حروب الصحابة لفارس والروم
وأما حروب الخلفاء الراشدين لفارس والروم فقد اشتبه أمرها على بعض العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين بما فهموه من بعض الآيات وبعض الغزوات والسرايا، مما يوهم أن المسلمين هم البادئون بالحرب لسائر الأمم وخاصة حروبهم في فتح البلدان زمن الخلفاء الراشدين، فيظنون كل الظن أنه هجوم محض، وخفي عليهم سبب بداءة الحرب بينهم وبين المشركين، وبينهم وبين فارس والروم بتسلط النصارى على المسلمين بقتلهم كل من أظهر إسلامه في سائر البلدان التي سيطروا عليها في الشام وغيرها، فهذا وإن ظنه بعض الناس هجومًا لكنه حقيقة دفع لشرهم.
إن الغرض من الحرب ونتيجتها هو دفع الاعتداء والظلم واستتباب الأمن وعبادة المسلمين ربهم آمنين في دينهم ووطنهم، وإعلاء كلمة الحق ودعوة الدين وتنفيذ شريعة الله. وكل هذا تعود مصلحته إلى البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، إذ هو دين الله لكافة البشر والذي قال الله فيه: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانُ لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]. وقال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا﴾ [المائدة: 3].
إذ لولا هذا القتال الذي شرعه الله ﴿لَّهُدِّمَتۡ صَوَٰمِعُ وَبِيَعٞ وَصَلَوَٰتٞ وَمَسَٰجِدُ يُذۡكَرُ فِيهَا ٱسۡمُ ٱللَّهِ كَثِيرٗاۗ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ٤٠ ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡاْ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٤١﴾ [الحج: 40-41].
ونصر الله هو أن يقصد بالحرب حماية الحق وإعلاء كلمته.
أما حروب الصحابة لفارس والروم فإن الأصل فيها أنها لما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة على الإسلام وعلى التمسك به، والعمل بموجبه، صار أولئك الجيران أعداء لكل من أظهر الإسلام فيؤذونهم ويضربونهم. وقد قتل النصارى بعض من أسلم من المسلمين بالشام، فهم بدؤوا بحرب المسلمين بغيًا وظلمًا. والمسلمون متكافلون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، فيجب الدفاع عن أفرادهم كما يدافعون عن أنفسهم وأولادهم وبلدانهم، فيقاتلون في سبيل ذلك حتى تزول الفتنة عن الدين وعن المؤمنين المستضعفين. فأرسل رسول الله سرية أمّر عليهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم ابن رواحة، وهو أول قتال قاتله المسلمون مع النصارى، بمؤتة من أرض الشام.
وكان جيران جزيرة العرب من الروم بالشام ومصر وفارس والعراق اعتدوا على بعض من أسلم من المسلمين، فأخضعوهم لسلطانهم وكانوا يكتبون لبعض المسلمين يدعونهم إلى دينهم، كتبوا لكعب بن مالك لما هجره رسول الله على تخلفه عن غزوة تبوك. وكان الصحابة يترقبون هجوم غسان عليهم - وهم ملوك الشام - لما بلغهم أنهم ينعلون الخيل لغزوهم، حتى أصيبت المدينة بالخوف الشديد من ترقب هجومهم، وعند ذلك أمر النبي ﷺ بغزوة تبوك لما بلغه أن الروم قد جمعوا جموعًا كثيرة بالشام وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين، وساعدهم على ذلك متنصرة العرب. ولهذا أمر النبي ﷺ بالخروج في ذلك الوقت الحرج، وكان المسلمون في شدة من العسرة والمجاعة وانقطاع الظهر ولذا سميت غزوة العسرة، وهي الغزوة التي ظهر فيها صدق المؤمنين ونفاق المنافقين. وقد أرسل النبي ﷺ شجاع بن وهب الأسدي بكتابه إلى الحارث بن شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام.
وكانت غسان هم ملوك عرب الشام وكانوا حربًا لرسول الله، قال شجاع: فوجدتهم ينعلون خيولهم لمحاربة رسول الله وأصحابه: فانتهيت إليه وهو في غوطة دمشق وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقدوم قيصر، وقد أقبل من حمص إلى إيلياء (القدس)، قال: فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة، قلت لحاجبه: إني رسول رسول الله إليه. قال: إنك لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا. وجعل حاجبه وكان روميًّا يسألني عن رسول الله، فكنت أحدثه عنه وما يدعو إليه، فيرق قلبه حتى يغلب عليه البكاء ويقول: إني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، فأنا أومن به وأصدقه لكني أخاف من الحارث أن يقتلني متى علم بإسلامي.
قال شجاع: وخرج الملك -أي الحارث الغساني- يومًا فجلس فوضع التاج على رأسه وأذن لي بالدخول عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله ﷺ فقرأه ثم رمى به كالكاره له وقال: من ينزع مني ملكي؟ وقال: إني سائر إلى صاحبك ولو كان باليمن.
ولم يزل تعرض عليه الخيول ويأمر أن تنعل ثم قال لي: أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره بخبري وما عزم عليه من غزو الرسول وأصحابه، وأجابه قيصر وقال: لا تسر ولا تعبر إليه واله عنه. فلما جاءه كتاب قيصر دعاني فقال: متى تريد أن ترجع إلى صاحبك؟ قلت: غدًا. فأمر لي بمائة مثقال ذهبًا ووصلني حاجبه بنفقة وكسوة، وقال حاجبه: اقرأ على رسول الله مني السلام. فقدمت على رسول الله وأخبرته خبره، قال رسول الله: «بَادَ مُلْكُهُ».
من المعلوم أن فارس والروم كانتا أمتي حرب وقتال، ولديهما الاستعداد التام بالعدد والعتاد وقد ضربتا بجرانيهما على ما جاورهما من بلاد العرب، وسعيا سعيهما في إضلال العرب وإفساد دينهم، وفي تنكرهم لرسول الله وعدم إجابتهم له. والعرب مستذلون تحت سلطانهم وسيطرتهم، ولم يستقلوا استقلالاً تامًّا إلا بعد الإسلام.
فلما علما بإسلام العرب أخذا يعملان عملهما في التضييق عليهم وتعذيبهم كي يرجعوا عن دينهم؛ لأنه ساءهما دخول أكثر العرب الإسلام، وخشوا صولة الدين عليهما مما يخافان أن يقوض ممالكهما، فكان كل منهم يهدد دعوة الإسلام في بلاده وبجواره ويمنعون أشد المنع من نشرها في بلادهم، وكانوا يؤذون كل من يظنون أنه أسلم، فكانت حرب الصحابة كلها لأجل حماية الدعوة وحماية المسلمين من تغلب القوم الظالمين، لا لأجل الإكراه على الدخول في الدين.
إن التنازع بين الناس في مرافق الحياة ووسائل المال والجاه والسلطان كله غريزة من غرائز البشر، وقد يقضي التنازع إلى التعادي والاقتتال بين الجماعات كما هي عادة البشر من قديم الزمان، وقد يكون التنازع والتقاتل لسبب تملك الأقطار واتساع العمران وتسخير الناس للسلطة الظالمة والسلطان الجائر، فيكون ضرره كبيرًا وشره مستطيرًا، أما القتال المذكور في القرآن وفي سيرة الرسول وخلفائه وأصحابه فإنه مبني على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة للبشر كلهم، فما كان النبي ﷺ يطلب بالقتال ملكًا ولا مالاً ولا سلطانًا، وقد عرض عليه رؤساء قريش كل ذلك على أن يكف عن دعوته فلم يقبل، وإنما يطلب أن تكون كلمة الله هي العليا ودينه الظاهر. وكان قتاله ودفاعه في سني الهجرة دفاع الضعيف للقوي إلى أن أظفره الله وأظهره على قريش بفتح مكة عنوة.
إن المسلمين في دعوتهم لأمتي فارس والروم لم يستعملوا القوة في بداية أمرهم، وإنما كانوا يطلبون من الممتنعين أن يسمحوا لهم بنشر دين الله في بلادهم، دين الحق، دين جميع الخلق والذي أوجب الله أن ينذروا به ويبلغوه جميع خلقه، يقول الله تعالى: ﴿لِأُنذِرَكُم بِهِۦ وَمَنۢ بَلَغَ﴾ [الأنعام:19]، فهم ينذرون ويحذرون ويبشرون بقول الله سبحانه: ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ كَثِيرٗا مِّمَّا كُنتُمۡ تُخۡفُونَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَعۡفُواْ عَن كَثِيرٖۚ قَدۡ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٞ وَكِتَٰبٞ مُّبِينٞ ١٥ يَهۡدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَهُۥ سُبُلَ ٱلسَّلَٰمِ وَيُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذۡنِهِۦ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ ١٦﴾ [المائدة: 15-16]؛ لأنه دين الفطرة السليمة والطريقة المستقيمة والناس ينصاعون لاستجابة دعوته، ومن لوازمه تقويض دعائم ملكهم وسلطانهم، وحتى النصارى في هذا الزمان فإن أشد ما يقع بأسماعهم هو الدعوة إلى الدين.
وهذه غاية القتال لأهل الكتاب المشار إليها بقوله تعالى: ﴿قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ ٢٩﴾ [التوبة: 29].
إن قيام الإسلام إنما هو بالدعوة والحجة، وانتشاره السريع على بلدان العالم إنما هو بموافقته للفطرة والمصلحة، ﴿إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُ﴾ [آل عمران: 19]، ﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ ٨٥﴾ [آل عمران: 85]، فكان الصحابة في فتوحهم لا يتقدمون خطوة إلا والدعاة أمامهم يبينون للناس حقيقة الإسلام وما يترتب عليه من الفضل في الدنيا والسعادة في الآخرة، وبسبب هذا القتال في سبيل الله وفي سبيل حرية الدعوة حصل ما ترتب عليها من الفتوح للأقطار وسائر الأمصار حتى انتشر فيها الإسلام وصار أكثر النصارى من الأمم حنفاء لله يعبدونه ولا يشركون به شيئًا.
ثم إن المسلمين عاملوا من دخل تحت سلطانهم معاملة حسنة بمقتضى العدل والإنصاف، حيث ساووهم بأنفسهم في جميع معاملات الحياة وأقاموا أنفسهم مقام الحماة لهم دون دمائهم وأموالهم، فلا يتعرض لهم أحد بسوء، ولا لمعابدهم ومقدساتهم. وقد أوصى عمر بأهل الذمة خيرًا بأن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وهذا مما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الشك والجدل، ﴿يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ قَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمۡ عَلَىٰ فَتۡرَةٖ مِّنَ ٱلرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِنۢ بَشِيرٖ وَلَا نَذِيرٖۖ فَقَدۡ جَآءَكُم بَشِيرٞ وَنَذِيرٞۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ١٩﴾ [المائدة: 19]، ﴿قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۢ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ ٦٤﴾ [آل عمران: 64].
وحيث أمر الله بإبلاغ القرآن والإنذار به والدعوة إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالفين بالتي هي أحسن، فمتى منع المسلمون من ذلك وهدد الدعاة أو منعوا من نشر دعوتهم في البلاد، فإن المانعين لهم يعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين بقطع سبيل الدعوة إلى ربهم وإلى ما فيه صلاحهم وصلاح البشر كلهم، بسبب منعهم عن نشر دين الله في بلادهم، فعند ذلك يعتبر المسلمون مكلفين من الله باقتحام كل شدة ومشقة، وخوض كل خطر وضرر في سبيل نشر دين الله، فيقاتلون في سبيل الله دفعًا لشرهم، فإن الاعتداء على الدين أضر من الاعتداء على الأنفس والأموال، والفتنة فيه أشد من القتل، يقول الله تعالى: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 193].
فالإسلام لم يدع إلى قتال الكفار إذا هم أذعنوا ولم يعتدوا على الإسلام والمسلمين بشركهم ولا تشكيكهم ولم ينقصوا المسلمين شيئًا ولم يظاهروا عليهم عدوهم، فإن أجابوا الدعوة قبل منهم، وإن امتنعوا طلب منهم الجزية وهي نزر حقير ترمز لخضوعهم للإسلام وارتباطهم بعهده وعقده وكف الأذى والاعتداء على الدين وعلى المسلمين مع بقائهم على دينهم، ثم إن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
والحقيقة أن المسلمين إنما شهروا سيوفهم لضرورة الدفاع عن أنفسهم وكفًّا للعدوان عنهم وعن دين الله الذي أمروا أن يبلغوه، فهم لم يستعملوا القوة إلا عند الحاجة وفي حالة الضرورة وقد فتحوا بعض البلدان بدون قتال لموافقة أهلها لدخولهم ونشر دعوتهم فيها. وسيرة النبي ﷺ وأصحابه في القتال مبنية على قواعد العدل والرحمة وعموم المصلحة لكافة البشر من غير اعتداء على دين أحد أو ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده.
* * *