(3) الجندية وعموم نفعها وحاجة المجتمع لها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله، ثم الصلاة والسلام على محمد رسول الله.
أما بعد:
فإن من واجب العالِم أن يبيّن للناس ما نزل إليهم من ربهم من كل ما يتعلق بأمور دينهم ودنياهم، نصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ لورود الوعيد الشديد في وجوب البيان وتحريم الكتمان، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠﴾ [البقرة: 159-160].
وإن دين الإسلام الذي نعتقده وندين الله به هو كفيل بحل مشاكل العالم، ما وقع في هذا الزمان وما سيقع مستقبلاً، فمتى أُخذ الدين على وجهه الصحيح فإنه دين السعادة ودين السياسة والسيادة يهدي للتي هي أقوم.
وقد أخطأ من ادعى عزل الدين عن الدولة فإنه لا دنيا إلا بدين، وإلا بقي الناس كالبهائم الهائمة، لكنه متى ادعى الدين من لا يحسن حمله، ولا يخشى الله فيه، ويجعل الدين سُلَّمًا إلى نيل مقاصده السيئة، فإنه حينئذ تذهب نضارته، وتسوء سمعته، ويحتقب الناس عداوة أهله، حتى يصيروا فتنة لكل مفتون. وقد قيل: إن محاسن الإسلام تختفي بين الجاحدين والجامدين.
وما يشعرني أن أحدًا هؤلاء عندما يقرأ هذه الرسالة أنه يتناولني بالملامة، ويقول: ما للشيخ ابن محمود وإدخاله الجندية في الدين وهي ليست منه؟ حتى كأنها بظنه في معزل عن الدين.
وأقول لمن لامني: إليك عني، فإنني إنما استخرجت القول فيها من مفهوم قول النبي ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[73]. وليس الفقه في الدين بمقصور على الفقه في أحكام الصلاة والصيام والحج، بل هو أعم وأشمل. فهذا القرآن مملوء بذكر القتال والجهاد والاستعداد بأخذ القوة له وأخذ الحذر. والنبي ﷺ قد حذر وأنذر من الفتن التي ستثور وتكثر في آخر الزمان، مما يصدقها الواقع المحسوس بالعيان. فقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر: قال: كنا مع النبي ؟ في سفر، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من يصلح جشره، ومنا من ينتضل، إذ نادى منادي رسول الله: الصلاة جامعة. فاجتمعنا فقال: «إِنَّهُ مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، تَجِيءُ الْفِتَنُ يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا». ومعنى الحديث: «يُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا» يعني أن الآخرة شر من الأولى، ويكون نتيجتها القتل والقتال حتى يقل الرجال ويكون لخمسين امرأة قيم واحد، وهو كلام من لا ينطق عن الهوى، حتى كأن الأمر يزداد جلاءً وظهورًا على سبيل التدريج.
ولما جيء بكنوز كسرى فوضعت بين يدي عمر بن الخطاب بكى، قيل له: يا أمير المؤمنين، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الدين وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ فقال: نعم، ولكنى سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنها لن تفتح الدنيا على قوم إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء، فهذا الذي أبكاني»[74].
فمتى كان الأمر بهذه الصفة أفليس من الحزم وفعل أولي العزم أن يؤخذ لهذا الإنذار والتحذير عدته، بما يستطاع من الحيلة والحول والقوة وغير ذلك من كل مما يقي الناس ويقويهم ويرقيهم؛ لكون الأمور في النجاح بعد الله منوطة بالأسباب والوسائل؟ كما قيل:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما
نُجْح الأمور بقوة الأسبابِ
ثم إن الله سبحانه أضاف تسمية الجنود إلى نفسه الكريمة إضافة تشريف وتكريم، فقال سبحانه: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ ١٧٣﴾ [الصافات: 173] سواءٌ حملناه على الصحابة أو على الملائكة ﴿وَمَا يَعۡلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]، وكان الصحابة يسمون جنود الله وجنود الإسلام وجنود المسلمين، فلا أعلى من مزيتهم ولا أرفع من منزلتهم، لكونهم حماة الدين والوطن. مما يدل على أن الجندية تسمية شريفة شرعية. ومن صفة المسلم الصبر على البأساء والضراء وحين البأس. فالجندية وإن رأى الجبناء المترفون أن فيها تعرضًا للقتل والقتال لا يصبر عليه إلا الفقراء والفاشلون في التعلم، لكن المكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، ﴿قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡ﴾ [آل عمران: 154]، وطعم الموت في أمر عظيم كطعم الموت في أمر حقير.
فالدين يجعل المسلم مطمئنًا في سرائه وضرائه، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له؛ وليس ذلك إلا للمؤمن، والأنبياء هم أشد الناس بلاءً في الدنيا ثم الأمثل فالأمثل، والناس في الدنيا بين حارث وهمام كما في الحديث: «أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ»[75]. فالهمام هو الذي يهم بقلبه سأفعل كذا وكذا، والحارث هو الذي يسعى بيديه ورجليه إلى ما يوجهه إليه قصده ورغبته من علو همته أو دنوها. ومن المشاهد بالتجربة والاعتبار أن الغرق في الترف والميل إلى الميوعة في النعيم والراحة والرفاهية غاية في إفساد بنية الجسم وعدم صحته، فجنايته على نفسه هي أعظم من جناية عدوه عليه. كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجِدهْ
مفسدة للمرء أيّ مفسدهْ
يقول حذيفة بن اليمان: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه[76]. ولما قال رجل لبعض السلف: لا أراك الله مكروهًا. قال: يا أخي إذا لم أعرف المكروه وقعت فيه.
هذا وإن الحاجات هي أم الاختراعات، وقد قيل:
لله در النائبات فإنها
صدأُ الجبان وصيقل الأحرارِ
لذا يجب على جميع المسلمين أن لا ينخدعوا بالراحة والرفاهية والترف، وأن لا تسحرهم لذائذ النعم ورخاء العيش فتشغلهم عن الاستعداد بعمل ما ينفعهم أو يدفع الضر عنهم.
وإن أشد ما يبتلى به الشاب هو العطالة والبطالة اللتان ينشأ عنهما العجز، ثم حديثه نفسه بأنه لا يستطيع هذا العمل لمشقته، أو لا يستطيع عمل هذه الصنعة لمشقتها، أو لا يستطيع الجهاد والتمرن على وسائل القتال لصعوبتها وخطر النفس فيها، أو لا يستطيع التجند لصعوبته، وغير ذلك من حديث النفس الذي يقضي على الشخص بالمهانة والحرمان، وكل هذا نتيجة العجز الذي استعاذ النبي ﷺ منه بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[77]. وهو لا يستعيذ إلا من الشر، وقد قيل:
العجز ضرٌّ وما بالحزم من ضررٍ
وأحزمُ الحزمِ سوءُ الظن بالناسِ
لا تترك الحزم في أمرٍ تُحاوله
فإن أَمنْتَ فما بالحزم من باسِ
ولقد رأينا شعراء العرب يجعلون الميل إلى الراحة زراية ومذمة، كما قيل:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ولما أنشد الشاعر هذا البيت، شكاه المقول فيه إلى عمر، قال عمر: يا حسان، هل هذا البيت مدح أو قدح؟ فقال حسان: يا أمير المؤمنين، ما ذمه ولكنه سلح[78] على رأسه. فدعا به عمر فجلده الحد.
ومثله هجاء جرير لقوم حين يقول:
إني رأيت من المكارم حسبكم
أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا
فالاشتغال بتنويع الثياب وتعديلها وتبديلها هو شغل شاغِل عن المكارم، ولا ينافي هذا حديث «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ»[79] ولكن كل ما خرج عن حده فإنه يقع في ضده.
ولما أحس عمر بن الخطاب بانزلاق الناس في هذا النعيم والترف، وخشي عليهم أن تنحل عزائم حزمهم وقوتهم، كتب إلى عتبة بن فرقد يأمره بالرجوع إلى ما كانوا عليه أولاً من خشونة العيش، ويأمره بأن يرموا ويتسابقوا وينزوا على الخيل ويتمعددوا ويمشوا حفاة ومنتعلين؛ حرصًا منه على بقاء خشونة الرجولة وعدم ما يضادها من الميل إلى الميوعة فيها التي من لوازمها استرخاء الأعضاء بعد صلابتها.
وفي مسلم عن أبى عثمان النهدي قال: كتب إلينا عمر رضي الله عنه: يا عقبة بن فرقد، إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير.
وهو في مسند أبي عوانة الإسفراييني وغيره بإسناد صحيح، كما في الفروع: أما بعد؛ فاتزروا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل، وإياكم والتنعم وزي الأعاجم. وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب و انزوا وارموا الأغراض.
وبين أبو عوانة في صحيحه من وجه آخر سبب قول عمر ذلك، وأن عتبة بن فرقد قد بعث إلى عمر مع غلام له بسلال فيها خبيص عليها اللبود، فلما رآه عمر قال: أَيشبع المسلمون في رحالهم من هذا؟ قال لا. قال: عمر: لا أريده. وكتب إلى عتبة أنه ليس من كدك... الحديث[80].
هذا وإن الفرص تمر كمر السحاب، وإن غالب هذه الأشياء التي نحث على فعلها وعلى التخلق بها والقدوة عليها، كلها منوطة بشرخ الشباب الذي يتمنى كل شيخ الرجوع إليه وعوده إليه.
ثم إن من الحزم وفعل أولي العزم كون الرجل العاقل المفكر يقدر وقوع ما عسى أن لا يقع، ثم يمثل حاله فيه عند فرض وقوعه، وما عسى أن يصنع من الحول والقوة في سبيل دفاعه عن أهله ووطنه، إذ الحوادث تفاجئ الناس وهم في غفلة ساهون.
تأتي المصائب حين تأتي جملةً
وأرى السـرورَ يجيء في الفلتاتِ
هذا وإن من المعلوم أن كل دولة لديها جنود يحمون حدودها وحقوقها ويقومون بحفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، بحيث يلجأ الناس إليهم عند أدنى حادث يهمهم، فهم رحمة للعباد والبلاد ﴿وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ﴾ [البقرة: 251] وبعض الناس يرتضيها له عملاً ومكسبًا، فيقيم فيها عشر سنين وعشرين عامًا بحيث يشتهر بالتسمي بها، فلا كلام في هؤلاء، وإنما نتكلم في الشباب المجانبين لها من أهل البلد، وأن الأفضل دخولهم فيها ولو سنتين أو ثلاث سنوات، ليتفقهوا ويفقهوا أحكام الجندية وما تشتمل عليه من وسائل السلاح وأدوات القتال، كما ارتفع عن الناس اسم الأميّة لما احتاجوا بداعي الضرورة إلى الكتابة، فأصبح أكثرهم الآن عارفًا بالكتابة لأن العلم بالتعلم، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
إن المكارم منوطة بالمكاره، وإن السعادة لا يعبر إليها إلا على جسر المشقة والتعب، يقول الله تعالى: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ مِنكُمۡ وَيَعۡلَمَ ٱلصَّٰبِرِينَ ١٤٢﴾ [آل عمران: 142]، وقال: ﴿أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُواْ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا يَأۡتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلِكُمۖ مَّسَّتۡهُمُ ٱلۡبَأۡسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلۡزِلُواْ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصۡرُ ٱللَّهِۗ أَلَآ إِنَّ نَصۡرَ ٱللَّهِ قَرِيبٞ ٢١٤﴾ [البقرة: 214]. والنبي ﷺ قال: «رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»[81]، وذروة السنام هو أعلاه. والجهاد مأخوذ من بذل الجهد والطاقة في كل ما ينفع الناس من أمور الدنيا والدين، وهو فرض عين عليهم إذا دهمهم العدو في بلادهم، وفرض كفاية في غير ذلك. ولا نقول: إنه قد مضى وانقضى فإنه على رجعه لقادر، وقد فاز به السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. فقد باعوا أنفسهم إلى الله وحبسوا أبدانهم في حراسة الرُّبط في سبيل الله.
آثارهم تنبيك عن أخبارهم
حتى كأنك بالعيان تراهم
تالله لا يأتي الزمان بمثلهم
أبدًا ولا يحمي الثغور سواهم
والجهاد قولي وفعلي يكون بالسيف والسنان، ولا يتم الجهاد عن خاصة الدين والوطن إلا بتمام الاستعداد بوسائل الحرب وأسبابه، إذ العلم بالشيء ليس كالجهل به.
وإن من واجب المسلمين في كل بلد أن يتمرن شبابهم وذوو القوة منهم على معرفة ملاعبة السلاح بأنواعه وأدوات القتال بأنواعها من طائرات حربية ودبابات ومدافع وسلاح على اختلاف أنواعه، إذ التعلم لهذه الأشياء واجب على العموم، لا نقول: على كل فرد، وإنما نقول: على سبيل العموم. كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ يَضۡرِبُونَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَبۡتَغُونَ مِن فَضۡلِ ٱللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ﴾ [المزمل: 20]، وقال: ﴿فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةٖ مِّنۡهُمۡ طَآئِفَةٞ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ يَحۡذَرُونَ ١٢٢﴾ [التوبة: 122].
يقول العلماء المحققون: إن كل ما يأمر الله به في كتابه وعلى لسان نبيه، مما يتعلق بالقتال أو الصناعة وخاصة صناعة الأسلحة على اختلاف أنواعها وكذا الزراعة، فإنه من أمر الدين الذي يجب تعلمه وتعليمه وإلا أثم الناس بتركه، وخسروا حياتهم وعزهم بإهماله، إذ هو مما يحتاج إليه الناس بداعي الضرورة واختلاف الأحوال وإثارة الفتنة. ولكم في كتاب الله أسوة حسنة.
يقول الله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ﴾ [الأنفال: 60]، وهذا أمر من الله يقتضي الوجوب. والقوة شاملة لكل ما يتقوى به الناس على عدوهم، من طائرات ودبابات ومدافع وأنواع السلاح والسفن البحرية والمراكب البرية، لكون القوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومدار القوة على العلم بالصنائع والمخترعات وعلى المال الذي يستجلب به الصانع والمصنوع كما قيل:
بالعلم والمال يبني الناس مَجْدَهُمُ
لم يُبنَ مجد على جهل وإقلالِ
والنبي ﷺ قال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[82] ففسر القوة بالرمي، ولم يبين كيفية الرمي به لتنوعه بتجدّد الزمان.
لقد أثبت التاريخ في حروب الأمم السابقة مع أنبيائهم أن قتالهم كان بمجرد الحصى، يترامون به بطريق المقلاع وبالأيدي، وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه: ﴿وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُ﴾ [البقرة: 251]، قالوا: داود قتله بحجر في مقلاع حتى أصابه في رأسه فقتله. وقد قال الشاعر:
ولست بالأكثر منهم حصا
وإنما القوة للكاثرِ
وقد قيل: أليس لكل زمان ما يلائمه فإنما يُرمى الجندل بالجندل والحديد بالحديد. ثم تطورت الأحوال حتى توصلوا إلى النبال، وقد حاربوا به زمن النبي ﷺ، وكان عدة ما يقاتلون به مع النبال هي الرماح والسيوف وليس عندهم سلاح غيرها، ثم توصلوا إلى معرفة الدبابة في ذلك الزمان، وقد نصبها رسول الله ﷺ على أهل الطائف فأحموا لها النبال بالنار حتى خرقوها، ومنها المنجنيق يملؤونه حجارة ثقيلة ثم ينسفونه على أهل البلد، وقد حارب به النبي ﷺ أهل الطائف، وهو يقوم مقام المدفع في هذا الزمان إلا أن المدفع أشد منه، ثم دار الزمان بدورته حتى أوجدوا سلاحًا يسمى الفتيل وفيه يقول النصارى: لا تشتغل بسب عدوك ولكن أوقد الشمع يندفع عنك.
وإن كل عاقل سيدرك معي عظمة الفرق بين قتال المتقدمين وسلاحهم وبين المتأخرين، وإن صناع هذا العصر قد اختلقوا سلاحًا فتاكًا على اختلاف أنواعه، لا يُبقي ولا يَذر، وهو غلق صعب لا يعرفه إلا من اعتاد التمرن على مزاولته؛ لأن كثرة المزاولات تعطي الملكات، ويهدد بالقضاء على البشر لارتقاء أهله في العلوم المادية وهبوطهم في الأخلاق الدينية.
وإن من المعلوم اليقيني أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد جناية عليهم وعلى الإنسانية من جناية عدوهم عليهم، إذ إن توسعهم في العلوم والفنون واختراع الأسلحة الثقيلة التي يستعدون بها للحروب الكبيرة التي يدمرون بها في الأيام القليلة صروح العمران ومشيد البنيان من كل ما شيدته العصور الطويلة، وناهيك باختراع القنبلة الذرية التي تقضي بفناء الملايين من الآدميين المسالمين غير المحاربين من بين النساء والحوامل والشيوخ والأطفال والبهائم، وتفسد الحرث والنسل، ونزفها لمعظم ثروة الشعوب في سبيلها، وفي سبيل ظلمها للشعوب التي ابتليت بالسلطان الجائر الذي يحاول سلبهم حريتهم في دينهم ودنياهم، وصارت الدول الكبرى التي اخترعت هذه الأدوات اليوم هم أشد خوفًا على أمتهم، وقد وقع بهم وسيقع في مستقبل الأمر ما حذرهم ربهم من وقوعه بقوله: ﴿وَلَا يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوۡ تَحُلُّ قَرِيبٗا مِّن دَارِهِمۡ﴾ [الرعد: 31].
لكون هذا السلاح موضوعًا للبيع ويتسرب أكثره إلى البلدان العربية.
وإنه من الواجب على عموم الناس ولا نقول بوجوبه على كل فرد، وإنما يجب على العموم، بأن يوجد منهم من يتفرغ من شبابهم لسياسة هذا السلاح وثقافة العلم به بمهارة، بحيث يعلم بعضهم بعضًا، وإذا تركوا هذا التعلّم أثموا وخسروا شبابهم وعزهم؛ لأن كل ما أمر الله به فإنه من ديننا الذي يجب أن نتعلمه وأن نعلم الناس به.
إن أكثر بلدان العرب المسلمين تغص من كثرة الأجانب الغرباء متفرقين في سائر الأعمال والمعامل، وكثير منهم يدخلون في الجندية لكنهم عندما يحسون برائحة الحرب في البلد فإنهم يفرون إلى أهلهم وبلادهم، ويتركون نار الحرب تغلي أكباد أهل البلد، فهم الذين يضحّون بأنفسهم في سبيل حماية بلدهم وحياة أهلهم وأولادهم ويقولون:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكبِ
ومتى أمسك هذا السلاح الغلق الصعب من لا يحسن سياسته فإنه يبقى كعصا في يده لكون صُناعه عملوا على حساب أن لا يفهمه أكثر الناس.
إن الناس يستبشعون سماع الجندية ويستوحشون من الدخول فيها، وخاص الأسر والعوائل الفاضلة. وكنت ممن يكره ذلك، وقد طلب مني أحد أولادي الالتحاق بها فمنعته، لكنه لما راجعني الفكر الصحيح عرفت تمام المعرفة وجوب دخول بعض أولادي فيها؛ لكونها من باب الجهاد في سبيل الله دون الأنفس والوطن ودون الحدود والحقوق، ويكتسب منها حذاقة ومعرفة لسائر ما يجب أن يعلمه من وسائل القتال وسياسته، ومن المعلوم فضل العالم على الجاهل، فيترقى بها الإنسان إلى زيادة المعرفة في مواد القتال وفي ميادين الحركة والقوة والسياحة والسباحة وسائر ما يتمنى الإنسان الإحاطة بعلمه، ويكتسب بها الترقي في الراتب والرتبة.
والجندية مشتقة من التجند للقتال، وكان العلماء يسمونها بالفروسية، و لهم فيها مؤلفات في المسابقة والمصارعة والسباحة والحذق بمعرفة مواد القتال. فالجندية فيها فضل وشرف وحذق وَظَرف يستحقه من تسمى بها.
وعلى كل حال فإن من التحق بها وأصلح نيته وعمله فيها فإنه يستوجب الثناء والمدح ولا يلام ولا يذم لكونها من أشرف الأعمال.
يبقى الكلام فيما للحكومة مع الرعايا إذا استعصت عليها وامتنعت عن الالتحاق بها، فهل يسوغ للحكومة أن تجبر الشباب الصالح للدخول فيها أم لا؟
فالجواب: إنه متى حصل الدخول بالاختيار أو بطريق الترغيب بزيادة الأجر فإنه أفضل، إذ ما يعطونه في سبيل ذلك فإنه نافع وعائد بالنفع على أهلهم وعيالهم وأولادهم، فينبغي للحكومة أن تقدر قدرهم وأن ترفع شأنهم برفع مرتباتهم؛ لكونهم يفنون أعمارهم في سبيل حراسة الوطن وأهله، ومن العادة أن الجندي يشدّد عليه من قبل رئيسه بحيث لا يزول ولا يحول عن عمله ومكانه، فهو بذلك يستحق أن يكرم.
كما يجب على رؤساء القبائل أن يخضعوا لهذا العمل الشريف، وأن يعملوا عملهم في التحاق أولادهم فيه وما هي إلا ساعة ثم تنقضي. فمتى طلبت الحكومة أعيانًا تنتقيهم من أولاد القبائل فإن من واجب الجميع السمع والطاعة فيما يحبون وفيما يكرهون في العسر واليسر، لكون هذا من مصلحة الشباب، ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذ لا يتم الاستعداد بالقتال دون حماية الدين والوطن إلا بمعرفة وسائله وأسبابه ثم الدخول فيه من بابه، وفي هذا من مصلحة الشباب أنفسهم ومن مصلحة جميع الناس ما لا يخفى، فما يضر التاجر أو الأمير أو القاضي متى التحق ولده أو أولاده بالجندية سنتين أو ثلاثًا يتدرب فيها ويتعلم مواد القتال وسياسة الرمي بفنون السلاح مما يجعله أن يكون شجاعًا فارسًا حاذقًا.
وقد جعل النبي ﷺ من الصدقة أن تصنع لأخرق[83]، والأخرق هو الساذج غير الحاذق، إذ الفرق واسع بين المثقف العارف بسياسة الرمي والقتال ووسائله وبين الأخرق الساذج عديم المعرفة.
وفي سبيل الترغيب في صناعة السلاح لموجبه أخبر النبي ﷺ أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله[84]. يبقى مراعاة الجند لواجباتهم الدينية فيما بينهم وبين ربهم، والتي هي رأس سعادتهم في دينهم ودنياهم.
[73] متفق عليه من حديث معاوية. [74] رواه مسلم. [75] رواه أبو داود من حديث أبي وهب الجشمي. [76] أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث حذيفة بن اليمان. [77] متفق عليه من حديث أنس. [78] سلح: بال أو تغوط. وتستعمل للطير والبهائم ولا تستعمل للإنسان إلا مجازًا وتحقيرًا. [79] وتمام الحديث أن النبي ﷺ قال: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ» فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة. قال: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ». رواه مسلم. [80] ص227 (مطلب بيان فضل التواضع في اللباس) الجزء الثاني من كتاب غذاء الألباب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي. [81] رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. [82] رواه مسلم وغيره. [83] متفق عليه من حديث أبي ذر. [84] أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عقبة بن عامر.