الصفات العشر التي وصفت بها الخمر
وحسبكم وصف القرآن لها بصفات عشر كلها تستدعي البعد عنها صيانة لدين المرء وعرضه وبدنه، فوصفها بأنها رجس، والرجس هو النجس الخبيث، فمتى تربى الجسم على هذا الرجس النجس الخبيث صار نجسًا خبيثًا؛ لأن الغاذي شبيه بالمغتذى وحتى إن نسل شارب الخمر من أبنائه وبناته يصيرون معتوهين مشوّهين، معرّضين للأمراض والأضرار والجنون والخبال، لتكوينهم من نطفة نجسة هي بمثابة البذر الخبيث، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
ثم وصفها ثانيًا بأنها من عمل الشيطان، فلا يحبها ويدمن شربها إلا من هو شيطان مثلها ليس من أولياء الرحمن، وحسبكم ما تحسونه من سوء تصرفات الشيطان، وكونه يسعى دائمًا بفعل الفحشاء والمنكر.
ثم وصفها ثالثًا بقوله: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠﴾ [المائدة: 90] وهذه صيغة مبالغة في المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا كل البعد عنها، كونوا في جانب وهي في جانب. فقوله: اجتنبوه، أبلغ في الزجر من قوله: دعوه أو اتركوه لعلكم تفلحون، فدلت هذه الآية بطريق الفحوى على أن شارب الخمر بعيد من الفلاح، غارق في الفساد والسفاه، ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾ [المجادلة: 19].
ثم عاد رابعًا إلى الزجر عنها فقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ﴾، أما العداوة في الخمر فمعروفة محسومة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر وسكر هذى وافترى وسب وضرب وشتم أهله وعياله، لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله بها.
وكان جماعة من الأنصار جالسين في شرب الخمر في الجاهلية قبل أن يحرمها الإسلام، فشربوا ثم سكروا فعبث بعضهم ببعض وثار بعضهم على بعض بالضرب والقتل، فلما صحوا وزال عنهم السكر، قال بعضهم لبعض: والله ما فعل بي فلان هذا إلا لحقد كامن في قلبه علي قبل السكر، فنشبت بينهم الحرب سنين عديدة حتى أطفأها الله بالإسلام وببعثة محمد عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى: ﴿وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾ [آل عمران: 103]، وقد قال النبي ﷺ لأشج عبد القيس: «ما هذه الشجة التي أرى في وجهك؟». فقال: يا رسول الله إن رجلا من قومي شرب الخمر فسكر، فضربني بلحي جمل حتى شجني. فقال: «نعم قاتل الله الخمر هكذا تفعل بشاربها». وذكر ابن رجب في اللطائف: أن رجلا كان يشرب الخمر وكانت أمه تنهاه عن شربها، فبينما هي ذات يوم وقد سجرت تنورها فجاء ابنها وهو سكران فحمل أمه وقذف بها في التنور فاحترقت.
فهذا من فنون العداوة في الخمر، وأما العداوة في الميسر: فإن الميسر هو القمار، ومتى غلب أحدهما صاحبه في القمار وغبنه ماله، فإنه يحتقب له العداوة والبغضاء من أجل سلبه ماله الذي هو عديل روحه وقوام بنيته وبيته، ولأنه أكل للمال بالباطل، وقد نهى الله في كتابه وعلى لسان نبيهﷺ عن كل عمل وكل كسب يؤول إلى العداوة والبغضاء بين المسلمين.
وأما قوله: ﴿وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ﴾ [المائدة: 91]، فإن هذا أمر واقع ومحسوس ملموس، فإنك قلَّ أن تجد السكير أو اللاعب بالقمار في المسجد؛ لكونهما في غفلة ساهين، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ومن المعلوم أنهما لو داوما على الصلاة لنهتهما عن ارتكاب مثل هذه المنكرات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر.
ثم قال: ﴿وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ ٩٢﴾ [المائدة: 92]، فلا أبلغ في الزجر والتحذير من هذه الآيات التي يأمر الله فيها عباده بطاعته وطاعة رسوله، ثم حذرهم أشد التحذير من مخالفة أمره بارتكاب محرماته وترك طاعاته، والآية سيقت لتأكيد تحريم شرب الخمر الذي هو مفتاح كل شر.
إن الله سبحانه لمّا ذكر هذه الزواجر عن هذه الجريمة الأثيمة، قال بعد هذا كله: ﴿فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١﴾، فقد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولذا قال عمر بن الخطاب: سمعًا وطاعة لله ورسوله، قد انتهينا، قد انتهينا، قبحًا لها وسحقًا، قرنت بالأنصاب والأزلام. وكان جماعة من الأنصار مجتمعين في بيت أبي طلحة على شرب قبل أن تحرم الخمر، فسمعوا صوتًا عاليًا، فقال أبو طلحة لأنس بن مالك: انظر ما هذا الصوت. فخرج ثم رجع فقال: هذا منادي رسول اللهﷺ ينادي بتحريم الخمر. وكانت الكؤوس بأيديهم فأخذوا يضربون بها الحيطان ويقولون: سمعًا وطاعة لله ورسوله، ثم خرجوا إلى السوق وبه ظروف الخمر، فجعلوا يضربونها بالسكاكين حتى سالت بالأزقة، وكان بعضهم يقول: والله إن كنا لنكرمك عن هذا المصرع قبل هذا اليوم. ولمّا حرم الله الخمر حرم بيعها وشراءها وكل وسيلة تؤول إلى شربها.
وسأل أبو طلحة النبي ﷺ عن خمر لأيتام في حجره، وهل يجعلها خلًّا، فنهى رسول الله ﷺ عن ذلك، ولهذا لعن رسول الله ﷺ الخمر، عاصرها ومعتصرها وساقيها وشاربها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه[130]، كل هؤلاء واقعون في اللعن لتساعدهم على فعل هذه الفاحشة المحرمة. وحسبها قبحًا أن النبي ﷺ قال: «لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[131].
[130] رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي من حديث ابن عمر وأنس بن مالك، ورواه أحمد بسند صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم من حديث ابن عباس. [131] متفق عليه من حديث أبي هريرة.