حكمة محنة الابتلاء بالفقر والغنى
إن الله سبحانه يبتلي أقوامًا بالغنى لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ كما يبتلي أقوامًا بالفقر لينظر أيصبرون أم يضجرون ويفجرون؟ وليس كل من أنعم الله عليه بالغنى يكون لكرامته وعزته عند الله، ولا كل من ابتلاه بالفقر يكون لهوانه ومذلته عند الله، فحاش وكلا، فحكمته سبحانه أعلى وأجل، يقول الله سبحانه: ﴿فَأَمَّا ٱلۡإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكۡرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَكۡرَمَنِ ١٥ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبۡتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيۡهِ رِزۡقَهُۥ﴾؛ أي ضيق عليه رزقه ﴿فَيَقُولُ رَبِّيٓ أَهَٰنَنِ ١٦ كَلَّا﴾ [الفجر: 15-17]؛ أي كلمة ردع وزجر عن هذا القول وهذا الاعتقاد، فقد يعاقب الله أقوامًا بالغنى لبغضه لهم، كما يرحم أقوامًا بالفقر لمحبته لهم، كما قيل:
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عَظُمتْ
ويبتلي الله بعضَ القومِ بالنِّعمِ
وفي الحديث: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»[98].
إن النفوس مجبولة على محبة الغنى، والسعي في حصوله وتوسعه؛ لكونه لا غناء للمرء عن فضل ربه ورحمته، يقول الله: ﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَيۡرِ لَشَدِيدٌ ٨﴾ [العاديات: 8]، والخير هو المال الكثير، فترى الشخص يتحمل المشاق المتعبة، ويخوض الأخطار الموحشة، في سبيل كسب المال وتوفيره للأهل والعيال، حتى إنه ليحرم نفسه من لذته وإنفاقه في سبيل حسنته من أجل توفيره لذريته، مع العلم أن مجرد الغنى ليس هو السعادة المنشودة في الحياة، إلا إذا سلك به صاحبه مسلك الاعتدال، بأن يأخذه من حله، وأن يؤدي واجب حقه، ولا يشغله ماله عن عبادة ربه، وما لم يكن كذلك، فإنه عذاب عليه في الدنيا، وعقاب عليه في الآخرة، والمكثرون هم المقلّون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وشماله. يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُعۡجِبۡكَ أَمۡوَٰلُهُمۡ وَأَوۡلَٰدُهُمۡۚ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي ٱلدُّنۡيَا وَتَزۡهَقَ أَنفُسُهُمۡ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ ٨٥﴾ [التوبة:85].
والله سبحانه يحمي بعض عباده من الدنيا مع محبته لهم، كما يحمي أحدكم حبيبه عن الطعام والشراب مع شهوته له.
وفي بعض الآثار يقول الله: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لَا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلَّا الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَأَفْسَدَهُ ذَلِكَ، إِنِّي أُدَبِّرُ أَمْرَ عِبَادِي لِعِلْمِي بِهِمْ، إِنِّي بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»[99].
ومن الدعاء المشهور: «اللَّهُمَّ مَا أَعْطَيْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ عَوْنًا لِي عَلَى مَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ»[100].
فمن واجب المؤمن أن يسعى في سعة رزقه، ويطلبه من أسبابه، والدخول عليه من بابه، ثم يرضى ويسلم ويقنع بما آتاه الله من قليل وكثير، ولا يمد عينيه إلى ما متع به غيره، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ زَهۡرَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا لِنَفۡتِنَهُمۡ فِيهِۚ وَرِزۡقُ رَبِّكَ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰ ١٣١﴾ [طه: 131].
وقد أمر النبي ﷺ بما ينبغي أن يحفظ به الرجل نعمته على قلتها، فإن من قرّ عينًا بعيشه نفعه، فقال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لاَ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»[101]، وقد قيل:
ما كل ما فوق البسيطة كافيًا
فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
يقول الله تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ رَضُواْ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَقَالُواْ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ ٥٩﴾ [التوبة: 59].
إنها متى سكنت القناعة قلب الشخص، ولو كان فقيرًا، فإنه يجد بها لذة الدنيا وفرحها وسرورها، فيتمتع بحالة مرضية وأخلاق كريمة زكية، حتى يكون أسعد بالدنيا؛ باللذة والسرور فيها، من التاجر الجموع المنوع، الذي كلما ازداد جمعًا ازداد هلعًا ومنعًا؛ لكون الغنى ليس بكثرة المال، وإنما الغنى غنى النفس، كما قيل:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة
وفي غنى غير أني لست ذا مال
شُحّي بنفسـي أني لا أرى أحدًا
يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه
ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
ومن دعاء النبي ﷺ أنه يقول: «اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتنِي، وَبَارِكْ لِي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ فَائِتَةٍ بِخَيْرٍ»[102].
إن أكبر عامل ثار بالاشتراكيين على محاولة استحلال مال الغير بغير حق هو عدم صبرهم، وعدم قناعتهم بما آتاهم الله من فضله، فحاولوا النزو على مال الأغنياء، حرصًا منهم على زوال نعمتهم عنهم وحسدًا لهم، كي يستأثروا بها لأنفسهم خاصة ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النساء: 54].
ألا قل لمن كان لي حاسدًا
أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهبْ
* * *
[98] رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث صهيب الرومي. [99] أخرجه ابن أبي الدنيا في الأولياء من حديث أنس بن مالك. [100] أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي. [101] متفق عليه من حديث أبي هريرة. [102] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس.