متقدم

فهرس الكتاب

 

إدخال الشك في نفوس الشباب بدينهم هو التمهيد لتنصيرهم

إن من عادة النصارى أنهم يوعزون إلى أُجَرائهم الدجالين من المعلمين والمبشرين بأن لا يبدؤوا مسلمًا بادي الرأي بدعوته إلى النصرانية، فإن مما يتعذر انتقال المسلم عن دينه بهذه الصفة.

وإنما الطريقة المثلى في تنصيرهم هو النيل من دينهم بالتكذيب بالقرآن وبنبيهم، وإلقاء التشكيكات فيه، ورمي شريعته بأنها تكاليف شاقة، وأنه لا يتلاءم العمل بها في القرن العشرين، ونحو ذلك من التخذيلات وإلقاء التشكيكات، حتى إذا خالجهم الشك في دينهم وزال عنهم ثقتهم ويقينهم، وتزعزعت أركان عقيدتهم، سهل حينئذ تنصيرهم، فهذا دأبهم في سياسة دعايتهم إلى دينهم وبعلمه يعملون ﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا ٥١ [النساء: 51].

وبسبب هذه التعاليم صار شباب المسلمين يخرجون من الدين أفواجًا أفواجًا حيث ينقدح الشك في قلب أحدهم بأول عارض من شبهة، وناهيك بالسذاجة وعدم العلم والمعرفة، فإن القاصرة عقولهم والناقصة علومهم هم أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا من الحق والتحقيق إلى ركن وثيق، والله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، والعقل الكامل عند حلول الشهوات.

وهذه من فتن الحياة التي كان رسول الله ﷺ يستعيذ منها في إدبار الصلوات ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ»[123]، لأن من فتن في حياته فتن بعد وفاته، ﴿يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلۡقَوۡلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ [إبراهيم: 27] والقول الثابت هو الدين القويم وسلوك الصراط المستقيم، ﴿وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقٗا ٦٩ [النساء: 69]، وهو المشار إليه بقوله ﷺ: «إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً» قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[124].

فالعاقل لا يستوحش طرق الإسلام لقلة السالكين، ولا يغتر بكثرة الهالكين التاركين للدين، فإن الله تعالى يقول: ﴿وَمَآ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِينَ ١٠٣ [يوسف: 103]، ويقول: ﴿وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا يَخۡرُصُونَ ١١٦ [الأنعام: 116].

إن هؤلاء المرتابين والمرتدين عن الدين لم يكونوا مؤمنين به على الحقيقة، وإنما كانوا فيه على طرف إن أصاب أحدهم خيرٌ اطمأن به، وان أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

وصار أكثرهم يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوة من عقل وأدب ودين وخلق. ويحبون أن يعيشوا في الدنيا عيشة البهائم، ليس عليهم أمر ولا نهي، ولا صلاة ولا صيام ولا حلال ولا حرام، ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢ [محمد: 12]، وهذا نتيجة تعليم المدارس الأجنبية التي يتعلمون فيها وهم صغار، والتي لا يترك أهلها طريقة مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها بزخرف القول وخداع الألفاظ.

إن هؤلاء الشباب من أبناء المسلمين متى خرج أحدهم من إحدى المدارس الأجنبية رجع إلى أهله وبلده وأخذ يبث جراثيم تلك التعاليم السيئة التي حملها من المدرسة حتى يصير فتنة على أهله وأقاربه وسائر من يقاربه، كما قال تعالى في حق الغلام: ﴿وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا ٨٠ فَأَرَدۡنَآ أَن يُبۡدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيۡرٗا مِّنۡهُ زَكَوٰةٗ وَأَقۡرَبَ رُحۡمٗا ٨١ [الكهف: 80-81].

فكم من ولد في هذا الزمان قد أرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، يسخر منهما حين يراهما يصليان أو يصومان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡ [التغابن:14]، ومن للتبعيض أي إن بعض الأزواج وبعض الأولاد عدو لكم من حيث لا تشعرون بحيث يدعونكم إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُوٓاْ ءَابَآءَكُمۡ وَإِخۡوَٰنَكُمۡ أَوۡلِيَآءَ إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡكُفۡرَ عَلَى ٱلۡإِيمَٰنِۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٢٣ [التوبة: 23].

فنهى الله عباده المؤمنين أن يتخذوا آباءهم أو أبناءهم وإخوانهم ﴿أَوۡلِيَآءَ؛ أي أصدقاء ﴿إِنِ ٱسۡتَحَبُّواْ؛ أي اختاروا الكفر على الإيمان، لكون الكفر يقطع الموالاة والنسب بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وابنه، كما قال تعالى عن نوح أنه قال: ﴿رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِي مِنۡ أَهۡلِي [هود: 45]؛ أي وقد وعدتني أن تنجيني بأهلي فقال تعالى: ﴿إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡ‍َٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ ٤٦ [هود: 46]، والنبي ﷺ قال: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ». رواه البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد.

إن عقيدة الإلحاد هي جرثومة الفساد وخراب البلاد وفساد أخلاق العباد، ومتى سطا الإلحاد على قلب أحد هؤلاء الأولاد فإنه يطيش به عن مستواه إلى حالة الفجور والطغيان، ومجاوزة الحد في الكفر والكبر والفسوق والعصيان، فيمقت الدين، ويهزأ بالمصلين الراكعين الساجدين، حتى كأنه إنما تعلم العلم لمحاربة الدين وأهله، من أجل أنه لم ينطبع في قلبه محبته، ولم يذق حلاوة حكمته، وإنما كان حظه من العلم محض دراسته حبرًا على ورق، ثم زال عن قلبه بزواله عنه حتى لم يبق معه أثر منه.

ومتى جهر هؤلاء بإلحادهم في بلادهم وأمنوا من العقاب فيما يقولون، فإنهم حينئذ يفيضون بفنون من الطعن في الدين بإلقاء الشبهات والتشكيكات التي تزيغ العوام وضعفة العقول والأفهام عن معتقدهم الصحيح، وعن دينهم المستقيم، ثم تقودهم إلى الإلحاد والتعطيل والزيغ عن سواء السبيل، فيصيرون فتنة في الأرض وفسادًا كبيرًا.

وحتى الذين لا يعتقدون اعتقادهم، ولا يساهمونهم في آرائهم، فإنهم لن يسلموا من مضار أفكارهم، وأقل شيء كون الضعف والوهن يلم بأركان عقائدهم، ثم يسري هذا الفساد وسوء الاعتقاد إلى أهلهم وأولادهم؛ لأن أكثر الناس مقلدة في دينهم بحيث يقلد بعضهم بعضًا في الأخلاق والعقائد، وقد قال بعض السلف: إنه ما ترك أحد الحق وعدل عنه إلى الباطل إلا لكبر في نفسه، ثم قرأ: ﴿سَأَصۡرِفُ عَنۡ ءَايَٰتِيَ ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَإِن يَرَوۡاْ كُلَّ ءَايَةٖ لَّا يُؤۡمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلرُّشۡدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗا وَإِن يَرَوۡاْ سَبِيلَ ٱلۡغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلٗاۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِ‍َٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ ١٤٦ [الأعراف: 146]. وقد قال أبو عثمان الجاحظ في أخلاق الكتَّاب: قد قال أهل الفطن: إن محض العمى هو التقليد في الزندقة؛ لأنها إذا رسخت في قلب امرىء تقليدًا فإنها أطالت جرأته على الدين وأهله واستغلق على أهل الجدل إفهامه. وقد قيل:
عُمي القلوب عروا عن كل فائدة
لأنهم كفروا بالله تقليدا
ولم يأمر الله على لسان نبيه بقتل المرتد التارك لدينه إلا رحمة بمجموع الأمة أن تفسد به أخلاقهم وعقائدهم.

والدين هو قوام الأمة ومناط فلاحها، وعليه مدار استقامتها وإصلاح مجتمعها؛ لأنه يهذب الأخلاق ويطهر الأعراق ويزيل الكفر والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وإنما تنجم الأفعال الفظيعة والفواحش الشنيعة من القتل والزنا وشرب الخمور وانتهاك الحدود والمحرمات من العادمين للدين الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم وتركوا فرائض ربهم ونسو أمر آخرتهم. إن كل من تأمل أحوال الناس بعين الاعتبار فإنه يرى أن هؤلاء -الذين ارتدوا عن دينهم وتركوا فرائض ربهم ونسوا أمر آخرتهم، فأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وخرقوا سياج الشرائع واستخفوا بحرمات الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين - من أسوأ الناس حالاً وأبينهم ضلالا وأشدهم اضطرابًا وزلزالاً، وأنهم جديرون بزوال النعم والإلزام بالنقم؛ لأن الله سبحانه قد توعد كل من أعرض عن عبادة ربه ونسي أمر آخرته بأن له معيشة ضنكًا في حياته، كما وعد كل من اتقاه واتبع هداه وعمل بطاعته بأنه لا يضل في سعيه ولا يشقى في دنياه ولا آخرته، فقال تعالى: ﴿فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشۡقَىٰ١٢٣ وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ١٢٤ [طه: 123-124]. وهذه المعيشة الضنك هي ضربة لازب في حق كل من أعرض عن عبادة ربه ونسي أمر آخرته وصرف جل عقله وجل عمله واهتمامه للعمل في دنياه واتباع شهوات بطنه وفرجه، فإنه يكون دائمًا مهمومًا مغمومًا يتمتع بعيشة نكدة وحياة مكدرة، فهو شقي في دنياه وآخرته.

كما وعد سبحانه كل من عمل صالحًا من ذكر وأنثى بأن يحيا حياة طيبة، وأن يجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب. ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا، وفي الحديث أن النبي ﷺ قال: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ قَلْبَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ قَلْبَكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ»[125]. ومعنى تفرغ لعبادتي ليس معناه التخلي عن الدنيا بترك البيع والشراء والأخذ والعطاء، فإن هذا مذموم شرعًا، وإنما معناه الحث على التحفظ على العبادات الواجبة من الصلاة والزكاة والصيام، ثم التزود بنوافل العبادات. فمن لازم هذه الأعمال، وسعى سعيه في كسب المال الحلال، أحياه الله حياة سعيدة طيبة يجد لذتها في نفسه، وتسري بالصحة والسرور على جسمه وعلى سائر أهله وعياله، فيكون سعيدًا في حياته سعيدًا بعد وفاته؛ لأن عمل الآخرة نعم العون على أمر الدنيا، ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا.

فيا معشر شباب المسلمين، إن الله سبحانه قد شرفكم بالإسلام، وفضلكم على سائر الأنام متى قمتم بالعمل به على التمام، وإن الإسلام بمثابة الروح للإنسان، فضياعه من أكبر الخسران، وإنه ليس الإسلام هو محض التسمي به باللسان والانتساب إليه بالعنوان، ولكنه ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، فاعملوا بإسلامكم تُعرفوا به، وادعوا الناس إليه تكونوا من خير أهله.

ومتى سافر أحدكم إلى الأقطار الأجنبية لحاجة التعلم أو لحاجة العلاج أو لأي حاجة من الحاجات، فمن واجبه أن يظهر إسلامه في أي مكان يحل به، فيدعو إلى دينه وإلى طاعة ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا حضرت فريضة من فرائض الصلوات أمر من عنده بأن يصلوا جماعة حتى يكون مباركًا على نفسه وعلى جلسائه.

أما إذا صرفتم في سفركم جل عقولكم واهتمامكم للعمل في دنياكم، واتباع شهوات بطونكم وفروجكم، وتركتم فرائض ربكم، ونسيتم أمر آخرتكم، صرتم مثالا للمعايب ورشقًا لنبال المثالب، وسيسجل التاريخ مساوئكم السيئة التي خالفتم بها سيرة سلفكم الصالح الذين شرفوا عليكم بتمسكهم بالدين وطاعة رب العالمين، فلا أدري من أحق بالأمن إن كنتم تعلمون.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم على دينه القويم، وأن يسلك بنا وبكم صراطه المستقيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن همزات الشياطين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حرر في 22/4/1396هـ

* * *

[123] أخرجه البخاري من حديث أنس. [124] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وأبي هريرة، وقال: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. [125] أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان، والحاكم من حديث أبي هريرة وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص.