متقدم

فهرس الكتاب

 

لا عبرة بالأسماء في تحريم الخمر

فما يسمونه البيرة بدون كحول هو خمر محقق لانطباق وصف الخمر المحرم عليه، فقد ثبت بالاختبار والتجربة أن شرب مقدار زجاجتين منها يسكر، وهذا أمر صحيح ثابت، فكتابتهم عليها (بيرة بدون كحول) هو خداع وتغرير لقصد ترويجها بين الناس، وإلا فإنها مشتملة على الكحول المسكر، فهي محرمة قطعًا لاعتبار أنها خمر محرم، ومثله شارب الترياق والحشيشة وغير ذلك من فنون الأشربة المسكرة المستحدثة، ولا ينبغي أن نغفل عن الميزان الشرعي لهذه الأشياء، وهو قول النبي ﷺ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ»[133]. وهو خمر من أي شيء كان.

حرمت الخمر لعموم الأضرار المتنوعة والمتفرعة منها، فضررها على الروح والعقل وعلى الجسم والنسل وعلى المال وعلى الصحة وعلى المجتمع، تقصر الأعمار، وتهتك الأسرار، وتوقع في فنون من الأضرار والأمراض، تطيش بالعقل عن مستواه إلى حالة الطغيان ومجاوزة الحد في الكبر والفسوق والعصيان، حتى يخيل للرجل السافل الساقط أنه ملك قاهر وجبار قادر، كما يقول بعضهم:
ونشـربها وتتركنا ملوكًا
وأُسْدًا لا يُنهْنهُها اللقاءُ
فيندفع إلى تحقيق هذه الخيالات الخمرية، فيغضب ويضرب ويسوء خلقه على أهله وعياله وعلى الناس، ثم يخيم الخوف والوحشة على أهل بيته، بحيث يخافون سطوته، لأنه قد أزال عن نفسه نعمة العقل التي شرفه الله بها وألحق نفسه بالمجانين، وكيف يرضى بجنون من عقل، فإن كان في حالة السكر يقود سيارة من حديد، فإنه ينجم عنه الضر والبأس الشديد، ولأجله اشتد غضب رسول الله ﷺ على الخمر، فقال: «لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ، سَاقِيَهَا، وَشَارِبَهَا، وَبَائِعَهَا، وَمُشْتَرِيَهَا، وَعَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ»[134] كل هؤلاء واقعون في اللعنة. وقال: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الخَمْرُ»[135].

وأخبر «أَنَّ النَّاسَ فِي آخَرِ الزَّمَانِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا»[136]، والأسماء لا تغير الأشياء عن حقائقها. وأخبر «أَنَّ أُنَاسًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَبِيْتُوْنَ عَلَى لَعِبٍ، وَلَهْوٍ، وَشُرْبِ خَمْرٍ، فَيُصْبِحُونَ، وَقَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ» رواه أحمد والبيهقي وابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة وسنده ضعيف. وهذا المسخ والله أعلم هو مسخ صوري: أي يصبحون في أخلاق القردة والخنازير، ينزو بعضهم على بعض، قد ذهبت منهم المروءة والغيرة والحياء والعفة والخلق الحسن، ويظهر أثر هذا المسخ على سيماهم وأخلاقهم، يعرفه المتفرسون من الناس، وقد يكون هذا المسخ حقيقيًّا، كما وقع لمن قبلهم والله على كل شيء قدير. وقد سئل النبي ﷺ عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ»[137].

فيا سبحان الله، كم في الخمر من آفات ومضرات، ولكن حبها يعمي ويصم فلا يحس محبها بأضرارها ولا يرى فتكها للغير وإيذاءها.
سكرانِ سكرُ هوىً وسكرُ مُدامةٍ
فمتى إفاقةُ من به سكرانِ
وإلا فإن ضررها يتناول الروح والجسد والمال والولد والعرض والشرف، فكم أزالت من نعمة وكم جلبت من نقمة، وكم خربت من دار، وكم أذهبت من عقار، وكم أفقرت من تجار، وكم نقلت العقل الصحيح من حالة العدل وحسن التدبير وكمال التفكير إلى حالة الجهل والخبال والفساد الكبير.

لهذه الأسباب حرمها كثير من مشركي العرب في الجاهلية على أنفسهم، قبل أن يحرمها الإسلام عليهم، ويقول أحدهم: كيف أشرب ما يزيل عقلي ويلحقني بالمجانين!

وحتى النصارى على كفرهم وضلالهم أخذوا يعقدون الاجتماعات على إثر الاجتماعات في محاولة التحريم لهذه المسكرات حين رأوا فتكها بأخلاق البنين والبنات وإفسادها للبيوت والعائلات، ولكنهم لم ينجحوا في منعها، من أجل تربيتهم على حبها، ومع عدم نجاحهم فإنهم يجاهدون في تقليل شربها، حتى إن الكأس الذي يشرب به أحدهم ليوصف بإصبع الإبهام، وكثير منهم تعففوا عنها.

وحتى كتب الأطباء منهم مملوءة ببيان أضرارها والتحذير منها، وحتى المحاكم الشرعية والقانونية مملوءة من الحوادث والجرائم والفجور الناشئة عن شرب الخمور، وهي من أكبر الوسائل لقطيعة الأرحام وفساد الألفة الزوجية.

وإن العلماء والأمراء والوزراء ومجالس الشورى يجب أن يكونوا بمثابة الحماة المرابطين دون ثغر دينهم ووطنهم، يحمونه عن دخول الفساد وما يعود بخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، وخاصة النساء والأولاد.

فمتى قصر هؤلاء في واجبهم وأهملوا حماية وطنهم وتركوا الخمور تجلب إليها والحوانيت تفتح لبيعها، بحيث تكون في متناول كل يد من صغير وكبير، فإنهم حينئذ قد استودع منهم ويعتبرون قد غرقوا جميعًا في غرمها وإثمها، ويصيرون مستعبدين طول حياتهم لأضرارها وأمراضها، وحتى الذين لا يشربونها من الكبار فإنهم يبتلون بمن يشربها من أولادهم وأهل بيتهم، ثم يقود بعضهم بعضًا إليها، حتى يغرقوا جميعًا فيها، والدفع أيسر من الرفع، ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ [البقرة: 251].

[133] أخرجه مسلم من حديث ابن عمر عن جابر، أن رسول الله قال: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» أخرجه أحمد والأربعة وصححه ابن حبان، وروى البخاري ومسلم عن عمر، قال: أنزل الله تحريم الخمر وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل. [134] متفق عليه من حديث ابن عمر. [135] رواه الطبراني من حديث ابن عباس. [136] رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أبي مالك الأشعري. [137] أخرجه مسلم وأبو داود عن وائل الحضرمي إلى طارق بن سويد سئل النبي عن الخمر يصفها للدواء فقال: «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ». وروى البيهقي وصححه ابن حبان عن أم سلمة أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ».