وقعة بدر الكبرى
وحاصل القصة هو ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره أن رسول الله ﷺ لما سمع بأبي سفيان مقبلاً من الشام بعير قريش، فعند ذلك ندب المسلمين إليه وقال: «هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا». فندب الناس فخف بعضهم للخروج وثقل بعضهم؛ لأنهم يظنون أن رسول الله لن يلقى حربًا، وكان أبو سفيان بن حرب حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار تخوفًا على الأموال التي معه حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان بأن محمدًا قد استنفر أصحابه لعير قريش، لهذا أخذ أبو سفيان الحذر وهو من السياسة والرياسة بمكان وبصحبة عمرو بن العاص، فاستأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة وأمره بأن يأتي قريشًا فيستنفرهم إلى حماية أموالهم ويخبرهم بأن محمدًا وأصحابه قد عرضوا لها لمحاولة أخذها، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة حتى وصلها وكان رجلاً خفيفًا حديد اللسان، فلم يرع قريشًا إلا صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفًا على بعيره وقد جدع أنف بعيره وحول رحله، وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش، اللطيمة اللطيمة، أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث.
قال: فتجهز الناس سراعًا وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي، والله ليعلمن غير ذلك. فخرجوا على الصعب والذلول.
قال ابن إسحاق: فكانوا بين رجلين، إما خارج وإما باعث مكانه رجلاً. وأوعبت قريش. فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه قد أفلس بها.
قال ابن إسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخًا جليلاً جسيمًا ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار حتى وضعها بين يديه، ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء. قال: قبحك الله وقبح ما جئت به. قال: يا أبا علي، تجهز. واخرج مع الناس. هكذا قال ابن إسحاق في هذه القصة.
وقد رواها البخاري على نحو آخر فقال: حدثني أحمد بن عثمان، حدثنا شريح ابن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق، حدثني عمر بن ميمون، أنه سمع عبد الله بن مسعود حدث عن سعد بن معاذ أنه كان صديقًا لأمية ابن خلف، وكان أمية إذا مر بالمدينة نزل على سعد بن معاذ وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية، فلما قدم رسول الله ﷺ المدينة انطلق سعد بن معاذ معتمرًا فنزل على أمية بمكة، قال سعد لأمية: انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت. فخرج به قريبًا من نصف النهار، فلقيهما أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، من هذا الذي معك؟ قال: هذا سعد. قال له أبو جهل: ألا أراك تطوف بمكة آمنًا وقد آويتم الصبأة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالمًا. فقال له سعد ورفع صوته عليه: أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه، طريقك إلى المدينة. فقال له أمية: لا ترفع صوتك يا سعد على أبي الحكم، فإنه سيد أهل الوادي. قال سعد: دعنا عنك يا أمية فوالله لقد سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إِنَّهُ قَاتِلُكَ». قال: بمكة؟ قال: لا أدري. ففزع لذلك أمية فلما رجع إلى أهله قال: يا أم صفوان، ألم تري ما قال لي سعد؟ قالت: وما قال لك؟ قال: زعم أن محمدًا أخبرهم أنه قاتلي. فقالت: بمكة؟ قال: لا أدري. فقال أمية: والله لا أخرج من مكة.
فلما كان يوم بدر استنفر أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركم، فكره أمية أن يخرج، فأتاه أبو جهل فقال: يا أبا صفوان، إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي تخلفوا معك. فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذ عبتني فوالله لأشترين أجود بعير بمكة. ثم قال أمية: يا أم صفوان، جهزيني. فقالت له: يا أبا صفوان، أوقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا، وما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا.
فلما خرج أمية أخذ لا ينزل منزلاً إلا عقل بعيره، فلم يزل كذلك حتى قتله الله ببدر. وقد رواه البخاري في موضع آخر عن محمد بن إسحاق عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق.
وقال يونس عن ابن إسحاق: خرجت قريش على الصعب والذلول في تسعمائة وخمسين مقاتلاً، ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بهجاء المسلمين، وذكر المطعمين لقريش يومًا يومًا، وذكر الأموي أن أول من نحر لهم حين خرجوا من مكة أبو جهل نحر لهم عشرًا، ثم نحر لهم أمية بن خلف بعسفان تسعًا، ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشرًا، ومالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها وأقاموا بها يومًا، فنحر لهم شيبة بن ربيعة تسعًا، ثم أصبحوا بالجحفة فنحر لهم يومئذ عتبة ابن ربيعة عشرًا، ثم أصبحوا بالأبواء فنحر لهم نبيه ومنبه أبناء الحجاج عشرًا، ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشرًا، ونحر لهم على ماء بدر أبو البختري عشرًا، ثم أكلوا من أزوادهم. قال الأموي: حدثنا أبو بكر الهذلي قال: كان مع المشركين ستون فرسًا وستمائة درع، وكان مع رسول الله ﷺ فرسان وستون درعًا.
هذا ما كان من أمر هؤلاء في نفيرهم من مكة ومسيرهم إلى بدر، وأما رسول الله ﷺ فقال ابن إسحاق: وخرج رسول الله ﷺ في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه، وكان جملة الذين شهدوا بدرًا مع رسول الله ﷺ من المهاجرين والأنصار ثلاث مائة وأربعة عشر رجلاً، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس، ورد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة، ودفع لواءه إلى مصعب بن عمير، وكان أبيض، وبين يدي رسول الله ﷺ رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب يقال لها: العقاب، والأخرى مع بعض الأنصار.
قال ابن هشام: كانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ. وقال الأموي: كانت مع الحباب بن المنذر.
قال ابن إسحاق: وكان معهم سبعون بعيرًا يعتقبونها، فكان رسول الله وعلي ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرًا، فقالا: نحن نمشي عنك يا رسول الله. فقال: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي، وَلَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا».
ثم نزل مما ثار الخبر عن قريش واستشار الناس، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن المقال، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن نقول: اذهب فقاتل ونحن نقاتل عن يمينك وشمالك.
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرًا فأناخا إلى تل قريب من الماء، ثم أخذا شنًّا لهما يستقيان فيه ومجد بن عمرو الجهني على الماء، فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحضر وهما تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدًا أو بعد غد فأعمل لهم، ثم أقضيك الذي لك. قال مجد: صدقت. ثم خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس.
فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله ﷺ وأخبراه بما سمعا وأقبل أبو سفيان حتى تقدم العير حذرًا حتى ورد الماء، فقال لمجد بن عمرو: وهل أحسست أحدًا؟ قال: ما رأيت أحدًا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما. ثم انطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما، فأخذ من أبعار بعيريهما ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعًا فضرب وجه عيره عن الطريق، فساحل بها، وترك بدرًا بيساره وانطلق حتى أسرع.
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا- وكان بدر موسمًا من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام- فنقيم عليه ثلاثًا فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فامضوا.
وكان الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليفًا لبني زهرة وهم بالجحفة فقال: يا بني زهرة، قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة ابن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جُبْنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة، لا ما يقول هذا، قال: فرجعوا فلم يشهدها زهري واحد. أطاعوه وكان فيهم مطاعًا ولم يكن بقي من بطن قريش إلا وقد نفر منهم ناس إلا بني عدي لم يخرج منهم رجل واحد، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس، فلم يشهد بدرًا من هاتين القبيلتين أحد. قال: ومضى القوم.
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ونزل رسول اللهﷺ وأصحابه بالعدوة الدنيا مما يلي المدينة.
قلت: وفي هذا قال تعالى: ﴿إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡ﴾ [الأنفال: 42]؛ أي من ناحية الساحل ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ وَلَٰكِن لِّيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗا﴾ [الأنفال: 42]، وبعث الله السماء وكان الوادي دهسًا فأصاب رسول الله ﷺ وأصحابه منها ماء لبّد لهم الأرض ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشًا منها ماء لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
قلت: وكانت ليلة بدر ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة ثنتين من الهجرة وقد بات رسول الله ﷺ تلك الليلة يصلي إلى جذع شجرة هناك ويكثر في سجوده أن يقول: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ». يكرر ذلك ويلفظ به عليه السلام.
قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله ﷺ يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به، قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ». قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنحن نشرب وهم لا يشربون. فقال رسول الله ﷺ: «أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ».
ثم إن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد سابق كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِي ٱلۡمِيعَٰدِ﴾، وكان المشركون هم أول من بدأ بالهجوم على رسول الله وأصحابه حيث إن الأسود بن عبد الأسد هجم على الحوض الذي بناه المسلمون فتلقاه حمزة بسيفه فقطع رجله، ثم نشبت الحرب بينهما، فنصر الله نبيه وجنده على المشركين فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وضربوا عليهم الفداء كل واحد بحسبه.
وقد استشار رسول الله ﷺ أصحابه في الأسرى فأشار أبو بكر قائلاً: يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما نأخذه قوة لنا على قتال الكفار، وعسى الله أن يهديهم فيكونوا عضدًا لنا. وقال: «مَا تَرَى يَا عُمَرُ؟». فقال: إني لا أرى رأي أبي بكر، ولكني أرى أن تمكنني من قريبي فلان، وتمكن عليًّا من قريبه فلان، وتمكن كل قريب من قريبه فنضرب أعناقهم حتى يعلموا أنه ليس في قلوبنا هوادة ولا مودة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فركن رسول الله إلى ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر، فضرب عليهم الفداء كل أحد بحسبه ولم يقل لهم: إما أن تسلموا وإلا قتلناكم، بل سرحهم إلى أهلهم بشركهم حتى دخلوا في الإسلام باختيارهم بعد فتح مكة، ومنهم من دخل الإسلام قبل ذلك.
ثم إن الرسول وأصحابه غنموا ما عند قريش من الخيل والدروع والسلاح ورجع فلُّهم -أي بقيتهم- إلى مكة مكسورين حزينين، ومنعوا النياحة على قتلاهم اتقاء الشماتة، وكان الحجاج بن علاثة قد قتل له ابنان هما نبيه ومنبه فسمع صوتًا عاليًا فقال لجاريته: انظري ما هذا الصوت لعله نُفس عن الناس في ندب موتاهم حتى أبوح بما في صدري. فرجعت الجارية وقالت: يا سيدي، هذا صوت امرأة أعرابية قد انطلق بعيرها من عقاله فهي تندبه تريد رده. فتزفر وقال:
أتبكي أن يضل لها بعير
ويمنعها عن النوم السهود
فلا تبكي على بكر ولكن
على بدر تقاصرت الجدود
ألا قد ساد بعدهم أناس
ولولا يوم بدر لم يسودوا
* * *