ردّ شبهة النصارى على المسلمين في عقيدة القضاء والقدر
يقول النصارى في تحاملهم على المسلمين: إنما ضعفوا وتأخروا وساءَت حالهم كلها من عدم تعلمهم للصنائع والمخترعات في هذا العصر اتكالاً منهم على عقيدة القضاء والقدر.
ونقول: إن المسلمين لا يحتجون بالقضاه والقدر في كل ما يحاولونه من أعمالهم، فهم يلومون ويذمون كل من يحتج بالقدر في ترك الأمر وارتكاب النهي، وأنه لا حجة في ذلك بل حجته داحضة عند ربه.
وقد أمر رسول الله أمته بأن يأخذوا بالكَيْس والحزم وفعل أولى العزم في جميع أعمالهم من أمور دينهم ودنياهم، وأن يأخذوا حذرهم ويستعدوا بالقوة لعدوهم وبما استطاعوا من الكيد والقوة، ونهى عن الكسل والعجز وأخبر أن الله يلوم عليه، كما أرشدهم ودلهم على الدواء عند الحاجة إليه، وقال: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ مِنْ دَاءٍ إِلَّا وَأَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً»[85]. وقال: «تَدَاوَوْا، وَلَا تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»[86].
ونهى أشد النهي عن أن يتكلوا على القضاء والقدر في شيء من أعمالهم، بل قال: «اعْمَلُوا، فُكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ»[87]. وقال رسول الله ﷺ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجَزْ»[88]. وهذا هو مناط التكليف الشرعي وبه تتم الحكمة والعدل والمصلحة، وعليه مدار عقيدة المسلمين. وقد قيل: العاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.
أما عقيدة الجبر كالذين يحيلون جميع تصرفاتهم في ترك واجباتهم وارتكاب محرماتهم إلى القضاء والقدر، فهذا الاعتقاد قد انقرض أهله من سنين طويلة، غير أنه في هذا الزمان نشأت طائفة من الناس الماردين والمارقين عن الدين، يحتجون بالقدر في ترك الواجبات وارتكاب المنكرات وشرب المسكرات، ومتى عذلته أو نهيته عن سوء عمله قال: هذا أمر كتبه الله عليَّ، فيجعلون عجزهم توكلاً، وكفرهم وفجورهم قضاءً وقدرًا، وسُمع من بعض الملاحدة أنه يقول: الذنب ذنب الذي خلق إبليس ليس ذنبي، وهؤلاء يعدهم المسلمون ملاحدة ليسوا من المسلمين.
إن اعتقاد القضاء والقدر الصحيح تنجم عنه الأفعال الصحيحة وتتبعه الصفات الحميدة، من بسط اليد في النفقة والصدقة والجرأة والإقدام وخلق الشجاعة على اقتحام الممالك في سبيل الحق وحماية الدين والوطن، ويلهج أهله بقولهم: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٥١﴾ [التوبة: 51].
إن هذا الاعتقاد يطبع في النفوس الثبات على المكارم وتحمل المكاره ومقارعة الأهوال الشديدة بجأش ثابت، ويحلي الأنفس بحلية الجود والسخاء، لاعتقاده أن ما أنفقه فإن الله سيخلفه، كما يحمله على التضحية بالروح في سبيل الحق عن الدنيا وزينتها.
فالمسلم الذي يعتقد هذا الاعتقاد، وأن نواصي الخلق بيد رب العباد يتصرف فيها كيف يشاء، وأن لله ما أخذ ولله ما أعطى، وأن الدنيا دار متاع يتمتع بها صاحبها برهة من الزمن ثم يزول عنها، وأن الآخرة هي دار القرار، وأن كل امرئ مجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، فهذا الاعتقاد متى رسخ في قلب المؤمن فإنه لا يرهب الموت أبدًا، ولا يجزع منه إذا نزل به؛ لاعتقاده أن له دارًا هي أبقى وأرقى من دار الدنيا، وعيشًا ونعيمًا هو أرغد وأنعم من عيش الدنيا، فإنه لن يجزع من فراق الدنيا والحالة هذه.
ثم إن هذا الموت ليس بفناء أبدًا لكنه انتقال من دار إلى دار أخرى، ليجزى فيها الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، فلا يجزع من الموت إلا الذي لم يقدم لآخرته خيرًا، ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، فهذا يجتمع عليه عند فراقه للدنيا سكرة الموت وحسرة الفوت وهول المطلع، فيندم حيث لا ينفعه الندم ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي.
لقد اندفع المسلمون بصحة عقيدتهم في أوائل نشاطهم في القرن الأول والثاني والثالث بشجاعة باسلة وقلوب ثابتة وإيمان راسخ، فاندفعوا إلى الممالك البعيدة في مشارق الأرض ومغاربها وبأيديهم القرآن يفتحون به ويسودون ويدعون الناس إلى العمل به، فهو السبب الأعظم الذي به نهضوا وفتحوا وسادوا وبلغوا المبالغ كلها من المجد والرقي، حتى استطاعوا أن يثلوا عروش كسرى وقيصر في أقصر مدة من الزمان، وهم أرقى الأمم حضارة وقوة ونظامًا وعددًا وعدة.
فما كان خوضهم لهذه المعارك التي هي غاية في اقتحام المهالك إلا من أجل إيمانهم بالقضاء والقدر على الوجه الصحيح، وأنها لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فهذا الاعتقاد هو الذي ثبت أقدام المسلمين مع قلتهم وضعفهم أمام جيوش أعدائهم التي يغص بها الفضاء، وتعج من كثافتها الأرض والسماء، فكشفوهم بقوة الإيمان، ثم نشروا التوحيد والصلاح والسعادة في سائر البلدان، وكانوا ممن قال الله فيهم: ﴿ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 41].
* * *
[85] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء. [86] رواه أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء. [87] متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب. [88] رواه مسلم.