام.

والعبادات على اختلاف أنواعها هي تنزيل الحكيم العليم، شرعها وأوجبها من يعلم ما في ضمنها من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها هي أسباب سعادتهم الدينية والدنيوية؛ لأن الله سبحانه لا يوجب شيئًا من الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام إلا ومصلحته راجحة ومنفعته واضحة، ولا يحرم شيئًا من المحرمات كالربا والزنا وشرب الخمر إلا ومضرته واضحة ومفسدته راجحة.

فهو سبحانه لم يكن ليذر الناس مهملين بدون أمر ولا نهي، ولم يكن ليكلهم إلى عقولهم وآرائهم ولا إلى عاداتهم وتقليد آبائهم، بل أرسل رسله وأنزل كتبه وبين للناس ما نزل إليهم من الشرائع والأحكام، فأوجب الفرائض وسن النوافل وبيّن للناس الحلال والحرام، فحاجة الناس إلى العلم بالواجبات ثم العمل بها، هي حاجة ضرورية أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن العبادات الشرعية تغرس في النفوس محبة الرب والتقرب إليه بطاعته، ثم صلاح الروح والقلب اللذين تترتب عليهما السعادة وحسن الاستقامة، فليس للناس صلاح ولا فلاح ولا سعادة ولا استقامة إلا بالعقيدة الصحيحة التي تصدر عنها الأعمال الصالحة من المحافظة على الفرائض والفضائل واجتناب منكرات الأخلاق والرذائل، وبذلك يسمى المؤمن: عبد الله لكونه قد أطاع الله في أمره واجتنب نهيه وعبده بما شرع له، إذ الفرق شاسع بين من يسيرون في حياتهم على عقيدة صحيحة، وبين من يسيرون على غير عقيدة أو على عقيدة باطلة.

ثم إن العبادات الشرعية جعلها الله بمثابة الفرقان بين المسلمين والكفار والمتقين والفجار، وبمثابة محك التمحيص لصحة الإيمان، بها يعرف صادق الإسلام من بين أهل الكفر والفسوق والعصيان؛ لأن الله سبحانه لم يكن ليذر الناس على حسب ما يدعونه بألسنتهم بدون أن يختبرهم على صحة نياتهم بحيث يقول أحدهم: أنا مؤمن، أنا مسلم، فاقتضت حكمته بأن يختبرهم ويمتحن صحة إيمانهم بالأعمال؛ أي بالفرائض والنواهي التي تحقق صحة إيمانهم، يقول الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ [العنكبوت: 2]؛ أي لا يختبرون ولا يمتحنون على صحة ما يدعون، ﴿وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ [العنكبوت: 3]؛ أي من الأمم السابقة اختبرناهم بالأوامر والنواهي الشرعية، ﴿فَلَيَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٣[العنكبوت: 3] الذين قالوا: آمنا، بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ولم تنقد للعمل به جوارحهم، وكان حظهم من الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بدون عمل ولا انقياد لحكمه، وهذا الإيمان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان.

ومنها أن العبادات الشرعية ترفع المسلم عن مشابهة الحيوانات البهيمية، فالقوم الذين تركوا فرائض ربهم ونسوا أمر آخرتهم وصرفوا جل عقولهم وجل أعمالهم وجل اهتمامهم للعمل لدنياهم واتباع شهوات بطونهم وفروجهم، قد رضوا لأنفسهم بأن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، ولا صلاة ولا صيام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]، بل جعلهم الله شرًّا من الأنعام فقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ذَرَأۡنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِۖ لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ [الأعراف: 179]، فلم يقتصر سبحانه على مساواتهم بالأنعام بل جعلهم أضل.

فإذا أردت أن تعرف قيمة شأن العبادات الشرعية وما تُكسبه من الفضائل الخلقية والفوائد الاجتماعية، فانظر إلى البلدان العربية التي ترك أكثر أهلها العبادات الشرعية، ثم انظر كيف حالهم وما دخل عليهم من النقص والجهل والكفر وفساد الأخلاق والعقائد والأعمال، حتى صاروا بمثابة البهائم يتهارجون في الطرقات، ويتسافلون تسافل الحيوانات، لا يعرفون صيامًا ولا صلاة، ولا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتنعون من قبيح ولا يهتدون إلى حق، قد ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، تشابهت قلوبهم وأكثرهم فاسقون.
عُمي القلوبِ عروا عن كلٍّ فائدةٍ
لأنهم كفروا باللهِ تقليدا

* * *