معاملة المسلمين للمخالفين لهم في الدّين
إن النبي ﷺ أعطى أمته مثلاً عاليًا في تصرفاته ومعاملته مع المخالفين له في الدين من أهل الكتاب وغيرهم من سائر المسالمين لهم، فقد كان يجيب دعوتهم ويعود مرضاهم ويرد السلام عليهم.
ففي البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ». حتى إنهم في تحريفهم الكلم عن مواضعه يقولون: السام عليكم؛ يعني الدعاء بالموت، فيرد عليهم النبي ﷺ فيقول: «وَعَلَيْكُمْ».
كما في البخاري عن عائشة قالت: إن اليهود أتوا النبي ﷺ قالوا: السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، فَعَلَيْكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ والفُحْشَ». قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ».
لقد سعى رسول الله عليه الصلاة والسلام بشريعته السمحة وعدله الشامل إلى أسس علاقات المسلمين بغيرهم من المخالفين لهم في الدين فسمى الله الإسلام سلمًا لأنه مبني على المسالمة والأمان، قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ﴾ [البقرة: 208]، فسمى الله الإسلام سلمًا، فهو يؤثر السلم على الحرب، كما قال سبحانه: ﴿۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ﴾ [الأنفال: 61]؛ أي إذا كنت في حرب مع أعدائك ومالوا إلى السلم والمصالحة فأجبهم إلى ذلك.
وقد جعل الله السلام تحية أهل الإسلام يتبادله المسلمون في صلواتهم وفيما بينهم، وخيرهم الذي يبدأ بالسلام، فتسلم على من عرفت ومن لم تعرف.
والسلام هو دعاء بالسلامة وبمعنى الأمان، فمتى سلم إنسان على آخر فرد عليه السلام، فكأنه قد دخل معه في عهد وأمان، يقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ﴾ أي تثبتوا ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ٩٤﴾ [النساء: 94].
وسبب نزول هذه الآية أن سرية من أصحاب النبي ﷺ جاؤوا إلى صاحب غنم، فلما أقبلوا عليه قال لهم: السلام عليكم. فلم يردوا عليه، وقالوا: إنه ليس بمسلم وإنما سلم علينا ليحرز عنا غنمه بالسلام. فسبقهم القرآن بخبرهم، وفيه الأمر بالتثبت حيث كرره مرتين متى ضربوا في الأرض غزاة خشية أن يصيبوا قومًا بجهالة، ولأن أعمال الناس يجب أن تجري على حسب ما ظهر منهم، ويرشد القرآن الحكيم إلى أنكم كنتم كفارًا مثلهم فهداكم الله إلى الإسلام، فاشكروا الله على نعمة الهداية، فإن ربكم يحب الشكر.
ومن سماحة الإسلام ما ثبت عن النبي ﷺ من أخلاقه ومعاملته مع المخالفين في الدين، فمن ذلك ما روى أبو داود، حدثنا سليمان بن حرب، أنبأنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، أن غلامًا من اليهود كان مريضًا، فأتاه النبي ﷺ يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: «أَسْلِمْ». فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فأسلم، فقال النبي ﷺ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ». وتوفي رسول الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين وسقًا من شعير[71].
وروى الطبراني من حديث جابر بن عبد الله أن النبي ﷺ قال: «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ، وَهُوَ الْجَارُ الْكَافِرُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ». فجعل للكافر حقًا بجواره «وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْجَارُ الْمُسْلِمُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ الْجَارُ ذُو الرَّحِمِ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَحَقُّ الْقَرَابَةِ».
وكان ابن عباس يقول: هلا أهديتم إلى جارتنا اليهودية. حتى قال له غلامه: كم تقول لنا هذا! من كثرة ما يكرره عليهم، فقال: إن النبي ﷺ أوصانا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه.
ومن سماحة الخلفاء الراشدين مع المخالفين لهم في الدين ما ذكره الموفق بن قدامة في رسالته الرد على الموسوسين وحاصله أن عمر لما قدم الشام صنع أهل الكتاب له طعامًا، فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا: في الكنيسة. فكره دخولها وقال لعلي: اذهب بالناس. فذهب علي بالمسلمين فدخلوا وأكلوا، وجعل علي ينظر إلى الصور وقال: ما على أمير المؤمنين لو دخل وأكل.
فالإسلام والرسول عليه الصلاة والسلام يحث على الإحسان إلى المسلم والمخالف له في الدين، وقد سأل الصحابة عن الصدقة على أقارب لهم من المشركين، فأنزل الله تعالى: ﴿۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢﴾ [البقرة: 272].
فأمروا بالصدقة عليهم، كما يدل قوله سبحانه: ﴿لَّا يَنۡهَىٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ فِي ٱلدِّينِ وَلَمۡ يُخۡرِجُوكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ أَن تَبَرُّوهُمۡ وَتُقۡسِطُوٓاْ إِلَيۡهِمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ ٨﴾ [الممتحنة: 8].
إنه لما امتد سلطان المسلمين على البلدان الأجنبية واتسعت فتوحهم في الأقطار الأجنبية صاروا يعاملون أهل الكتاب بأحسن معاملة من العطف واللطف والمساواة في الحقوق؛ لأن شريعة الإسلام توجب على المسلم أن يتواضع مع خصمه من أهل الكتاب في الجلوس للقضاء مهما كانت منزلته ورئاسته، كما جلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع اليهودي صفًّا بصف بين يدي عمر بن الخطاب فقضى بينهما، حتى إن عليًّا رضي الله عنه استدرك على عمر قوله له: قم يا أبا الحسن واجلس مع خصمك. فمن بعد الفراغ من الخصومة قال عمر: أكرهت يا علي أن تجلس مساويًا لخصمك. قال علي رضي الله عنه: كلا، ولكني كرهت حين قلت: يا أبا الحسن. يريد أن الكنية تشير إلى التعظيم أمام الخصم.
وكان أهل الكتاب يعيشون مع المسلمين متجاورين متساعدين، ﴿لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِيَ دِينِ ٦﴾ [الكافرون: 6]، فلا يتعدى بعضهم على بعض ولا يجعلون اختلاف عقائدهم سببًا لمثار النزاع بينهم، وصار النصارى يعيشون مع المسلمين في أمان واطمئنان، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وسموا أهل الذمة من أجل أنهم في ذمة الله وذمة المؤمنين، من رامهم بسوء غرم وأثم.
وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب أوصى في مرضه بأهل الذمة وقال: أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرًا، بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. فصار الجميع يتعاونون على الكسب والسعي والعمران وفنون العلم والعرفان، وأخذ الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون ينشرون عليهم ظلًّا ظليلاً من الرعاية والاحترام، فيحترمون معابدهم وكنائسهم، فلا يتعرض لها أحد منهم بضرر ولا يمنع أهلها من دخولها، ثم إن المسلمين يعولون سائر العجزة والعميان ومن لا كسب له، فيقومون بكفايتهم من المعيشة والكسوة كسائر ضعفة المسلمين.
وفي الصلح الذي أجراه رسول الله مع وفد نجران ما يدل على ذلك، فقد روى أبو عبيد رحمه الله أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران فكتب لهم كتابًا: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتبه محمد النبي لأهل نجران وحاشيتها، لهم ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وصلبانهم وبيعهم -أي كنائسهم- ورهبانهم وأساقفتهم -أي علمائهم- على أن لا يغير لهم أسقف من سقيفاه ولا راهب من رهبانيته، وعلى أن لا يخسروا ولا يعشروا، ومن ملك منهم حقًّا فالنصف بينهم على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا منهم فذمتي منه بريئة وعليهم الجهد فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معسوف عليهم. شهد عثمان بن عفان ومعيقيب والأقرع بن حابس وغيلان بن سلمة وأبو سفيان بن حرب».
وقد قيل: إن النبي ﷺ فرش لهم عباءته وأجلسهم عليها. وقد عمل الخلفاء الراشدون مع المخالفين لهم في الدين كل ما أوصى به رسول الله في هذا الصلح الواقع بينه وبين أهل نجران، فأبقوهم على عقيدتهم وملتهم وصلبانهم وكنائسهم، ولم يكرهوا أحدًا على الخروج عن دينه، وبسبب هذا التسهيل وعدم الإكراه في الدين أخذ النصارى يدخلون في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، ومن أقام منهم على دينه فإنه آمن على نفسه وماله وعياله.
وقد أساء النصارى الصنيع مع المسلمين في هذا الزمان في كثير من البلدان ضد ما فعله بهم المسلمون، وضد ما كان عليه قدماء النصارى، فإن من تعاليم المسيح الأمر بالهدوء والعفو والصفح وعدم الانبعاث بالشر، لكنهم لما تباعدوا عن تعاليم المسيح أخذوا يتميزون بالحقد والشحناء على المسلمين، وسفك الدماء والتمثيل وتشويه الأبرياء وخطف الأولاد والنساء وهدم المساجد المشيدة للعبادة وقتل الرهبان في كنيستهم، ودين الإسلام وسائر الأديان تحرم قتل الرهبان وهدم المساجد والكنائس وسائر المواضع المشيدة للعبادة، وناهيك بحوادث لبنان في هذا الزمان فإنها لم تشهد لبنان ولا غيرها من البلدان أبشع ولا أشنع منها، حتى صارت لبنان نيرانًا مستعرة وأنقاضًا مستقذرة.
وهذا العمل بهذه الصفة ينذر بشر العواقب وأسوأ النتائج عليهم وعلى كافة الناس معهم، ﴿وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيًۡٔا﴾ [المائدة: 41]. والفقهاء المتقدمون لم يهملوا حقوق أهل الذمة، وقد نصوا على وجوب الرفق بهم ودفع من يتعرض لأذيتهم، فقال الشهاب القرافي، وهو من كبار أئمة التشريع في الإسلام، في كتابه الشهير الفروق:إن عقد الذمة يوجب لهم حقوقًا علينا لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وفي ذمة الله تعالى وذمة رسوله ﷺ ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو أي نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله وذمة رسوله ﷺ وذمة دين الإسلام.
وقال الإمام ابن حزم في مراتب الإجماع: إن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك، فإن تسليمه إهمال لعقد الذمة. وقد شهد المؤرخون من سائر الأمم بأنه ما عرف فاتح أعز ولا أقوى ولا أسرع سيرًا في الفتوح من المسلمين حين دخل الإيمان قلوبهم، بل ولا أعدل ولا أرحم منهم، وأنهم لم يتوصلوا إلى ما تحصلوا عليه إلا بالإيمان بالله وحده والسياسة بالعدل والإصلاح، وأن جميع الشعوب لم يخضعوا لهم ويدينوا بدينهم ويتعلموا لغتهم إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الكفيل بسعادة البشر كلهم، الصالح لكل زمان ومكان، الذي نظم حياة الناس أحسن نظام.
فهو السبب الأعظم الموجب لدخول الناس من جميع الأمم في دين الله أفواجًا أفواجًا طائعين مختارين، وهذا أمر مشهور ومشهود به بين سائر الأمم، يعرفه كل من عرف الإسلام وأهله.
قال لوثروب ستودارد الأمريكي في كتابه حاضر العالم الإسلامي:كان لنصر الإسلام هذا النصر الخارق للعادة عوامل ساعدت عليه أكبرها: أخلاق العرب وماهية تعاليم صاحب الرسالة وشريعته السمحة.
وقد عرف العرب بدورهم كيف يسوسون الحكم ويوثقون السلطان حتى دانت لهم أمور الملك واستقرت نقطة دائرته في أيديهم.
فالعرب المسلمون في فتوحهم لم يكونوا قط أمة تحب إراقة الدماء وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك، أمة موهوبة جليلة الأخلاق والسجايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعمة التهذيب، تلك النعمة التي انتهت إليها من الحضارات السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد كان اختلاط بعضهم ببعض سريعًا وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة؛ الحضارة العربية الإسلامية.
فسارت الممالك الإسلامية في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير، فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارةً ورقيًّا وتقدمًا وعمرانًا، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة والحواضر العامرة والمساجد الفخمة والجامعات العلمية المنظمة طول هذه القرون الثلاثة.
قال الدكتور جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: سيرى القارئ حينما نبحث في فتوح العرب وأسباب انتصاراتهم أن القوة لم تكن هي العامل في انتشار الإسلام، ولكن العرب تركوا المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فانتحل بعض الشعوب من النصارى دين الإسلام واتخذوا العربية لغة لهم ودينًا لما يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لا عهد للناس بمثله، ولما كان عليه دين الرسول من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى قبله.
وقال أيضًا في موضع آخر: يمكن أن تُعمي فتوح العرب الأولى أبصار أناس فيقترفون ما يقترفه الفاتحون عادة ويسيئون معاملة المغلوبين ويكرهونهم على اعتناق دينهم الذي كانوا يرغبون في نشره في أنحاء العالم، ولو فعلوا ذلك لتألبت عليهم جميع الأمم.
ولكن الخلفاء السابقين -أي الراشدين- الذين كان عندهم من العبقرية ما يندر وجوده في عادة الديانات، أدركوا أن النُّظم والأديان ليست مما يفرض قسرًا على الناس.. فعاملوا أهل سورية ومصر وأسبانيا وكل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، فارضين عليهم جزية زهيدة في مقابل حمايتهم لهم وحفظ الأمن بينهم.
والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل قدماء المسلمين، فرحمتهم وتسامحهم كان من أسباب اتساع فتوحهم واعتناق الكثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة ومخلدة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم، وإن أنكر ذلك المؤرخون.
وقال ميشود في كتابه تاريخ الحروب الصليبية: إن الإسلام الذي أمر بالجهاد هو متسامح نحو الأديان الأخرى وقد أعفى البطاركة والرهبان وخدمهم من الضرائب، وقد حرم قتل الرهبان على الخصوص لعكوفهم على العبادات، ولم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح القدس، وقد ذبح الصليبيون من المسلمين العدد الكثير وحرقوا اليهود عندما دخلوها.
فهذه المقالات من المؤرخين الذين يعتنون بضبط الحوادث وتشخيصها على صفتها وهم لا يمتون إلى الإسلام بصلة، وإنما يعطون الحوادث حقها من العناية والتفصيل، وكفى بالله شهيدًا.
* * *
[71] أخرجه البخاري من حديث عائشة.