متقدم

فهرس الكتاب

 

اللعب بالكرة وذم الإسراف فيه

لقد كان عند المتقدمين ألعاب يرتاحون إليها في سبيل لهوهم وفراغهم، مما يهيئ البسط لهم، فمنها ما يسمونه الشطرنج، ومنها ما يسمونه النرد، ومنها ما يسمونه اللعب بالجوز. وكل هذه إذا دخلها العِوَض صارت باطلة، لحديث: «لَا سَبَقَ -والسَّبَق بفتح الباء هو العوض- إِلَّا فِي خُفٍّ، أَوْ نَصْلٍ، أَوْ حَافِرٍ»، ويدخل في مسمى النصل والمراهنة عليه جميع البنادق لكونها بمعناه.

أما اللعب بالكرة المعروفة فإنه ليس له ذكر في ألعاب المتقدمين إلا عند النصارى. ولما كثر اختلاط المسلمين بالنصارى في بلادهم، وشاهدوا ما يعتادون فعله وما يتمرنون عليه ويوحون إلى الناس أنه من الرياضة المصححة الجسم، وصاروا يكتسبون به الأموال الطائلة في سبيل الرهان والمقامرة، لذلك انطبع في قلوب الناس محبته والتدرب عليه في بلاد المسلمين ومع أولاد المسلمين، وصار يُدعى له وإلى العمل فيه الجلداء الأقوياء الصحيحة بنيتهم، والذين يرجى منهم النفع ودفع الضر في غير هذا العمل الذي هو محض ضرر بلا نفع، إذ ليس هذا مما يفيد المجتمع ولا مما يحمى به الدين والوطن، وما هو إلا محض لهو وغفلة وكسر همة ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ إنه يجب إدخال الإصلاح والتعديل في رعاية شباب المسلمين. وإن الرأي السديد والأمر المفيد هو الأخذ بالقسم الكبير من الجلداء الأقوياء الصالحين للتمرن على التدريب في سائر مواد القتال، وإن هذا يعد من باب الإنقاذ من المهانة إلى الارتفاع في العز والكرامة، وهم له كارهون، وبذلك ينصرفون عن الدناءة، ويشتغلون بما هو أصح وأصلح لهم ولجميع الناس معهم.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ
ثم إن الله سبحانه في كتابه المبين قد نهى عن كل لعب محرم يفسد العقل والمال ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وإنه لأضر من اللعب بالقمار، وهو المسمى بالميسر في القرآن، فقال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ ٩٠ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيۡنَكُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ فِي ٱلۡخَمۡرِ وَٱلۡمَيۡسِرِ وَيَصُدَّكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِۖ فَهَلۡ أَنتُم مُّنتَهُونَ ٩١ [المائدة: 90-91].

إنه لا يشك كل عالم عارف بأن الكرة متى دخلها العوض فإنها نَفْسُ الميسر الذي نهى عنه القرآن، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع.

وأنها تقضي بالفناء المعنوي من ريعان الشباب القوي حتى لا يحسن شيئًا من الرجولة إلا اللعب بالكرة، وأن شباب هذا الزمان يعجز آباؤهم عن تدريبهم فيما يجب لهم من المحافظة على الفرائض والفضائل والتنزه عن منكرات الأخلاق والرذائل بداعي الضرورة ويحتاجون إلى المساندة والمساعدة من الحكومة، فإن الله يزع بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن.

أخبر الله سبحانه أن الخمر والميسر رجس، والرجس هو النجس الخبيث، وأنه من عمل الشيطان فلا يدمن شرب الخمر واللعب بالقمار إلا من هو شيطان. ثم قال: ﴿فَٱجۡتَنِبُوهُ وهو أبلغ من قوله: دعوه أو اتركوه؛ لأنها من المجانبة أي المباعدة، كأنه يقول: ابعدوا عنها كل البعد وكونوا في جانب وهي في جانب، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر. الله أكبر وكلام الله حق، لقد شاهدنا العداوة بين المسلمين حقيقة، جلية للعيان، فإن الشخص متى كان عفيفًا عنها وفي فسحة حينئذ يعيش مع الناس عيشة مرضية وبأخلاق كريمة زكية وبعقل وأدب وحسن خلق وظرف يتمتع في دنياه متاعًا حسنًا، يحبه أهله وجيرانه وأقاربه، ثم توضع له المودة في الأرض فيحيا حياة طيبة، يجد لذتها في قلبه وتسري بالصحة والسرور على سائر جسمه، فإذا انزلق في شرب الخمر وتخمر في قلبه حبها وأدمن شربها، فإنه ينسلخ من الفضائل ويتخلق بالرذائل وترك الفرائض، ويبغض أهله وأقاربه وجيرانه ويبغضونه، ثم تحل الكآبة على وجهه وتخيم الوحشة والخوف على أهل بيته، بحيث يتوقعون سطوته؛ لكونه قد أزال عن نفسه نعمة العقل الذي شرفه الله به وألحق نفسه بالمجانين. وكيف يرضى بجنون من عقل.

وأما اللعب بالكرة والقول بدخولها في مسمى الميسر، فإننا عندما نتكلم عليها فإنما نذم الإسراف فيها، والاهتمام المبالغ بها، وتفريق الشباب حولها إلى ما يسمى بالنوادي والفرق، وأن تصبح غاية في حد ذاتها، فهي بذلك ذميمة تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وتستغرق جهد الشباب ووقته وفكره وتصبح شغله الشاغل، بحيث يمر الوقت والوقتان من الصلاة وكل إنسان آخذ مقعده في مكانه، لا يبرح عنه ولا يزول عنه، والعيون والقلوب شاخصة إلى اللعب واللاعبين، والألسنة لاغية والقلوب لاهية: ﴿ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ ١٩ [المجادلة: 19].

وقد زاد الناس إسرافًا في حبها والولوع بها كونهم يتناوبون اللعب بها، فتكون سنة في هذه البلاد والسنة الأخرى في بلد آخر، وكل بلد تعمل عملها في تلقي هؤلاء وعمل اللازم في إكرامهم واحترامهم، مع ما ينفق في ذلك من أموال طائلة. ولعل أحد الشباب بمهارته وقوته يتحصل على الفوز بالظفر في لعبة فتضج معه الدنيا من شتى البقاع، حتى كأنه فتح للمسلمين أكبر الأمصار، ويعود سائر المغلوبين بالهم والغم، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم، ووقوع المشاحنات والتقاتل بين أنصار الفريقين، والشواهد على ذلك واضحة جلية، فكم من حوادث وقعت ودماء سالت عقب اللعب خاصة في البلدان الكبيرة العدد والتي أطارت الكرة بعقول أبنائها، حتى وصلت العداوة بين أبناء الأسرة الواحدة وبين الزوج وزوجته، لتشجيع كل فرد للفريق الذي يحبه، مما عسى أن يكون سببًا في العداوة والبغضاء بينهم كما أُخبَرُ بذلك. لهذا قلنا: إن من الخطأ تسامح الحكام لقبول هذه الدورات في سبيل اللعب بالكرة، إذ إنها في حقيقتها لا تزيد الناس إلا شحناء وعداوة وبغضًا.

أما إذا أصبحت الكرة ضمن برامج إعداد الشباب، ومجالاً لحركتهم ونشاطهم، مع ضرورة المحافظة على أوقات الصلاة وتدريبهم، وتشجيعهم بالتمرن على وسائل القتال والرمي وملاعبة السلاح، فلا أرى بأسًا من وجودها.

﴿سُبۡحَٰنَ رَبِّكَ رَبِّ ٱلۡعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ١٨٠ وَسَلَٰمٌ عَلَى ٱلۡمُرۡسَلِينَ ١٨١ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ ١٨٢ [الصافات: 180-182].