الفتن التي تفسد الأخلاق أشد خطرًا على الأمة من الحروب
وهذه من الفتن التي أخبر عنها النبي ﷺ بأنه يرقق بعضها بعضًا، وحتى تكون الآخرة شرًّا من الأولى، كما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال: كنا مع النبي ﷺ في سفر، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من يصلح جشره ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة، قال: فاجتمعنا، فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا»، ومعنى يرقق بعضها بعضًا: أن الآخرة شر من الأولى.
وقد يظن بعض الناس حينما يسمعون بخروج الفتن التي أخبر النبي ﷺ بوقوعها في آخر الزمان والتي حذر عنها أمته أنها الحروب المشتملة على الضرب بالبنادق والمدافع والقنابل والسيوف والخناجر، وليس الأمر كذلك، بل إن هذه منها وليست مقصورة عليها، بل هي أشد وأشر من هذه كلها، وهي الفتن التي تفسد الأخلاق والعقائد والأديان وتوقعهم في الافتنان؛ لأن الفتنة في الدين أشد من القتل، ولا أشد ولا أشر من الفتن التي تغزو الناس في عقر دورهم، وتفسد أخلاق ذراريهم ونسائهم كفتنة الأفلام الخليعة التي هي مشهد زور ومدرسة فجور، تطبع في نفوس النساء والشباب محبة العشق والميل إلى الفجور، بحيث تجعل القلب الخلي شجيًّا تساوره الهموم والغموم، ويبتلى بالسهر وطول التفكير وحرمان لذة النوم من أجل شغل قلبه بما يشاهده، فهي بمثابة شرك الكيد وحبائل الصيد للقلوب الضعيفة من النساء اللاتي هن ناقصات عقل ودين، وقد وصفهن رسول الله في تكسرهن وسرعة ميولهن بالقوارير؛ لأن رؤية ما فيها من الصور المتحركة المضطربة، وسماع ما فيها من الغناء والألحان المطربة، وما يفعلونه من التعاشق والتعانق، كل هذا مما يضعف الإيمان ويستدعي الميول إلى الفسوق والعصيان، فيغرق الناس جميعًا في حضيض الذل والهوان، فتنقطع من بينهم روابط الزوجية الشرعية وتدنيهم من الإباحية المطلقة.
فمتى كان القائمون ببث الأفلام الخليعة ممن لا حظ لهم من الأخلاق والدين، يحبون أن تشيع الفواحش بين المسلمين، فإنها تصير فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا، والدفع أيسر من الرفع، والشفاء قبل الإشفاء. وإني أنصح المراقبين عليها بتقوى الله في عرض ما ينفع ويجمل ويزين من الأخلاق الفاضلة والعلوم النافعة والأعمال العالية، وأن يتجنبوا عرض المنكرات والأخلاق الساقطة، والأعمال السافلة، كما يوجبه الدين والشرف والأمانة، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، كما أنني أنصح الحكومة بنصب رقابة عدلية تمنع نشر الفواحش وتمنع نشر ما يقبح منظره ويسوء خبره، كرامة للدين والوطن، واستبقاء لحسن السمعة واتقاء الفتنة، وإن الحكومة إن لم تقم بمنع ما يجب منعه فإن الناس سيغرقون جميعًا في فساد أخلاق النساء والأولاد، ويصدق عليهم ما حذرهم منه نبيهم عليه الصلاة والسلام حيث قال: «مَثَلُ القَائِمِ فِي حُدُودِ اللَّهِ - أي الذي يسعى في دفع المنكرات وإزالتها- وَالوَاقِعِ فِيهَا، - أي الذي يفعل المنكرات- كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فأراد الذين في أسفل السفينة أن يخرقوا خرقًا يتناولون منه الماء من عندهم، قال: فإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا ونجوا جميعًا، وإن تركوهم وما يصنعون هلكوا وهلكوا جميعًا». رواه البخاري من حديث النعمان بن بشير.
وهذا مثل مطابق للواقع، فإن الناس متى سكتوا عن نشر مثل هذه الأفلام الخليعة والفواحش الشنيعة وتركوها تسطع في دورهم بين نسائهم وأولادهم، وتركوا الخمور تجلب إلى بلدهم والحوانيت تفتح لبيعها، فإن الفساد حينئذ يعمهم ويصير ما يشاهدونه خُلُقًا لهم، يشب عليه صغيرهم، ويهرم عليه كبيرهم، ولهذا قال النبي ﷺ: «لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا -أَيْ: تَلْزَمُوْنَهُ بِهِ إِلْزَامًا- أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ عِنْدهِ»[126]، وهذا العذاب قد يكون في الأبدان وقد يكون في الأخلاق والعقائد والأديان، فإنه ما ظهر الإلحاد والزندقة في بلد فكفر أهلها بالشريعة الإسلامية، وتركوا الصلاة والصيام الفرضية، واستباحوا شرب المسكرات والجهر بالمنكرات، إلا فتح عليهم من الشر كل باب، وصب عليهم ربك سوط عذاب، ﴿وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥﴾ [الأنفال: 25].
إن بعض الناس عند سماع مثل هذا يعللون أنفسهم بالأعذار الباردة، ويقولون: هذا آخر زمن وهذا تيار جارف ويفعل مثله في بلد كذا وكذا، وقد بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فاتخذوا هذا الحديث بمثابة التخدير والتفتير، يحاولون أن يسقطوا به ما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ولعباده المؤمنين ولأئمة المسلمين، كأن الرسول ﷺ بزعمهم قصد بهذا الحديث الاستسلام لهذا الضعف في المسلمين والغربة للدين، حتى لا يسعى أحد بحوله وقوته وبجهده وجهاده لدفعه ورفعه، وهذا خطأ واضح في فهم الحديث، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام إنما قصد به التمسك بالدين وعدم الاغترار بضعفه وغربته في آخر الزمان وإعراض أكثر الناس عنه، فقد قال: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قالوا: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ»، وفي رواية: «هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير»[127]، فمثله في قوله هذا كمثل خريت الأسفار يخبر قومه بمفاوز الأقطار ومواضع الأخطار، ليتأهبوا بالحزم وفعل أولي العزم عن وسائل التعويق، ويحترسوا بالدفع لقطاع الطريق، كما قال: «الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادٍ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ»[128]، فمعنى الحديث يحث على التمسك بالدين عند ضعفه وغربته والسعي في إصلاح ما أفسد الناس منه.
وإن هذا الضعف وهذه الغربة وصف عارض تقع في مكان دون مكان، وفي زمان دون زمان، وقد تقع ثم تزول ويعود الدين إلى قوة ونشاط وانتشار، كما اشتد ضعفه وغربته بعد وفاة رسول الله ﷺ وارتد العرب كلهم عنه، ولم يبق مسجد يصلى فيه إلا مسجد مكة والمدينة ومسجد عبد القيس بجواثى المعروف بالأحساء، وعلى إثر هذا الضعف وهذه الغربة جاهد الصحابة حتى استعادوا قوة الدين ونشاطه وانتشاره، كما قال أنس بن مالك: إنه لما توفي رسول الله ﷺ كنا كالغنم المطيرة فما زال أبو بكر يشجعنا حتى كنا كالأسود المتنمرة، وثبت في الصحيح: «إِنَّهُ لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةٌ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»[129]، فالعاقل لا يستوحش غربة الإسلام لقلة المتمسكين ولا يغتر بكثرة الملحدين التاركين للدين، فإن الله يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣﴾ [يوسف: 103]، فانتبهوا من غفلتكم وحافظوا على فرائض ربكم وتمسكوا بدينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
حرر في 1 رمضان المبارك سنة 1396هـ.
* * *
[126] أخرجه الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان، ومن حديث ابن مسعود. [127] قال العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء: أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه. [128] أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى من حديث عمر. [129] أخرجه الطبري في تهذيب الآثار من حديث ابن عمر.