متقدم

فهرس الكتاب

 

حصار النبي ﷺ للطائف

وأما حصار النبي ﷺ للطائف حيث ذكر الكاتب أنه ابتداء بالاعتداء من النبي بدون سبق اعتداء منهم عليه، وهذا إنما نحمله على الجهل الواقع من الكاتب لعدم الفقه بأحكام غزوات النبي ﷺ.

وقد ابتلي الكاتب بقلب الحقائق في المعقول والمنقول حتى تسلط بالتحريف على غزوات الرسول، ومن الواجب على العالم العاقل متى تصدى لتأليف أي كتاب فيما يرجو به النفع للإسلام والمسلمين أن يكون لديه مؤهلات علمية واسعة يعرف بها الحق بدليله، ويميز بين صحيحه وعليله، فيتضح له الطريق ويتمكن من إبراز دلائل التحقيق، فإن العلم الصحيح هو سلاح الدنيا والدين، والواقي عن الوقوع في الخطأ المهين، حتى لا يتعدى بجريمة الخطأ على الدين، ولا على رسول رب العالمين، ولا على علماء المسلمين المؤلفين.

فنسبة الابتداء بالاعتداء من الرسول على هوازن والطائف وقريش في بدر وغيرها، كل هذا يُعد من الخطأ المبين، ولا ننسب استباحة القول به على التعمد منه، وإنما نشأ عن نقص العلم وقصور الفهم، فهو يطعن في الدين من حيث يحاول نصره، ويضره من حيث يريد نفعه، وهو في الحقيقة لا الدين نصر ولا الباطل كسر.
ويسألني عن علتي وهو علتي
عجيب من الأنباء جاء به الخبر
ومن العناء العظيم استيلاد العقيم والاستشفاء بالسقيم، فما أبعد البرء من مريض داؤه من دوائه وعلته من حميته.

أما حصار النبي ﷺ للطائف فإنهم البادئون بالاعتداء عليه في بداية الأمر ونهايته، فهم محاربون لله ورسوله وعباده المؤمنين ويستحقون القتل والقتال لثلاثة أمور:

أحدها: أن النبي ﷺ سافر إليهم قبل هجرته إلى المدينة لنشر دين الله وليطلب منهم أن يؤووه لتبليغ رسالة ربه، وأقام عندهم -فيما قيل- عشرة أيام يتردد على الرؤساء والأكابر، ثم تمالؤوا عليه بينهم وقالوا: إنه يريد أن يسفه أحلامنا ويفسد أولادنا. فأرسلوا عليه سفهاءهم فأخذوا يرمونه بالحجارة ورؤساؤهم يضحكون من فعلهم به، وكان زيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة لتقع فيه دونه، حتى رجع النبي ﷺ عنهم كئيبًا حزينًا، وهذا نوع من بداءتهم بقتاله.

الأمر الثاني: أن ثقيف أهل الطائف شاركوا هوازن في حرب رسول الله يوم حنين، وعندما نصر الله نبيه وأصحابه فروا إلى بلدهم فغزاهم النبي ﷺ بعد فراغه من هوازن لقول الله سبحانه: ﴿فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ فَٱعۡتَدُواْ عَلَيۡهِ بِمِثۡلِ مَا ٱعۡتَدَىٰ عَلَيۡكُمۡ [البقرة: 194]. وهل غزوهم في بلادهم لمشاركة هوازن في حرب الرسول وأصحابه إلا صريحٌ في الابتداء بالاعتداء حنقًا منهم على الرسول في فتحه مكة وهي عداوة تليدة؟

الأمر الثالث: أن النبي ﷺ لما أقبل على أهل الطائف يريد أن يدعوهم إلى دين الله راجيًا أن يكونوا كأهل مكة في استجابة دعوته وعدم مقاتلته برزوا لقتاله، فرماهم بالمنجنيق ونصب عليهم الدبابة، فكانوا يرمونه بنبال الحديد المحماة بالنار من فوق السطوح ومن وراء الحيطان حتى قتلوا سبعة من أصحابه، فانصرف عنهم النبي ﷺ وتركهم.

فكل واحدة من هذه الثلاث تستوجب قتلهم وقتالهم كسائر المحاربين لله ورسوله وعباده المؤمنين، فما بالك باجتماع الثلاث فيهم؟ وكل ما ذكرنا فإنه من العلم الذي اتفق عليه سائر علماء السير والمؤرخين.
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهمُ
فكل غزوات الرسول صريحة في كف العدوان عن الدين وعن عباد الله المؤمنين كما سبق في غزو هوازن لحربه، حيث زحف ملكهم بجنوده من عوالي نجد بمن معه من قبائل العرب حتى نزل بحنين القريبة من مكة لقصد الهجوم على الرسول وأصحابه، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيساعدونه، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا.

والحاصل أن النبي ﷺ في غزواته كلها إذا قاتل فإنما يقاتل لرد العدوان على الدين أو على المؤمنين، وليس هذا بالظن ولكنه اليقين، حتى ما يبدو للناس من بعض غزواته أنها وقعت ابتداء بما يسمى الطلب، فإنه بالتحقيق يتبين أن لها سببًا من اعتداء المشركين عليه كغزوة بني المصطلق، فقد ثبت في الصحيحين أن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون يسقون مواشيهم على مياههم. قد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن إسحاق: أنه بلغ رسول الله أن بني المصطلق يجمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فلما سمع بهم رسول الله خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد فتزاحم الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل، وذلك في شعبان سنة خمس من الهجرة. فهذه القصة تثبت الابتداء بالاعتداء من بني المصطلق على النبي ﷺ وإن لم يتم لهم أمرهم لكون النبي عاجلهم قبل أن يفاجئوه؛ لاعتبار أنهم قد أعلنوا بحربه والمحاربون يقاتلون على أي حال وجدوا.

* * *