حاجة الجنود إلى التدين الصحيح
إن حاجة الجنود إلى التدين الصحيح هي حاجة ضرورية، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ لأن الدين الصحيح يجعل للمؤمنين من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل بلوى عافية، فمتى صلح العمل بالدين صار آلة رقي ونشاط.
فجميع التواريخ المشهورة تشهد للإسلام لما كان يعمل به على التمام بأنه لا طاقة لأحد بمصارعته، ولا محيص لأحد عن التزام طاعته، سواء قلنا بحمل الجمع على الجمع أو بحمل الأفراد على الأفراد. وقد أوجب الله على المسلمين بأن لا يفر المائة منهم من مائتين، ولا الألف من ألفين؛ لقوله سبحانه: ﴿ٱلۡـَٰٔنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمۡ ضَعۡفٗاۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّاْئَةٞ صَابِرَةٞ يَغۡلِبُواْ مِاْئَتَيۡنِۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمۡ أَلۡفٞ يَغۡلِبُوٓاْ أَلۡفَيۡنِ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ ٦٦﴾ [الأنفال: 66].
ولم يزل هذا النصر في ازدياد ونشاط زمن النبي ﷺ وزمن خلفائه الراشدين إلى ثلاثة قرون أو أربعة قرون، لما كان قتالهم للدين وفي سبيل الدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع الكافرين بالتي هي أحسن.
وقد أنجز الله لهم ما وعدهم به بقوله: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيۡنَا نَصۡرُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٤٧﴾ [الروم: 47]. وبقوله: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا﴾ [المؤمن: 51]. وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمد: 7].
ونصر الله هو أن يقصد بالحرب الدعوة إلى الدين وحمايته، وإعلاء كلمته ابتغاء مرضاة الله ومثوبته، فالإيمان بالله وحده هو من أعظم الأسباب والوسائل المقتضية للنصر، ولكن لا بد مع هذا من الاستعداد بما أمر الله به من أخذ أهبة الحرب وإعداد عدته؛ لقوله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 60].
والقوة تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولكل زمان دولة ورجال، ذلك أن المؤمن إذا آمن بالله وتوكل عليه ولم يستعد للأمر بأخذ أهبة الحرب حسب سنة الله في الأسباب والمسببات فإنه يخفق سعيه، ويخيب ظنه، ويكون ملامًا شرعًا وعقلاً على تفريطه وإلقائه بيده إلى التهلكة، ولا ينفعه والحالة هذه إيمانه ولا توكله:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس
ولهذا يقول العلماء: إن التوكل على الله لا يكون صحيحًا إلا بعد اتخاذ الأسباب والوسائل التي تؤهله من الوصول إلى مقصوده، وإلا كان توكله عجزًا. ولما أخلى الرماة من الصحابة مراكزهم في فم الشعب الذي أمرهم رسول الله بحراسته يوم أُحد، فدخلت الخيل من جهته قتلوا سبعين من الصحابة وشجوا رأس رسول الله ﷺ وكسروا رباعيته ودلوه في حفرة وظنوه ميتًا، لهذا وقع التفكير من الصحابة في سبب هذه المصيبة والهزيمة، وهم أصحاب رسول الله ويقاتلون في سبيل الله ويظنون أنهم لن يغلبوا، فأنزل الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةٞ قَدۡ أَصَبۡتُم مِّثۡلَيۡهَا قُلۡتُمۡ أَنَّىٰ هَٰذَاۖ قُلۡ هُوَ مِنۡ عِندِ أَنفُسِكُمۡ﴾ [آل عمران: 165]؛ أي بسبب تفريطكم بإهمال ثغركم، لهذا صار الصحابة بعد هذه الوقعة أشد احتراسًا باستعمال الأسباب والوسائل؛ لأن ذنوب الجيش جند عليهم.
وقد أوجب الله إقامة فريضة الصلاة حال التحام القتال وتقابل الصفين، قال سبحانه: ﴿وَإِذَا كُنتَ فِيهِمۡ فَأَقَمۡتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَلۡتَقُمۡ طَآئِفَةٞ مِّنۡهُم مَّعَكَ وَلۡيَأۡخُذُوٓاْ أَسۡلِحَتَهُمۡۖ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلۡيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمۡ﴾ [النساء: 102]؛ لكون الصلاة نعم العون على ما يزاوله الإنسان من أمور الحياة، ولأنها صلة بين العبد وبين ربه، لهذا يجب على الجنود متى بعثوا فرقة إلى مكان أن يؤمروا عليهم أحدهم وأن يأمروا بأداء فريضة الصلاة عند دخول وقتها.
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص قال: أما بعد؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحروب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا قوة بهم؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفرة المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألون على عدوكم.
فما أشد حاجة الجنود ورعاية الشباب وأهل المدارس وسائر الدوائر الحكومية إلى التدين الصحيح الذي تنجم عنه آثاره، وعلى القائمين عليهم أن يمرنوهم على أداء الواجبات الدينية من الفرائض والصلوات في أوقاتها، فإنها نعم العون على ما يزاولونه من أمر دينهم ودنياهم، كتمرينهم لهم على الفنون العسكرية، فإن من شب على شيء شاب على حبه، وإنه من المؤلم جدًّا حينما نرى نسبة المسلمين المصلين من الضباط والجنود قليلة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى من لا يصلون، ولعل هذا التفريط في الترك ما علق بهم في بداية نشأتهم في تجندهم فنشؤوا عليه في حالة كبرهم، حيث لم يجدوا ما يزعهم في بداية تجندهم. وإن من الواجب على ولاة الأمر أن يصدروا قانونًا ملزمًا للجنود ولرعاية الشباب وللمعلمين بأداء الصلوات المفروضة في أوقاتها، ويكون عندهم إمام يذكرهم بالصلاة عند دخول وقتها إذ الوعظ والإرشاد لا يكون مفيدًا بدون وازع. وإن الجنود والمعلمين الذين يفرطون في الصلوات الواجبة التي هي عمود دينهم وأمانة ربهم سيكونون أشد تفريطًا في غيرها من سائر واجباتهم.