الحاكم بمثابة العقل المفكر والرأي المدبر لشؤون رعيته
إن الحاكم يجب أن يكون بمثابة العقل المفكر والرأي المدبر لشؤون أمر رعيته وبلده، فيفتح أبواب العلم والتعليم لمختلف العلوم والفنون على مصارعها، ويجلب لهم ما يحتاجون إليه من صنائع وصناع وأطباء وأساتذة لسائر العلوم والفنون، ثم يوعز للطلاب بأن يتعلموا ويعلموا في بلادهم بين أهلهم وأقاربهم، ليكون احتفافهم بأهلهم وبني جنسهم أعون على تهذيبهم وتأديبهم، لاندماج الأخلاق بالأخلاق، وعلى الحكومة أن تعمل في غلق هذا الباب، ولا تسمح لسفر أي طالب من الطلاب، إلا من يسافر في عمل وتعلم شيء لا يمكن إدراك الحصول عليه في البلد كعلم الطب أو شيء من علم الهندسة؛ لاعتبار هذا من الأمور الاستثنائية - إذ لا بد من استثناء بعض التخصصات - ثم يحكم غلق الباب عن سفر الطلاب فيما عدا هذه الأمور الضرورية.
ثم ينبغي للحكومة أن تصرف عنايتها واهتمامها للمتعلمين داخل البلاد بحيث لا يكون المتخرج في الخارج أرقى راتبًا ورتبة من المتخرج في الداخل؛ لكون التفوق للخارج في الراتب والرتبة يوهن تعلم الداخل في البلد ويجعله يكسل عن مواصلة عمله في تعلمه.
ثم إن الحكومة تستفيد اختصار النفقات العظيمة من المرتبات وأُجور الطائرات، كما تستفيد أيضًا طرح شيء كثير من العناء والشغل في سبيل سفرهم وذهابهم وإيابهم. وكما يستفيد أهل الطالب عدم الانشغال بسفر ولدهم وتوفير ما كانوا يوافونه به من النفقات. فإن أكثر الطلاب لا يكفيه راتبه الشهري على كثرته بل لا يزال يلاحق أهله في إرسال زيادة على مرتبه، مع العلم أن مؤن المعيشة وأجور المساكن تزداد غلاء كل يوم، خاصة في تلك البلدان.
فمتى عملت الحكومة عملها في سبيل التعلم في بلادها، وصرفت مرتبات الطلاب الشهرية لهم في بلدهم، فإن الطالب يستفيد منها أكثر كما أن أهله يستفيدون منها، وتستفيد البلاد من انتشار هذه الرواتب الكثيرة فيها وتستفيد الحكومة شيئًا من الراحة من العناء والشغل في دائرة أعمالها.
لقد عرفنا من أخلاق حكامنا الأكرمين رسوخ الحب في قلوبهم لرعاياهم، وأنهم يحبون أن يوصلوا إليهم كل ما ينفعهم ويدفعوا عنهم كل ما يضرهم بكل سبيل حسب استطاعتهم، وأنهم متى تنبهوا لمثل هذا الرأي السديد والأمر المفيد، فأسفر لهم صبحه واتضحت لهم مصلحته وعموم منفعته في أمر الدنيا والدين، فإنهم يستقبلونه في صالحهم وصالح رعيتهم، ثم يتواصون ويتناصحون بالعمل به واعتماد تنفيذه؛ لاعتبار أنه حق يجب اتباعه وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون؟!
غير أن مثل هذا الرأي قد لا يوافق أذواق الكثير من الطلاب، وتنابذه نزعاتهم، ولا عجب فإن الحق لا يتمشى على رغبة الناس، وقد يكون الخير في ضمن ما يكره الناس، وما أنا إلا صديقهم الحفي أُخلص لهم نصحي حتى ولو كان مرًّا في حلوقهم، فإن الصديق المخلص هو من يجرع صديقه الدواء المر ليقيه من الوقوع في الضر.
فإن المُرَّ حين يَسُـرُّ حُلْوٌ
وإن الحُلْوَ حين يَضُـرُّ مُرُّ
وإننا متى قابلنا بين المتخرجين في بلدان أوربا وبين المتخرجين في الجامعات والكليات والمعاهد الشرعية بالبلدان الإسلامية، فإننا نجد بينهما فرقًا واسعًا وبونًا شاسعًا في التفاوت في العلوم والفنون وفي العقائد والأخلاق؛ إذ المتخرج في بلدان أوربا ليس معه سوى اللغة الإنجليزية، وما خسره من نسيان العلوم الشرعية أكثر مما استفاده، ولن تسمع عن أحد من المتخرجين بها شيئًا من النبوغ في شيء من العلوم التي تنفع الناس أبدًا؛ لكون عادم العلم لا يعطيه، ولأن علماء أوربا الذين تخرج الطلاب من أبناء المسلمين عندهم جهلاء بكل العلوم النافعة، مما يتعلق بالشرائع والأحكام وأمور الحلال والحرام، وحتى علم البلاغة والبيان، فهم يزيدون الطالب جهلاً على جهله.
أما المتخرج من الجامعات والمعاهد الإسلامية وكليات الشريعة، فإننا نجد عند أحدهم ما يشفي ويكفي من العلوم والفنون، سواء في التفسير أو الحديث أو السيرة أو التاريخ أو اللغة فتجد عنده ثمرة من العلوم النافعة كل على حسبه وعلى قدر موهبته من ربه وخاصة القدامى الذين تخرجوا منذ حوالي ثلاثين أو عشرين سنة فإنهم أرقى في العلوم والمعرفة من المتخرجين في هذه السنين؛ لكونه قد تغير أسلوب التعلم والتعليم في البلدان العربية كغيرها، وصاروا يسلخون ويمسخون الكتب والفنون؛ حتى أبقوا المنهج شبه الرمز والصورة للعلوم والفنون، ومع هذا كله فإن أقل المتخرجين معرفة في البلدان العربية هم أرقى من المتخرجين في بلدان أوربا. والحاصل أن الحكام متى أهملوا تربية الشباب فلم يهذبوهم على فعل الصلاح والتقى ولم يردعوهم عن مراتع الغي والردى، فإنهم سيعودون إلى أهلهم وهم نكبة ونقمة على العباد والبلاد، والدفع أيسر من الرفع.