كل مولود يولد على الفطرة
وفي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»، ثم قرأ: ﴿فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ﴾ [الروم: 30][120]. فأخبر النبي ﷺ في هذا الحديث الصحيح أن كل مولود يولد على فطرة الإسلام لو ترك على حاله ورغبته لما اختار غير الإسلام، لولا ما يعرض لهذه الفطرة من الأسباب المقتضية لإفسادها وتغييرها، وأهمها التربية السيئة الفاسدة، وقد أشار إليها النبي ﷺ بقوله: «فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ»؛ أي أنهما يعملان مع الولد من الأسباب والوسائل ما يجعله نصرانيًّا خالصًا أو يهوديًّا، لكون الوسائل والأسباب لها أحكام المقاصد.
ومن نوع هذا التنصير تسليمهما أولادهما الصغار الأغرار إلى المدارس النصرانية بحجة التعلم، فيتربون في حجرهم ويتلقون تعليمهم وعقائدهم منهم، مع العلم أن قلب الصغير قابل لما يلقى فيه من الخير والشر، حتى يكون بمثابة النقش في الحجر والغاذي شبيه بالمغتذى، وعادم الخير لا يعطيه، وكل إناء ينضح بما فيه. فمن العناء العظيم استيلاد العقيم، والاستشفاء بالسقيم، وما أبعد البرء عن مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.
ولا شك أن هذا حقيقة في التنصير وإليه عاقبة سوء المصير، لأن من شب على شيء شاب على حبه، والوسائل لها أحكام المقاصد، والأمور منوطة بأسبابها، وللتربية أثرها المترتب عليها من الصلاح والفساد ومن الخير والشر.
ألم تعلم أن النبي ﷺ قال: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ»[121].
وقد أجاز حج الصبي وصومه مع العلم أن قلم التكليف مرفوع عنه ما دام في هذه السن، وما ذاك إلا لقصد تهذيبه وتربيته على العمل بشرائع الإسلام الدينية، بحيث تكون محبتها راسخة في قلبه تحببه إلى ربه وتقربه من خلقه وتصلح له أمر دنياه وآخرته، لاسيما الصلاة المفروضة فإنها الدواء الفرد، تقيم اعوجاج الولد وتصلح منه ما فسد، وتذكره بالله الكريم الأكبر وتصده عن الفحشاء والمنكر، يقول الله تعالى: ﴿ٱتۡلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُ﴾ [العنكبوت: 45].
وإنه متى أهمل الناس تربية أولادهم فلم يهذبوهم على فعل الصلاة والصلاح والتقى، ولم يردعوهم عن مواقع الكفر والفساد والردى، فإنه لا بد أن يتولى تربيتهم الشيطان، فيحبب إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وصدق الله العظيم ﴿وَإِنَّهُمۡ لَيَصُدُّونَهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَيَحۡسَبُونَ أَنَّهُم مُّهۡتَدُونَ ٣٧ حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَٰلَيۡتَ بَيۡنِي وَبَيۡنَكَ بُعۡدَ ٱلۡمَشۡرِقَيۡنِ فَبِئۡسَ ٱلۡقَرِينُ ٣٨﴾ [الزخرف: 37-38].
إن أكثر ما يجني على الأولاد ويوقعهم في الكفر والإلحاد هي مجالسة ومصاحبة أهل السفه والفساد، الذين ساءت طباعهم وفسدت أوضاعهم، فلا دين لهم ولا أخلاق، وبإدمان مجالستهم ومؤانستهم تنطبع أخلاقهم وطباعهم فيهم؛ لأن الأخلاق تتعادى والطباع تتناقل، والمرء على دين خليله وجليسه، واعتبروا الناس بأخدانهم، فكم من رجل شب حكيمًا حسن الخلق نزيه العرض عريق الشرف صحيح الطريقة سليم العقيدة، ثم اصطحب سفهاء الأحلام وضعفاء العقول والأديان، فأفسدوا طريقته وغيروا عقيدته، وأوقعوه في الرذائل من ترك الطاعات وشرب المسكرات، فساءت طباعه وفسدت أوضاعه، وانتشر عنه الذكر الخامل والسمعة السيئة ﴿وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِن مُّكۡرِمٍ﴾ [الحج: 18].
إن الأجسام أشباح وإن الأخلاق هي الأرواح، وإن بقاء الأمم وحسن استقامتها ببقاء أخلاقهم، فإذا ذهبت أخلاقهم ذهبوا، والنبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ، كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ، وَإِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ، فَقَدْ أَحَبَّهُ»[122].
[120] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [121] رواه أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. [122] رواه أحمد من حديث عبدالله بن مسعود.