متقدم

فهرس الكتاب

 

تولي الحكومة لاستيراد الأشياء الضرورية

فإن قيل: هل يسوغ للحكومة أن تتولى استيراد الأشياء التي يحتاج إليها الناس بداعي الضرورة من الأطعمة وغيرها لقصد التخفيض على الناس في سعرها؟

فنقول: إن الحكومة عليها أعباء وتكاليف وأثقال من الأشغال العامة ومن شؤون تنظيم البلاد والأعمال، مما يوجب التفرّغ لها، وإلقاء تكاليف التجارة وأعمالها وأموالها إلى أهلها من التجار الذين حذقوا فيها وتمرنوا على مزاولتها، وأقاموا أنفسهم مقام الموظفين للحكومة في حسن تدبيرها وتثميرها، فمن واجب الحكومة أن تحيل التجارة بكمالها إلى التجار العارفين بسياستها وصيانتها، وللحكومة الرقابة عليهم في المخالفة، وبذلك تستريح الحكومة من أعباء تكاليف حملها ومسؤوليتها، وعلى الحكومة حماية التجارة وتعزيزها ومساندة أهلها، بمساعدتهم بالقروض المضمونة في جلب كل ما تحتاجه البلاد، وتوجيههم بداعي التنشيط إلى ذلك، ثم يستمر عملهم واستيرادهم لتجارتهم، فالأصل هو عدم جواز تدخل الحكومة في تولي التجارة أو التسعير؛ لأن الله هو المسعّر القابض الباسط، كما ثبت بذلك الحديث، ومثله قوله: «دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ»[108].

أما تولي الحكومة للتجارة أو استيراد المعيشة وسائر ما يحتاجه الناس، ثم تتولى بيع هذه الأشياء بواسطة الوكلاء، ومن تحت الوكلاء وكلاء، فلا شك أن هذا نوع من التأميم الذميم، إذ ليس من شأن الحكومة مزاحمة التجار في تجارتهم، فالحكومة حكومة، والتجار تجار، ولأن في هذا العمل بهذه الصفة إضرارًا بليغًا بالتجار، إذ هو عبارة عن عزلهم عن عملهم، وانقطاع كسبهم الذي عليه مدار تجارتهم ومعيشة أهلهم وعيالهم، فيبقون كسالى حيارى، فيكثر بسببه همّهم وغمّهم، والتلاوم فيما بينهم، ثم يكثر كلامهم في الحكومة، وما عملت معهم.

ولو فرضنا أن للحكومة مقصدًا حسنًا في تولي المستوردات من الأطعمة وغيرها، وأن قصدها التسهيل في أسعارها، فإن هذا قصد حسن، وفي إمكان الحكومة تنظيمه مع التجار بما يسمونه دعم السلع من الحكومة بالنقود، حسبما تعمله بعض الحكومات مع رعاياها في الأطعمة الضرورية.

أما قصد الحكومة في بيع ما تستورده من الأطعمة بأقل مما يبيع به التجار، أو بأقل مما اشتري به في بلده، فهذا أيضًا ضار بالتجار، إذ فيه نوع تحد للتجار، بأن يبيعوا سلعهم بأقل من ثمنها عليهم، أو بأقل من ثمن المثل، وهذا فيه ضرر بليغ عليهم، إذ الحكومة لا يضرها الإسقاط من الثمن، بخلاف التاجر، فإنه يضره ذلك، أو تكسد سلعته عنده.

ثم إن الحكومة بتوليها لجلب هذه الأطعمة وغيرها، ثم توزيعها في المحلات المستأجرة، ونصب وكلاء ومن تحتهم وكلاء على بيعها وقبض ثمنها، تضيع هذا المال، وتتلاعب به أيدي الضياع، لكون مال الحكومة غير محترم عند الناس، ولا يتولى حفظه وليّ مصلح، فهو يُذهب جفاءَ هذا لكم، وهذا أُهديَ إليّ.

ثم إنه بطريق المشاهدة والحس نرى البلدان التي قبض حكامها زمام تجارتها، والمستوردات فيها، وقضت بالحجر والتضييق على التجارات والتجار، قد تقلص عنها ظل الرخاء والهناء، وابتليت بالمساغب والتعب والغلاء وعدم وجود أكثر الحاجات؛ لكون البلد المحجور على أهلها في التجارة لا يقصدها الناس ببيع سلعهم ولا للشراء منها، فتبقى في معزل عن الهناء والرخاء والراحة.

ومما يحقق ذلك أن عالمًا فاضلاً من أهل البلاد حدثني بأنه سافر إلى إحدى المدن الاشتراكية العريقة في الحضارة لحضور مؤتمر ينعقد بها، قال: فنزلنا في فندق، وعند الصباح طلبنا من مدير الفندق أن يأتينا ببيض، فاعتذر لعدم وجوده، وقال: إنه يباع بالبطاقة، فلا يوجد عندنا إلا في الأسبوع ثلاثة أيام، أو قال: أربعة أيام. فمتى كان هذا العدم والتقتير في البيض الذي يتلاعب الصبيان بأقفاصه عندنا، فما بالك بغير البيض من الحاجات الراقية، إذ هي أشد عَدَمًا، لكون الحجر والتضييق على التجارة والتجار مدعاة إلى الشؤم والفشل ومحق الرزق. فدعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض.

نعم إنه يجب على الحكومة مراقبة التجار في الشيء الزائد على المعتاد، أو في احتكار الطعام وقت شدة حاجة الناس إليه، والحكم يدور مع علته، ويزول بزوالها. والمقصود أنه ينبغي تنشيط التجارة لتقوى، ولن يتم ذلك حتى ينفك عنها حصار الحجر، وحتى تكون حرّة في التوريد والتصدير؛ لأنها متى أخرجت شيئًا استوردت ما هو أكثر منه من الخارج، وبذلك تقوى وتنشط، وتزداد نموًا وربحًا، كما قيل:
أرى المال مثل الماء يخبُثُ راكدًا
ويُزْكيه الاستعمال والأخذُ والردُّ

* * *

[108] أخرجه مسلم من حديث جابر.