متقدم

فهرس الكتاب

 

حد شارب الخمر

وقد شرع الله على لسان نبيه إقامة الحد بالجلد كفارة عنها، وليكون بمثابة الزجر عن ارتكاب هذه الجريمة الأثيمة؛ لأن دين الإسلام قائم على محاربة الجرائم على اختلاف أنواعها وتقليلها وتطهير المجتمع منها، فشرع الله القصاص صيانة للدماء، وشرع الله حد الزنا صيانة للأنساب والأعراض، وشرع قطع يد السارق صيانة للأموال، بحيث يستتب الأمن ويقل العدوان، وشرع حد الخمر صيانة للعقول والأرواح والأجسام والمجتمع، وأنزل الله ﴿وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ [النور: 2].

وقال في حد الزنا: ﴿وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٢ [النور: 2] ولا تقوم النكاية بالسجن أو تطويله ولا الغرامة بالمال مقام الحد بالجلد، لكون الجلد تكفيرًا للجريمة وزجرًا له عن معاودة فعلها، وردعًا للناس؛ لأن السجن يتعدى ضرره إلى أهله وعياله الذين لا جريمة لهم، بخلاف الحد بالجلد، فإنه مقصور على الفاعل نفسه، ولأن من لا يكرم نفسه لا يكرم، ومن يهن الله فما له من مكرم، و «حَدٌّ يُقَامُ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا»[138]، كما يفيده إقامة الحد من إصلاح المجتمع وتقليل المفاسد فيه.

والنبي ﷺ جلد في الخمر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، والكل سُنَّة، وقال: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثم إذا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثم إذا شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ»[139]. وقال: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ»[140]. ولهذا يقول الله تعالى: ﴿تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلَا تَعۡتَدُوهَا [البقرة: 229] وحدود الله محرماته، فإقامة الحد كفارة عن ارتكاب هذا الذنب وتطهير له وزجر عن معاودته، وردع للناس عن مقارفة مثله، وخير الناس من وعظ بغيره، فهو يقلل فشو هذه الجريمة الأثيمة، لاعتباره رحمة للفاعل ولجميع الناس وإن عدوه عقابًا.

فأعداء الإسلام الذين ينسبون إقامة الحدود إلى القسوة والوحشية، هم الذين يسعون في الأرض فسادًا، فهم يسببون تكثير الجرائم بالسكوت عليها وعلى الفاعلين لها، وتلطيف أعمالهم حتى تمتلئ الدنيا فسادًا، فإن كل من أمن العقوبة أساء الأدب، والعصا زجر من عصى، فهم دائمًا يرمون المسلمين بدائهم، فهم الذين صنعوا القنبلة الذرية التي تقضي على الملايين من الآدميين ما بين شيوخ وعجائز وحوامل وأطفال وبهائم ممن لا ذنب لهم وتفسد الحرث والنسل، فهذا والله حقيقة الوحشية والفساد الكبير والله لا يحب المفسدين.

وجميع الناس من الصالحين والفاسقين أصبحوا يتحدثون عن مضار الخمر وخطرها على الأفراد والمجتمع وعلى الشباب والنساء حتى صارت جل حديث القوم في مجالسهم وأنديتهم، كأنها غزو يريد تدمير بلادهم وسبي ذراريهم ونسائهم، ويتزايد ضررها ويعظم خطرها في البلدان الحارة، كبلدان نجد والحجاز والخليج وما جاورها، وإذا اعتاد الشاب شربها في حالة صغره، فإنه ينقصم عمره[141] في شرخ شبابه، بحيث لا يتجاوز غالبًا سن العشرين إلى الثلاثين من عمره. فهي تعجل بهلاكه لأجل إسرافه في شربها، فهي من ورطات المعاصي التي لا مخلص لمن أوقع نفسه فيها إلا بالتوبة عنها، ولا يزال الشخص يمشي مع الناس بعفاف وشرف وحسن خلق إلى أن يشرب الخمر ويدب السكر في رأسه، فعند ذلك ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل ويستوحش من أقاربه وجلسائه، وتظهر الكآبة على وجهه، وتخيم الوحشة على أهل بيته، ويبغض الناس ويبغضونه ثم يصير مستعبدًا لهذه العادة الضارة طول حياته، يتمنى الخلاص منها ولا يستطيع، ثم تسري العدوى منه إلى أولاده لاقتدائهم بسيرته وفساد طريقته.

إن الذين يعرفون مضار الخمر وإفسادها للأخلاق والمجتمع وللنساء والشباب، ثم يعللون عملهم في الاتجار فيها والتسامح في تدخيلها إلى بلدهم عن طريق التهريب الخفي مع كونهم مسلمين، إنهم ليس فيهم غيرة دينية ولا حمية وطنية، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وحسبهم من الشر وقوعهم في اللعنة، فقد لعن رسول الله ﷺ الخمر وبائعها ومشتريها كما أن ثمنها حرام، وخطب رسول الله على رتاج الكعبة يوم فتح مكة، فقال: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ»[142].

إن بلد الإنسان بمثابة أمه التي ولدته وغذته بلبانها، فالذي يجلب الخمر إلى بلده هو بمثابة الذي يقود السوء على أمه، لقد كان من واجب المسلم الغيور أن يبر أهل بلده، وأن يوصل إليهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم، لاعتبار أنهم لحمة من جسده يسوؤه ما يسوؤهم ويضره ما يضرهم، وإن إدخال الخمر المحرمة إلى البلد هي أضر على أهلها من إدخال المطاعم والمشارب المسمومة؛ لأن المطاعم والمشارب المسمومة تضر بالبدن فقط وربما يكون الهالك بها شهيدًا عند الله، أما الخمر فإنها تهلك البدن والعقل والدين، ومن لقي الله وهو يستبيح شربها لقيه كعابد وثن، فالأخوة الإسلامية والنخوة العربية توجب النفرة عن الاتجار في هذا العمل الضار، كيف وقد لعن رسول الله الخمر وبائعها ومشتريها، وإن أكل ثمنها وأرباحها حرام، ﴿فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ [البقرة: 275].
ألا إنَّ شربَ الخمرِ ذنبٌ معظمٌ
يُزيل صفاتِ الآدمي المسددِ
ويُلحَق بالأنعام بل هو دونُها
يخلّط في أفعاله غير مهتدِ
يُزيل الحيا عنه ويَذهب بالغنى
ويُوقَع في الفحشا وقتل التعمدِ
فكل صفات الذم فيها تجمعتْ
لذا سميت أم الفجور فأسندِ
إن بعض الشباب الطائشين وبعض التجار المترفين قد صرفوا جل عقولهم وأعمالهم واهتمامهم إلى تقليد النصارى في جميع أعمالهم وعاداتهم، حتى في سفاسف أخلاقهم، يظنون من رأيهم القصير وعزمهم الحقير أن الحضارة والمدنية والرقي والتقدم هو في التوسع في فنون الترف والفجور ومعاقرة الخمور ومجاراة النصارى في الخلاعة والسفور، قد ضربهم من الجهل سرادق ومن الغباوة إطباق وغرهم بالله الغرور، تالله لقد سلكوا شعاب الضلالة وسقطوا في هوة المذلة ورضوا بأخلاق المذمة التي ساقهم إليها ودلهم عليها صريح الجهل وسفالة الأخلاق ومجالسة الفساق، فإن داموا على ما هم عليه ولم يعدلوا سيرتهم ولم يرجعوا إلى طاعة ربهم ولم ينتهوا عما حرم عليهم، فإنهم يصيرون مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئهم السيئة التي خالفوا بها سيرة سلفهم الصالحين الذين شرفوا عليهم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، فانتبهوا من غفلتكم وتوبوا من زللكم، وحافظوا على فرائض ربكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.

حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396 هـ.

* * *

[138] رواه النسائي مرفوعًا وموقوفًا وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عمر. [139] أخرجه النسائي من حديث ابن عمر. [140] أخرجه أبو داود وأحمد عن ابن عمر. [141] إن شركات التأمين على الحياة في حالة فحصها على الشخص الذي يريد تأمين حياته عندما تعرف بأنه سكير يشرب الخمر فإنها تمتنع عن التعاقد معه، وخاصة إذا كان شابًّا، لعلمهم أنه سيقصم عمره في شرخ شبابه قبل انقضاء العمر المعتاد فتخسر مالها بخسران حياته، لكون الخمر تعجل بهلاكه. [142] متفق عليه من حديث جابر.