متقدم

فهرس الكتاب

 

الجهاد بالحجة والبيان والسنة والقرآن قبل الجهاد بالسيف والسنان

إن دين الإسلام قام واستقام على الكتاب الهادي والسيف الناصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا.

إن الأمة الإسلامية مكلفة من قبل الله بنشر هذا الدين والتبشير به جميع خلقه، وإزالة ما غشيهم من الظلم والاضطهاد والفتنة فيه وإزالة معابد الشرك، والدعوة إلى الله بالحجة والبيان والسنة والقرآن، وإن تعذر فبالسيف والسنان.

فوظيفة الكتاب أي القرآن هو إبلاغ الناس بما أنزل إليهم من ربهم ودعوتهم إلى دين الله الذي فيه صلاحهم وفلاحهم وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالهم بالتي هي أحسن.

وهذا هو حقيقة ما رسمه القرآن لأهله في أدب البحث والمناظرة مع المخالفين لهم في الدين، ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨ [يوسف: 108]، وقال سبحانه: ﴿۞وَلَا تُجَٰدِلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ إِلَّا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنۡهُمۡ [العنكبوت: 46]. قال مجاهد: الذين ظلموا منهم هم من قاتل المسلمين ولم يعطهم الجزية. وفي رواية عنه قال: الذين ظلموا منهم أهل الحرب ممن لا عهد لهم، فالمجادلة لهم تكون بالسيف. وفي رواية عنه قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ولم يعط الجزية.

فوظيفة السيف هي كف العدوان عن الدين وعن المؤمنين، إذ لابد للدين ونشره والدعوة إليه من قوة تؤيده وتحميه وتعين على تنفيذه. وعن أنس أن النبي ﷺ قال «جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَأَنْفُسِكُمْ، وَأَلْسِنَتِكُمْ» رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم.

وقد شرط العلماء في الجهاد المشروع أن تتقدمه الدعوة في حق من لم تبلغه على الوجه المطلوب بخلاف المحاربين المعاندين، فإن جدالهم بالجلاد حتى يذعنوا لتعاليم الإسلام وهو آخر ما يعامل به الكفار المعاندون على حد ما قيل:
فيا أيها النّوام عن رَيِّق الهدى
وقد جادكم من ديمة بعد وابلِ
هو الحق إن تستيقظوا فيه تغنموا
وإن تغفلوا فالسيف ليس بغافلِ
وما هو إلا الوحي أو حدُّ مرهفٍ
تميل ظباه أخدَعَيْ كلِّ مائلِ
فهذا دواء الداء من كل عالمٍ
وهذا دواء الداء من كلِّ جاهل
ومتى أوجبت الحاجة والمصلحة الجهاد بالقتال فإنه يجب قبله إعداد القوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو مع الإيمان بالله عز وجل، يقول الله سبحانه: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِينَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعۡلَمُهُمۡ [الأنفال: 60].

فنص بالذكر على الخيل لأنها مراكب المقاتلين الشجعان في ذلك الزمان، ولكل زمان قوة تناسبه، فإنما يُرمَى الجندل بالجندل والحديد بالحديد.

وفسر النبي ﷺ القوة فقال: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»[49]، لكنه لم يفسر المرمي به، وليست القوة مقصورة عليه، وقد حارب النبي ﷺ بالمنجنيق ونصب الدبابة على أهل الطائف.

ومفهوم الآية أن الله سبحانه أمر المسلمين بأن يستعدوا لأعدائهم بما يستطيعونه من القوة. ولفظ القوة، عام يشمل كل ما يتقوون به على حرب عدوهم، ويشمل كل ما هو آلة للحرب من أسلحة البر والبحر والجو على اختلاف أنواعها وأشكالها بحسب الأزمنة والأمكنة.

والوسائل لها أحكام المقاصد وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لهذا يجب تعلم ما يفيد المسلمين في إصلاح حالهم في حالة حربهم لعدوهم من إنشاء معاهد لتعليم الجنود وتدريبهم فنون القتال واستعمال آلات الحرب، حسبما يستجده الزمان من الصنائع، إذ هذا من أسباب القوة التي يُتقى بها وقوع البلاء.

قالت الخنساء في الحجاج الثقفي:
إذا سمع الحجاج رزء كتيبة
أعد لها قبل القدوم قِراها
إذا هبط الحجاج أرضًا مريضة
تتبَّع أقصى دائها فشفاها
إنه متى تعذر سبيل الجهاد بالقتال فإنه يجب الجهاد بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد فتح الله للمسلمين كثيرًا من البلدان بالدعوة إلى الله بدون قتال، كبلدان اليمن على كثرتها وتعدد مدنها، فإن المسلمين فتحوها بمجرد الدعوة، وأرسل النبي ﷺ إليها معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري، ومثلها بلدان البحرين فقد فتحت بدون قتال، وأرسل النبي ﷺ إليها أبا العلاء بن الحضرمي ثم أرسل إليها أبا عبيدة بن الجراح، ومثلها بلدان عمان فقد فتحها الإسلام بدون قتال، فكل هذه البلدان دخل فيها الإسلام زمن النبي ﷺ بمجرد الدعوة والإبلاغ بدون قتال، ثم سارت الفتوح على نحو ذلك ففتح العلم والبيان والسنة والقرآن من البلدان ما لم يصل إليها السيف والسنان.

وقد دخل المهاجرون والأنصار في الإسلام بمجرد الدعوة بدون قتال لكون الجهاد هو بذل الجهد والطاقة في الدعوة إلى الله بإعلاء كلمته ونشر دينه، وهو قولي وفعلي، يكون باللسان والحجة والقرآن ويكون بالقوة والسنان.

وأكثر الأنبياء لم يفرض عليهم القتال، ولكل قوم حالة تناسب دعوتهم بالقوة أو بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكان النبي ﷺ في حالة عجزه وعدم قدرته على المقاومة من أجل قلة عدد قومه وضعفهم مأمورًا بكف اليد عن القتال، وأن يجاهد الكفار بالقرآن فيدعوهم ويعظهم، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢ [الفرقان: 51-52].

وكما قال سبحانه: ﴿وَقُل لَّهُمۡ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ قَوۡلَۢا بَلِيغٗا ٦٣ [النساء: 63].

وكان النبي ﷺ ينصب لحسان منبرًا ويقول: «اهْجُهُمْ يَا حَسَّانُ، فَإِنَّ شِعْرَكَ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ»[50].

فمتى كان هجو المشركين بالشعر مشروعًا كما سبق، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام وإبطال حجج الكفار والمشركين وأهل الكتاب؟ فجهاد الكفار باللسان والحجة والبيان ما زال مشروعًا من أول الأمر إلى آخره.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الجواب الصحيح: إنه من المعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره بالسيف والسنان، فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعًا واختيارًا بغير سيف؛ لما بان لهم من الآيات والبينات والبراهين والمعجزات من أن دينه الحق. انتهى.

ثم قال الكاتب رحمه الله: (إن حروب الرسول ﷺ كان هو البادئ فيها بالقتال لنشر هذا الدين، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنه لم يسبق منهم ذلك إلا في نادر الأحوال) انتهى.

فالجواب أن هذا الخطاب وقع منه على سبيل الخطأ حيث صده الهوى عن رؤية الهدى ويغفر الله له. يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ - أي: لأجل إيمانكم بربكم - إلى قوله: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢ [الممتحنة: 1-2].

فبسط اليد بالسوء هو ضربهم وشجاجهم وجروحهم وأنواع الأذى منهم للصحابة وبسط ألسنتهم هو بالشتم واللعن والسخرية وغير ذلك من أنواع الأذية.

وحسبك أن الصحابة رجالهم ونساؤهم فارقوا وطنهم العزيز عليهم إلى الحبشة فرارًا بدينهم وأبدانهم عن التعذيب والافتتان، فالمشركون هم المحاربون لله ورسوله، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ [البقرة:190]، فأمر سبحانه عباده المؤمنين بأن يقاتلوا كل من تصدى لقتالهم حتى لو تصدت المرأة لقتال المسلمين لاستحقت أن تقتل وتقاتل كالرجال، ثم قال: ﴿وَلَا تَعۡتَدُوٓاْ، وفسر الاعتداء بقتل النساء والصبيان والرهبان والعميان، وفسر بإحراق الشجر وقتل الحيوان، وفسره بعضهم بقتال من لا يقاتل المسلمين.

ثم قال: ﴿وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ١٩١ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ١٩٢ [البقرة: 191-192]، وقال: ﴿وَقَٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ كَآفَّةٗ كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ [التوبة: 36] ولم يقل: قاتلوا المشركين حتى يسلموا، بل قال: ﴿كَمَا يُقَٰتِلُونَكُمۡ كَآفَّةٗ وهذا فيه المقاضاة بالمثل، وهو أن المسلمين يقاتلون كل من تصدى لقتالهم فيقتلون بطريق الطلب أي الهجوم أو الدفاع سواء وجدوا قائمين أو نائمين، يقول الله: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ [البقرة: 194] ﴿وَجَزَٰٓؤُاْ سَيِّئَةٖ سَيِّئَةٞ مِّثۡلُهَا [الشورى: 40]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة: 217]، وهذا هو غاية ما يبتغي المشركون من الرسول وأصحابه.

ثم قال سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ [الحج: 39-40]، فأثبت سبحانه بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه.

نظيره قوله سبحانه: ﴿أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ ١٤ وَيُذۡهِبۡ غَيۡظَ قُلُوبِهِمۡ [التوبة: 13-15]، وهذه شهادة من الله سبحانه في حقيقة بداءتهم بالاعتداء والقتال لرسول الله ﷺ وأصحابه، وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم.

فأثبت سبحانه في هذه الآيات بدء المشركين بالقتال للنبي ﷺ وأصحابه وأنهم لم يألوا جهدًا في الأذى والاعتداء وتعذيب كل من آمن بالله ورسوله، والمؤمنون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، يجب أن يدافعوا عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلادهم.

فدعوى الكاتب بأن الرسول الكريم هو البادئ بالقتال لنشر هذا الدين، فإن هذا يعد من الخطأ المبين. وقد استباح الكاتب القول به لنصرة رأيه وإعلاء كلمته ليثبت بذلك ما ذهب إليه من أن الجهاد الشرعي هو قتال الكفار حتى يسلموا لا فرق في ذلك بين الكفار المسالمين والكفار المحاربين، وهذا القول وهذا الاعتقاد هو أكبر ما يشنع به النصارى على المسلمين، بحيث إن المبشرين والقسيسين يلقنون الطلاب هذا القول ويقولون: إن المسلمين يوقفون الرجل على حرف السيف ويقولون له: إما أن تسلم و إلا قتلناك، وإن لم يسلم قتلوه.

ونقول: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الإسلام هداية اختيارية لا إكراه فيها ولا إجبار، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، يقول الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة: 256]، وقال: ﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ٩٩ [يونس: 99].

وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وقد خرج رسول الله ﷺ من مكة التي هي أحب البقاع إليه خائفًا مختفيًا حين تمالؤوا على قتله بصورة يضيع بها دمه، وذلك بأن يعطوا كل رجل سيفًا فيضربونه جميعًا بسيوفهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأذن له بالهجرة، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠ [الأنفال: 30]، وكان يقول: «وَاللَّهِ إِنَّكِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَيَّ، وَلَوْلا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ لَمَا خَرَجْتُ»[51].

يقول الله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِيَآءَ تُلۡقُونَ إِلَيۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ يُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ [الممتحنة: 1]؛ أي من أجل إيمانكم بربكم. ومثله قوله: ﴿لِلۡفُقَرَآءِ ٱلۡمُهَٰجِرِينَ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِمۡ وَأَمۡوَٰلِهِمۡ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗا وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّٰدِقُونَ ٨ [الحشر: 8]. فأثبت سبحانه شدة عداوتهم للمسلمين حيث أخرجوهم من بلادهم وأموالهم، وأنه يجب جهادهم أينما ثقفوا وتحرم موالاتهم ببرهم.

بخلاف من لم يقاتل المسلمين ولا يكون مع قوم يقاتلونهم، فإنه يباح برهم والإحسان إليهم لقول الله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَٰتَلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَأَخۡرَجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ وَظَٰهَرُواْ عَلَىٰٓ إِخۡرَاجِكُمۡ أَن تَوَلَّوۡهُمۡۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ ٩ [الممتحنة: 8-9]، وهذه آيات محكمات لا نسخ فيها ولا تخصيص ولا تقييد، وهي إنما نزلت عام الفتح.

* * *

[49] أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر. [50] أخرجه مسلم من حديث عائشة. [51] أخرجه الترمذي والإمام أحمد من حديث ابن عباس.