متقدم

فهرس الكتاب

 

دين الإسلام ليس بدين رأسمالي ولا بدين اشتراكي

إن دين الإسلام هو دين كامل وشرع شامل، دين الحق الذي نظم حياة الخلق أحسن نظام، بالحكمة والمصلحة والعدل والإحسان. صالح لكل زمان ومكان. وقد سماه الله رحمة للعالمين؛ لأن فيه محض سعادتهم في دنياهم وآخرتهم. فلو أن الناس آمنوا بتعاليمه، وانقادوا لحكمه وتنظيمه، ووقفوا عند حدوده ومراسيمه، لصاروا به سعداء؛ لأن الله سمّاه هدى وشفاء، أي لعلاج عللهم وإصلاح مجتمعهم ﴿قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ فِيٓ ءَاذَانِهِمۡ وَقۡرٞ وَهُوَ عَلَيۡهِمۡ عَمًى [فصلت: 44].
هو الإسلام ما للناس عنه
إذا ابتغَوا السلامة من غناءِ
إذا انصـرفت شعوبُ الأرض عنه
فبَشـِّر كلَّ شعب بالشقاءِ
إن الله سبحانه قص علينا في كتابه خبر من أنعم عليه بالغنى فشكر قائلا: ﴿قَالَ هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ [النمل: 40]، وخبر من أنعم عليه بالغنى فطغى واستكبر، قائلا: هذا مالي أُوتيته على علم عندي، أي على معرفة وحذق بجمعه وكسبه حتى كثر ووفر.

وكما قص علينا خبر من طغى وتكبر، وصال في الناس وتجبر، فاستباح سلب أموال الأغنياء بلا حق، يقول الله عز وجل: ﴿۞إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ وَأَحۡسِن كَمَآ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِينَ ٧٧ [القصص: 76-77].

إن هذا القرآن بلاغ للناس ولينذروا به، ففيه نبأ ما قبلنا وخبر ما بعدنا وحكم ما بيننا، وهذه القصة سيقت مساق العظة والعبرة، لينذر بها من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، سيقت في بيان سيرة قارون وفساد سريرته، وبيان كثرة ماله وفساد أعماله، وكيف حقت عليه كلمة العذاب ببغيه وطغيانه. فأخبر الله سبحانه أن قارون كان من قوم موسى، وقيل: إنه ابن عمه، وقيل: إنه ابن خالته، وكان فيما زعموا صالحًا في بداية عمره، ويسمى المنور لجمال وجهه، فلما كثر ماله نافق وطغى، وارتد وبغى، وصدق الله العظيم: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ٧ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰٓ ٨ [العلق: 6-8].

جاءه نبي الله موسى عليه السلام برسالة من ربه، يدعوه إلى دينه بالحكمة وبالموعظة الحسنة، ففر ونفر وعمى واستكبر، وكان له جنود وأتباع، وصاحب المال مطاع، فحاول قارون الفتك بنبي الله موسى، وأظهر البغي عليه ليقطع دابره، حسدًا له على نعمة رسالة ربه.

والبغي مصرعه وخيم، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرًا وقع فيه.
قضـى الله أن البغي يصـرعُ أهلَهُ
وأن على الباغي تدورُ الدوائرُ
يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّمَا بَغۡيُكُمۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۖ مَّتَٰعَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا [يونس:23]؛ يعني أن بغي الباغي تعود سوء عاقبته عليه في الدنيا قبل الآخرة، بمعنى أنها تعاجله العقوبة، ويسلط عليه من ينتقم منه عقوبة له، حتى لو بغى جبل على جبل لدُّكَّ الباغي.

وفي الحديث «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ، وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»[110]، والبغي أحيانًا يكون بالأقوال، كأن يستطيل عليه بسبه وذمّه ليذله بين الناس، وأحيانًا يكون بالأفعال، كأن يستطيل عليه بضربه أو قتله أو أخذ ماله أو فساد زوجته عليه، ونحو ذلك من فنون الأذى والعدوان.

ومن أنواع البغي تسلط زعماء الاشتراكية الماركسية على سحب أموال الأغنياء منهم، ليجلسوهم على حصير الفاقة والفقر، بدل ما يتنعمون هم وأعوانهم بأموالهم، يحاولون بذلك محو الغنى عن المنعم به عليهم، ثم مساواة الناس في الفقر، الذي من لوازمه الخراب والدمار، ونقص الأرزاق والثمرات، وغلاء الأسعار، فهم الجناة على العباد والبلاد. فعملهم هو حقيقة في الفساد في الأرض، والله لا يحب المفسدين.

وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ»[111]. ثم قال: ﴿وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ [القصص: 76] فأخبر الله سبحانه عن قارون بأنه مع كفره وعصيانه، وبغيه وطغيانه، أن الله أرخى له العنان في فنون البغي والعدوان، وأعطاه من كنوز الأموال على اختلاف الأنواع والألوان ما يعجز العصبة الأقوياء عن حمل مفاتيحه، سواء قلنا: إن المفاتيح من حديد أو من خشب أو من جلود، وحسبنا تنويه القرآن بعظمتها، مما يدل على عظمة المخزون بها، وهو استدراج من الله له في سعة الرزق وبسطته؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.

وإذا رأيت الله سبحانه يسدي نعمه على الشخص، والشخص مُصرّ على معصية ربه، فاعلم أنما هو استدراج من الله له، يقول الله: ﴿فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٥ [الأنعام: 44-45].

ولما رأى الناصحون الصالحون من قوم موسى ما فعله قارون من الطفور والطغيان، ومجاوزة الحد في البغي والعدوان، أخذوا في وعظه ونصحه؛ لأن بقاء الأمم -في قديم الزمان وحديثه- ببقاء الصالحين الناصحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولأن إنكار المنكرات هو مما يقلل فشوها وانتشارها، يقول الله تعالى: ﴿فَلَوۡلَا كَانَ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مِن قَبۡلِكُمۡ أُوْلُواْ بَقِيَّةٖ يَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡفَسَادِ فِي ٱلۡأَرۡضِ إِلَّا قَلِيلٗا مِّمَّنۡ أَنجَيۡنَا مِنۡهُمۡ [هود: 116].

ولهذا قالوا في نصيحتهم وإرشادهم: ﴿لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ ٧٦ [القصص: 76]، فالفرح المذموم هو الذي يفضي بصاحبه إلى الأشر والبطر والفجور والغرور، وغالبًا ما ينشأ عن الزهو بالدنيا وزينتها. وكان النبي ﷺ إذا رأى شيئًا من زهرة الدنيا وزينتها فأعجبه قال: «اللَّهُمَّ، لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ»[112] وقال: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكلّ نعيمٍ لا محالة زائلُ».
ثم قالوا: ﴿وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَ [القصص: 77] يعني أن من وسّع الله عليه بالغناء بالمال، فإن من واجبه أن يتزود من دنياه لآخرته، يعني مال الإنسان ما قدم، وفي الحديث «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي. وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟»[113]، وما سوى ذلك فذاهب، وتاركه للورثة، والدنيا مزرعة الآخرة، تزرع فيها الأعمال الصالحة من خرج منها فقيرًا من الحسنات ورد الآخرة فقيرًا وساءت مصيرًا.

أما من وسع الله عليه بالغنى بالمال فجعله أكبر همّه، وصرف إليه جل عقله وجل عمله وجل اهتمامه، وترك لأجله فرائض ربه، ونسي أمر آخرته، فهذا في الحقيقة فقير لا يؤجر على فقره، قد خسر دنياه وآخرته، أتاه شيطانه فخوّفه روعة زمانه وقلة ماله، فغل يده ومنع ما عنده، ولا يزال ذلك دأبه حتى يخرج من الدنيا مذمومًا مدحورًا، لا خيرًا قدمه ولا إثمًا سلم منه، فهو عبد درهمه وديناره. وفي الحديث: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَتَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[114]. وسيندم حيث لا ينفعه الندم، حين يقول: ﴿مَآ أَغۡنَىٰ عَنِّي مَالِيَهۡۜ ٢٨ هَلَكَ عَنِّي سُلۡطَٰنِيَهۡ ٢٩ [الحاقة: 28-29]، وحين يقول: ﴿يَٰلَيۡتَنِي قَدَّمۡتُ لِحَيَاتِي٢٤ فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ٢٥ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُۥٓ أَحَدٞ٢٦ [الفجر: 24]. وأنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: فلان قَدْ مات. وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت.

ثم قالوا في تمام نصحهم وإرشادهم: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا، لما وعظوه ونصحوه بما ينفعه في أمر آخرته، عادوا فنصحوه بما ينفعه في أمر دنياه، فقالوا: ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَا، قيل: معناه تزود من دنياك لآخرتك. وقيل: لا تنسَ نصيبك أي من الكسب والسعي وسائر أسباب الغنى؛ لأن دين الإسلام دين سعي وكد وكسب، يجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، ومصالح الروح والجسد، يمدح القائلين ﴿رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ [البقرة: 201]، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

فالإسلام يأمر بكسب الأموال وحفظها، والتوسع في فنون التجارات من وجوه حلها، وفي الحديث «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ»[115]. ولما سئل النبيﷺ عن أفضل الكسب قال: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ»[116]، وروي: «طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ»[117]، والله يحب المؤمن المحترف، ويبغض الفارغ البطال.

وكان بعض الأنبياء معدودين من الأغنياء كإبراهيم ويوسف وسليمان -عليهم السلام- وبعض الأنبياء يتكسبون بالحرف والصنائع، والنبي ﷺ كان قبل النبوة يسافر بالمال إلى الشام. وكان أصحاب رسول الله يتجرون، يبيعون ويشترون، ويبنون ويغرسون، ويسافرون للتجارة في البر والبحر، ولكنهم إذا نابهم أمر من أُمور الله، أو حضرت فريضة من فرائض الله كفريضة الصلاة وفريضة الزكاة بادروا بأدائها إلى الله، ولم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله. فليس من الدين أن يتخلى الإنسان عن المال وعن السعي والكسب للعيال، ويلزم زاوية من زوايا المسجد الحرام أو مسجد المدينة، يتبتل فيه للعبادة وينقطع عن البيع والشراء والأخذ والعطاء، كما يفعله الرهبان وبعض الدراويش، فقد جاء أناس من الصحابة إلى النبي ﷺ يستأذنونه في أن يبيعوا عقارهم وما لهم ويشتروا بثمنها سلاحًا وخيلاً يجاهدون عليها في سبيل الله، فنهاهم رسول الله عن ذلك وقال: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا»[118]، وأراد بعض الصحابة أن يتصدق بماله كله، فردَّ رسول الله صدقته؛ لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يُستغنى عنه في حال من الأحوال، وأن الكريم على الإخوان ذو المال، وكل ما تسمعونه في القرآن أو في الحديث من ذم الدنيا أو ذم المال، فإنما يقصد به ذم أفعال بني آدم السيئة في المال لا المال نفسه؛ لأن الطاعة هي همّة التقي، ولا يضره لو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا، لكون المسلم يشتغل في الدنيا بجوارحه وقلبه متعلق بالعمل لآخرته، فيحصّل الحسنيين ويفوز بالسعادتين، فتكون أعماله بارة وأرزاق الله عليه دارة، ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨ [الزمر: 18].

إن قارون قد مضى وانقضى وعوقب بما تسمعون، فما كان جوابه لهؤلاء الناصحين الصالحين إلا أن قال: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ؛ أي على حذق ومعرفة بجمع المال وكسبه حتى كثر ووفر، ولم يقل: ﴿هَٰذَا مِن فَضۡلِ رَبِّي لِيَبۡلُوَنِيٓ ءَأَشۡكُرُ أَمۡ أَكۡفُرُ، وجحود النعمة مؤذن بزوالها، يقول الله: ﴿وَإِذۡ تَأَذَّنَ رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٞ ٧ [إبراهيم: 7]، ولهذا ذمه الله بقوله: ﴿أَوَ لَمۡ يَعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ قَدۡ أَهۡلَكَ مِن قَبۡلِهِۦ مِنَ ٱلۡقُرُونِ مَنۡ هُوَ أَشَدُّ مِنۡهُ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرُ جَمۡعٗاۚ وَلَا يُسۡ‍َٔلُ عَن ذُنُوبِهِمُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ ٧٨ [القصص: 78].

إن كل ما ورد في ذم قارون، وعقابه على كثرة ماله وفساد أعماله، فإنه منطبق بالدلالة والمعنى على كل من اتصف بصفاته وعمل بمثل أعماله؛ لأن الاعتبار في القرآن هو بعموم لفظه لا بخصوص سببه، فهو يتمشى على حد:

إياك أعني واسمعي يا جارة

وخير الناس من وُعظ بغيره، فهذا الوصف ينطبق على كل تاجر وسّع الله عليه من صنوف نعمه وفضّله بالغنى على كثير من خلقه، ثم يجمد قلبه على حب ماله، وتنقبض يده عن أداء زكاته وعن الصدقة منه والصلة لأقاربه، والنفقة في وجوه البر والخير الذي خلق لأجله، فمن كانت هذه صفته فإنه أخ قارون في كثرة ماله وفساد أعماله.

فبالله قل لي كيف: كان عاقبة أمره؟ أُجبك بأن الله سبحانه أمر الأرض أن تخسف به وبماله، قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفۡنَا بِهِۦ وَبِدَارِهِ ٱلۡأَرۡضَ فَمَا كَانَ لَهُۥ مِن فِئَةٖ يَنصُرُونَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُنتَصِرِينَ ٨١ وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٢ [القصص: 81-82]، خسف الله الأرض بقارون وبماله، وما الخسف ببعيد عن أمثاله من التجار الذين جحدوا نعمة الله عليهم، ومنعوا زكاة أموالهم، ونسو ا أمر آخرتهم، تسمع بعشرات الملايين أو مئات الملايين أو ألوف الملايين عند أحدهم، ولكنك لا تسمع بمن يؤدي الزكاة منهم، ثم سرت عدوى منع الزكاة من بعضهم إلى بعض، فهؤلاء إن لم يُخسف منهم بالأبدان، فإنه قد يخسف منهم بنور الإيمان، ومن المعلوم أن الخسف بالإيمان أضر من الخسف بالأبدان، فيبقى سيئ الحال جموعًا منوعًا، يبغض الناس ويبغضونه، ولهذا ختم الله هذه الآيات بقوله: ﴿تِلۡكَ ٱلدَّارُ ٱلۡأٓخِرَةُ نَجۡعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فَسَادٗاۚ وَٱلۡعَٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِينَ ٨٣ [القصص: 83].

نسأل الله سبحانه أن يعمنا وإياكم بعفوه، وأن يسبغ علينا وعليكم واسع فضله، وأن يدخلنا برحمته في الصالحين من عباده، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، و الله أعلم.

و ﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].

* * *

[110] رواه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم عن أبي بكرة، قال الحاكم: صحيح وأقروه. [111] في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار. [112] متفق عليه من حديث أنس. [113] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. [114] أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة. [115] أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة. [116] أخرجه الإمام أحمد من حديث رافع بن خديج. [117] أخرجه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن مسعود. [118] أخرجه مسلم من حديث جابر.