ما هي الاشتراكية الماركسية؟
إن الدعوة للاشتراكية الماركسية مبنية على الغش والخداع، والتلبيس والتدليس والتضليل؛ لأن من طبيعة دعاتها والمتزعمين لفكرتها المبالغة في عملية الخداع والكذب، وقلب الحقائق على غير ما هي عليه، وجعل الباطل حقًّا، والحق باطلاً وإلا فإنها فكرة هدم للحضارة والعمران، والصنائع والأعمال، تهلك الحرث والنسل، وقد حاربتها الدول الراقية في الحضارة والصناعة والعمران، من اليهود والنصارى وغيرهم، قبل أن يحاربها المسلمون.
إن أكثر المقلّين من المال من أمثالهم يحبون ويتمنون في أنفسهم زوال نعمة الغنى عن المنعم بها عليهم؛ ليساووهم في الجلوس معهم على حصير الفقر والفاقة، كما قيل: شنشنة تُعرف من أخزم ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ﴾ [المؤمنون: 71]، غير أن المسلمين يمنعهم إيمانهم من تحقيق هذه الأمنية؛ لاعتقادهم حرمة مال الغير. ويقول الله تعالى: ﴿أَمۡ يَحۡسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ﴾ [النساء: 54]، فهؤلاء الاشتراكيون يحرّمون الغنى على أهله الذي هو عرق جبينهم، ويبيحونه لأنفسهم.
فالعقلاء من المقلّين يبالغون في كتمان هذا التمني وعدم إظهاره احترامًا للحكومة التي تمنع أشد المنع الجهر به والدعوة إليه؛ لكونه ينافي عقيدة دينها، ويناقض سياسة نظامها ومجتمعها؛ لكون الاشتراكية تقوم بتقويض دعائم الأعمال والأموال والمعامل، وتطبع في قلوب الشباب الفتنة والخيانة وذهاب الأمانة. ومضرتها على الفقير أكبر منها على الغني، وبعض من يتمنى الاشتراكية لا يتحمل الكتمان، فيكشف ذيله عن مساوئ ليله، فيجهر بما يعن بفكره، وما يتمناه في نفسه، ولم يبال بمنع الحكومة ولا الجهر بما تكره. فهو يعرف تمام المعرفة أن الحكومة لا ترضى بالتظاهر بهذا الشيء ولا الدعوة إليه بتحسينه للناس؛ لكونه يثير مشاعر المسلمين ويطبع في شبابهم الفتنة، ويستدعي الأسوة السيئة.
فقد يقول الكاتب الثاني أكبر مما قاله الأول، فيتسع الخرق على الراقع، وكم كلمة أثارت فتنة وجلبت محنة، والمتصدي للدعوة إلى الاشتراكية الماركسية وبتحسينها للناس من كتّاب الصحف والمجلات المتحللين من عُقَل الدين والأدب مع المسلمين يترتب على ولاية عمله مفاسد دينية واجتماعية وأدبية تنافي عقائد الدين وسياسة الدولة، والمتسنم لهذه المناصب يجب أن يكون لديه عقل يعيش به في الناس، ويردع به جهل الجاهل.
إنه قد كان للناس في بداية ظهور هذه البدعة الإلحادية حالة غير حالتهم في نهايتها، فقد بدؤوا يتراجعون عنها بعدما عرفوا مضرتها وذاقوا مرارتها، ومن ذاق منها عرف، ولأن أكثر الهمج السذخ يظنونها تعميمًا للغنى، ثم بدا لهم فيما بعد أن غايتها وحقيقتها هو تعميم للفقر، بحيث تجعل الغني فقيرًا وتزيد الفقير فقرًا إلى فقره، حيث إنها قد كشرت عن أنيابها لجميع الناس، وبطريق الحس والمشاهدة نرى أن كل بلد دخلتها الاشتراكية فإنها تهوي بها إلى الدرك الأسفل من الفقر والفاقة والقلة والذلة، وعلى أثرها تنقطع موارد الثروة عن البلد، بحيث يعز كل شيء وترتفع أعباء المعيشة وتقل النقود بأيدي الناس، بحيث ينقطع عنهم الوارد والصادر، فهي أكبر جريمة تقاد إلى البلد، وخير الناس من وُعِظ بغيره. ولينظر العاقل إلى حالة مصر قبل ثلاثين سنة- أي قبل أن تدخلها الاشتراكية- ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى سوريا قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، ثم ينظر إلى حالة العراق قبل ثلاثين سنة، ثم ينظر إلى حالتها الآن، يجد الفرق الواسع والبون الشاسع بين الأمس واليوم.
ونعود إلى مناقشة الرأي القائل بالتناسق بين الناس؛ أي التساوي الذي هو في زعمهم العدل. وقد وقع الأمر من الاشتراكية المشهود لها بالتجربة والمشاهدة على الضد من ذلك، وأنها جور وظلم، وأنها حقيقة في تساوي الناس في الفقر والفاقة، وحتى الحكومة المتزعمة لهذه الفكرة تصبح فقيرة ويصبح الأغنياء فقراء، بحيث لا يعوّل أحد على أحد، ولو فرضنا أنها تبتز أموال الناس وتختص بها نفسها وأعوانها، فإن هذا المال يكون سريع الزوال منزوع البركة مقرونًا به الشؤم والفشل؛ لكونه أُخِذَ بغير حق، وفي الغالب أنها تقاسمه وتختص بالأفضل منه زبانية الفكرة لخاصة أنفسهم، قبل أن يصل إلى مخازن الحكومة.
وهذه الاشتراكية قد كشرت عن أنيابها للناس، فعرفها العام والخاص، وأخذ العلماء وعقلاء الدول حتى من غير المسلمين يحذر بعضهم بعضًا من مقارفتها، ويتكلمون فيها وفي مضارها وسوء عاقبتها، عن طريق المشاهدة والتجربة، لا عن طريق الأخبار الكاذبة.
ولما ظهرت هذه الاشتراكية الماركسية في مصر قبل كل بلد فزع منها النصارى أشد الفزع خوفًا من سراية عدواها إلى بلدانهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات وتوقع في الأزمات، ويترتب عليها فساد المصانع والأعمال والعمال، لهذا نشروا في صحفهم أن هذه النِّحلة سيستجيب لها أكثر الغوغاء والهمج ولن يقوم في صدّها أعظم من شريعة القرآن الذي فيه ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ﴾ [النحل: 71]، لهذا يجب نشر تعليم ذلك في المدارس والصحف والإذاعات.
وهذه الاشتراكية الماركسية لا شرقية ولا غربية، بل هي شريعة إلحادية ليست من شريعة الدين، ولا من شريعة اليهود والنصارى، تنادي بالقضاء على الحكام والرؤساء والرأسماليين حتى تكون الاشتراكية هي دعامة المجتمع، ويصير الناس لهم كالعبيد المسخرين يعملون، والماركسية وأعوانها يأكلون؛ لأنهم بمقتضى نظام فكرتهم يحكمون بتأميم الأراضي ونتاجها من الحبوب والأشجار والنخيل.
ويحكمون بتأميم ملكية الإنتاج من الحيوان والمعامل والعقار والمصانع، ويحكمون بتأميم الإرث فلا يرث الابن أباه، بل هم الذين يرثون كل أحد، ويسلبون الملكية من كل أحد، لدرجة أنهم جاؤوا صاحب مصنع للسكر ليؤمموه وجميع أمواله، فأمروه بالتخلي والخروج من معمله، فطلب منهم أن يعيروه سيارة توصله إلى بيته فمنعوه وقالوا له: امشِ على رجليك.
إن هذه الاشتراكية تخدع الفقراء وتزرع في قلوبهم الآمال والأماني الكاذبة، حيث يوهمونهم بأنهم يساوونهم بالأغنياء، ويلوحون لهم بكلمات العطف واللطف ليكثروا بهم سوادهم، والغوغاء في كل زمان ومكان هم عون الظالم ويد الغاشم، فالفقراء يزرعون في نفوسهم الأماني والآمال، ويحصدون الخيبة والحرمان، فهم يمصون دماءهم، حتى إن الفقير لا يتحصل على كامل أجرة عمله وعرق جبينه إلا بأخذ شيء منها، ثم هم يقولون لهم على سبيل التخدير والتفتير: إن هذا زمان هدم، وسيأتي بعده زمان البناء. ثم يستمر هذا الهدم وهذا التعليل والتمليل حتى تقوم الساعة.
وفي النهاية ذهبت كل هذه الآمال والأموال التي سحبوها من أهلها، وتقاسمها زبانية الفكرة، وقضت بانقطاع سبل التجارة، وتعطلت المعامل والعمال، ووقف الناس حيارى، وصار ضرر هذه الفكرة على الفقراء أشد منه على الأغنياء، وأخذ زعماء هذه الفكرة وحكامها يمدون أيديهم لطلب العون والمساعدة من حكام المسلمين العرب، الذين يحترمون أموال الناس كما يحترمون دماءهم، لذهاب الحاصل الذي بأيديهم، وانقطاع المتصل. وقد قيل: قليل متصل، خير من كثير منقطع.
إن هذه الفكرة تخالف كل دين كما تخالف الأخلاق والأنظمة والقوانين، كما أنها تقضي بتقويض دعائم الأمانة التي عليها مدار معاملة الناس فيما بينهم؛ فالاشتراكي حينما يرى نعمة أنعم الله بها على أحد من خلقه يرى أنه أحق بها وأهلها، فهذا هو السبب الذي يهيج الغوغاء على استجلابها واستحبابها والدعوة إليها.
فاليهود والإنجليز وأمريكا وفرنسا والألمان واليابان لم يحاربوا الاشتراكية لدين يدينون به ربهم، وإنما حاربوها حفظًا وحماية لمصالحهم؛ لعلمهم أنها تقوّض التجارات والعمران والمصانع والمعامل والأمانات وسائر أمور الحياة، وتوقعهم في الأزمات والشدات.
لهذا أخذ الغارقون فيها من قديم زمانهم يتسللون منها لواذًا، ويتحررون من قيودها شيئًا بعد شيء؛ لتفشّي العطالة والبطالة في أعمالهم؛ لكون العامل للغير لا ينصح كنصحه في عمله لنفسه، وإذا أردت التحقق من ذلك فاسأل عن الكتلة الألمانية الشرقية الواقعة في حدود حبائل الشيوعية الاشتراكية، تجدها تصف نفسها بأنها في جحيم وعذاب أليم، وبضدها الكتلة الألمانية الغربية، تجدها تصف نفسها بأنها في نعيم، والعلة هي علة الابتلاء بالاشتراكية والسلامة منها.
سافر رجل من تجار قطر إلى أمريكا، وكان يحمل معه حقيبة بداخلها نقود كثيرة من الجنيهات الاسترلينية والدولارات، فحين نزل من الطائرة ركب مع صاحب تاكسي أمريكي، ثم نزل هذا التاجر لعزمه النزول في أحد الفنادق، ونسي الحقيبة بما فيها من النقود، وحين ذكرها صفق بإحدى يديه على الأخرى، وكان لا يعرف السيارة، ولا يعرف رقمها، ولا شيئًا من علاماتها، وبعد أن نظر الأمريكي في سيارته نظر إلى الحقيبة فيها، ثم وضعها عند أحد السفراء، ونشر الخبر عن فقدانها، فبُشّرَ بها صاحبها، ووجدها على حالتها لم ينقص منها شيء، فكان من الذين قال الله فيهم: ﴿ ۞وَمِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ مَنۡ إِن تَأۡمَنۡهُ بِقِنطَارٖ يُؤَدِّهِۦٓ إِلَيۡكَ﴾ [آلعمران: 75].
إنه لو تسممت فكرة هذا الأمريكي بالاشتراكية لاعتقد أنه أحق بها، وأن سهم صاحبها بقية ما عنده من التجارة، ولها نظائر كثيرة، ولكنه يعتقد حرمة مال الغير، فتعفف، حتى وجدها صاحبها.
إن العرب المسلمين، في جميع الأعصار والأمصار لا يعرفون هذه الاشتراكية، وليست لهم بخلق ولا دين، حتى أتيح لها الرئيس جمال عبد الناصر، فأثار فتنتها، وحاول تعميمها في البلدان العربية، وأصدر قراره بالإلزام بالعمل بها في مصر، وذلك عام (1381هـ الموافق لعام 1961م)، وسماها الاشتراكية الديمقراطية التعاونية، وهي تتمشى على طريقة الاشتراكية الماركسية، حذو النعل بالنعل، فعملت عملها بمصر في التدمير، وسوء التدبير، وأورثت فتنة في الأرض، وفسادًا كبيرًا.
ثم انتقلت إلى بعض البلدان العربية الأخرى، فكان أول ما ظهرت الاشتراكية في مصر قبل كل بلد. وقد بدؤوا الآن في التحرر عنها، وفي محاربتها بالتحذير منها؛ لكونها أهلكت منهم الحرث والنسل، وقضت بتخدير الهمم، وغل أيديهم عن العمل، فأين ما يقوله هؤلاء من أنها تضمن أساسًا لمجتمع فاضل وإنسان سليم وقد وقع الأمر منها بالضد من ذلك؟
صنع رجل مأدبة حافلة في لبنان، ودعا إليها الرؤساء والفضلاء، وعند جلوس القوم عليها، ورأوا فيها من كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، قال أحد العقلاء لذلك الرجل الذي صنعها، وكان يعشق فكرة الاشتراكية: إن صاحبك «جمالا» لن تجد عنده هذه النعمة والخير الكثير. فقال: نعم أنا أعرف ذلك، ولكني أكتفي بالشاهي مع التساوي.
فهذه فكرة الكثيرين من المقلّين، وكأنها نكتة كامنة من داء الحسد فيهم، يحسدون الأغنياء على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنون زوال نعمتهم، وإن لم يصيبوا منها شيئًا، لكن المقلّين من المسلمين يتغلبون على إرادتهم، ويعصمهم إيمانهم بالله- عز وجل- لاعتقادهم حرمة مال الغير، وأن مال المسلم على المسلم حرام؛ لكون الدين هو أعظم وازع إلى أفعال الطاعات، وأقوى رادع عن مواقعة المحرمات.
فقول بعضهم: إن العدل هو الشيء المتناسق، والظلم الاجتماعي ضد التناسق، يشير بهذا إلى الاعتراض على الله في حكمه، حيث فضل بعض الناس على بعض في الرزق. ويُسمي هذا التفاضل ظلمًا، لا يثنيه وجل، ولا يلويه خجل، وقد قيل: نجوم الظاهر، تدل على خبث الباطن، وقبح الجفا ينافي الحفا، وسبق حكم الله حكم الاشتراكيين ﴿وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَآءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِيهِنَّۚ﴾ [المؤمنون: 71].
والله سبحانه خلق الناس متفاوتين في الخلق والرزق؛ لتتم وتنتظم بذلك مصالحهم، فيخدم الغني الفقير، بحيث يجلب إليه كل ما يحتاجه من الحاجات، من كل صغير وكبير، لا يستطيع الفقير الإتيان بها، كما أن الفقير يخدم الغني فيما هو من اختصاص عمله، فتنتظم بذلك مصالح الجميع، ويعيشون متساعدين متكافلين.
والناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدَمُ
لأن الله سبحانه لو أغنى الخلق كلهم لأفقرهم كلهم، ولكن رحمته بهم قضت تفاوتهم في الغنى والفقر، يقول الله تعالى: ﴿وَٱللَّهُ فَضَّلَ بَعۡضَكُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖ فِي ٱلرِّزۡقِ﴾ [النحل: 71]، وقال: ﴿ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا ٢١﴾ [الإسراء: 21]، وقال تعالى: ﴿أَهُمۡ يَقۡسِمُونَ رَحۡمَتَ رَبِّكَۚ نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚ وَرَفَعۡنَا بَعۡضَهُمۡ فَوۡقَ بَعۡضٖ دَرَجَٰتٖ لِّيَتَّخِذَ بَعۡضُهُم بَعۡضٗا سُخۡرِيّٗاۗ وَرَحۡمَتُ رَبِّكَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٣٢﴾ [الزخرف: 32]، فدلت هذه الآيات على أن هذا التفاضل رحمة من الله لهم، وأنه لا يستقيم نظام حياتهم بدونه، ولهذا سمّاه الله رحمة.
وكان السلف يكرهون أن يقول الإنسان: اللهم أغنني عن خلقك. لكونه لا غناء للإنسان عن الخلق ما دام حيًّا، وإنما يقول: اللهم أغنني عن شرار خلقك.
فكما نفى سبحانه التساوي بين خلقه في أمر الدنيا، وجعل منهم الغني والفقير، فكذلك نفى التساوي في أمر الدين، وفي الجزاء على الأعمال، فجعل منهم المسلم والكافر، والتقي والفاسق، فهذا حكمه في خلقه ﴿وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمٗا لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٥٠﴾ [المائدة: 50]، قال سبحانه: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤۡمِنٗا كَمَن كَانَ فَاسِقٗاۚ لَّا يَسۡتَوُۥنَ ١٨﴾ [السجدة: 18]، وقال: ﴿أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ كَٱلۡمُجۡرِمِينَ ٣٥ مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ ٣٦﴾ [القلم: 35-36]، وقال: ﴿أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّئَِّاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١﴾ [الجاثية: 21]، فأخبر- سبحانه- أن مساواة الناس كأسنان المشط في الدنيا والدين منتف ومتعذر، وأنه من الحكم السيئ الذي ينزَّه الله عنه، إذ لا تتم سعادتهم وتنتظم حياتهم إلا بمقتضى التفاضل بينهم، وأنشد الناظم ابن عبد القوي في هذا المعنى فقال:
تبارك ذو الأحكام والحِكَم التي
تَحارُ عقولُ الخلق فيها فتهتدي
فمِنْ حكمه إبداؤنا وأمورنا
ذواتُ ارتباطٍ لا ذوات توحدِ
فكل امرئٍ لا يستقلُّ بنفسه
فسَنَّ لنا سبلَ التعاونِ فاهتدِ
يُعلّق أطماعَ الأنام بمكسبٍ
له يركبون الهولَ في كلِّ مقصدِ
يهون على هذا اقتحام بنفسه
وهذا بمال رغبة في التزيّدِ
ليأتي بأرزاق يعزّ حصولُها
على عاجزٍ عنها ضجيعٍ بمرقدِ
فسبحان من أبدى وأتقن صنعه
وجَلّ تعالى عن أباطيلِ ملحدِ
إن دين الإسلام مبني على حماية الدين والأنفس والأموال والعقول والأعراض، ومن قتل دون ماله فهو شهيد. وخطب النبي ﷺ في مجمع الناس يوم عرفة فقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»[91]. وهذا غاية في تعظيم حرمة مال الغير، وأنه لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا عن طيب نفس منه، وقد قال النبي ﷺ: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ»[92].
وقد أنزل الله في كتابه المبين ﴿وَلَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ وَتُدۡلُواْ بِهَآ إِلَى ٱلۡحُكَّامِ لِتَأۡكُلُواْ فَرِيقٗا مِّنۡ أَمۡوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلۡإِثۡمِ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ١٨٨﴾ [البقرة: 188]، ولأجله حرّم الله الإسراف والتبذير في الأموال؛ لكون المال عديل الروح وقوام الحياة، كما شرع الله الحَجْر على السفهاء والمبذرين الذين لا يحسنون حفظ أموالهم ولا تثميرها، وقد قال سبحانه: ﴿وَلَا تُؤۡتُواْ ٱلسُّفَهَآءَ أَمۡوَٰلَكُمُ ٱلَّتِي جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ قِيَٰمٗا﴾ [النساء: 5]؛ أي تقوم بها أبدانكم، وتقوم بها بيوتكم، ويقوم بها مجدكم وشرفكم.
والسفه هو خفة الرأي ونقص في العقل، علامته كونه لا يحسن توفير ماله ولا تثميره، فيقع بتبذيره في الفقر الذي هو الداء الأكبر والموت الأحمر؛ لكونه يصير العزيز ذليلاً، وفي الحديث: أن النبي ﷺ قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ»[93]. وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ»[94]. وقال: «إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ، حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ»[95]. لأن المال ترس المؤمن في آخر الزمان، ولا يستغني عنه في حال من الأحوال. وإن الكريم على الإخوان ذو المال. فلو عبس الفقر في وجه الرجل، لعبس في وجهه أهله وأقاربه.
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجدهُ
وإننا متى سألنا عن أقوى مادة يعتمد عليها اليهود في قوتهم، ونظام حكومتهم، مع العلم بقلة عددهم، وعدم وجود منابع البترول عندهم، التي هي عماد ثروة الأمة في هذه الأزمنة، أجابوا: بأن عمدة قوتهم تتركز على المال؛ إذ أنهم أكثر الناس مالاً، وأكثرهم تجارة، فكانوا يساعدون حكومتهم بالمال على سبيل الاستمرار.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة فإن العقل والرأي لا يستجيز إضعاف قوتنا بالاشتراكية التي حقيقتها ذهاب الحول والقوة والثروة من الأمة، إذ هي بمثابة سحب الدم من الجسم، حتى نبقى ضعافًا نحافًا تجاه صولة عدونا وقوته، فنكون كالمعينين لهم على هدم مجدنا، وعدم قدرتنا على الصمود أمام قوة عدونا، إذ لا مجد في الدنيا لمن قل ماله.
* * *
[91] رواه مسلم عن جابر. [92] رواه البخاري ومسلم وأبو داود بلفظ آخر. [93] رواه الحاكم من حديث ابن مسعود. [94] متفق عليه من حديث عائشة. [95] متفق عليه من حديث عائشة.