غزوة هوازن يوم حنين
قال الكاتب: (إن حروب الرسول ﷺ وأصحابه لهوازن وحصاره للطائف وكذلك الغزوات الأخرى حيث كان الرسول هو البادئ للقتال لنشر هذا الدين بين الناس، ولم تكن الغزوات منه لأنهم قاتلوه أو اعتدوا عليه، فإنهم لم يسبق لهم ذلك إلا في نادر الأحوال).
وأقول: سبحان الله ما أغفل هذا الكاتب عن سبب مثار هذه الغزوة وبداءة الاعتداء من زعيم هوازن مالك بن عوف حيث زحف بالجنود من العرب الذين اتبعوه، فزحف بهم من عوالي نجد وأهلهم وعيالهم معهم للحفيظة والمصابرة على القتال، حتى وصل بهم إلى حنين وهو المكان المعروف بين مكة والطائف؛ لقصد أن يفاجأ النبي وأصحابه بالهجوم عليهم من قريب، لظنه أن المغلوبين من أهل مكة سيكونون عونًا له على قتال الرسول وأصحابه، وقد خاب سعيهم فيما يؤملون وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فجهاد رسول الله لهم هو حقيقة في دفع شرهم مع العلم أنهم من الأعراب الذين قال الله فيهم: ﴿ٱلۡأَعۡرَابُ أَشَدُّ كُفۡرٗا وَنِفَاقٗا وَأَجۡدَرُ أَلَّا يَعۡلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ﴾ [التوبة: 97].
قال الله تعالى: ﴿لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ ٢٥ ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٦ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٢٧﴾ [التوبة:25-27].
وقد ذكر ابن إسحاق في كتابه أن خروج رسول الله ﷺ إلى هوازن بعد الفتح في الخامس من شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر رمضان قبل خروجه إليهم بخمس عشرة ليلة، وهكذا روي عن ابن مسعود، وبه قال عروة بن الزبير، واختاره أحمد وابن جرير في تاريخه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله ﷺ إلى هوازن لست خلون من شوال، فانتهى إلى حنين في عاشره. وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة. فانهزموا، فكان أول من انهزم بنو سليم ثم أهل مكة ثم بقية الناس.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله ﷺ وفتحه مكة، جمعهم زعيمهم مالك بن عوف النضري فاجتمع إليه من هوازن ثقيف كلها واجتمعت نضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء، وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفي بني جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شيخًا مجربًا.
وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود بن مسعود بن معتب، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث، وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النضري، فلما أجمع السير إلى رسول الله ﷺ أحضر مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار له يقاد به فلما نزل قال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حزن ضرس ولا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قالوا: هذا مالك. ودعي له، قال: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. قال: فأنقض به، ثم قال: راعي ضأن، والله هل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: أين كعب وكلاب؟ قال: لم يشهدها منهم أحد. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم فعلتم كما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر. قال: ذانك الجذعان لا ينفعان ولا يضران. ثم قال: يا مالك، إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئًا ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم الق الصبأة على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك كفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك. ثم قال مالك: والله لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري. وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي، قالوا: أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني.
فلما سمع بهم نبي الله ﷺ بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيسمع منهم ويعلم ما قد جمعوا له من حرب رسول الله ﷺ، وسمع من أمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله ﷺ فأخبره الخبر، فلما أجمع رسول الله ﷺ السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعًا وسلاحًا، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك قال: «يَا أَبَا أُمَيَّةَ، أَعِرْنَا سِلَاحَكَ هَذَا نَلْقَى فِيهِ عَدُوَّنَا غَدًا». فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ قال: «بَلْ عَارِيَةٌ، وَهِيَ مَضْمُونَةٌ حَتَّى نُؤَدِّيَهَا إلَيْكَ». فقال: ليس بهذا بأس. فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله ﷺ سأله أن يكفيهم حملها، ثم خرج رسول الله ﷺ معه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة وكانوا اثني عشر ألفًا، واستعمل عتاب بن أسيد على مكة أميرًا، ثم مضى يريد لقاء هوازن.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله قال: لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط، إنما ننحدر فيه انحدارًا. قال: وفي عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضائقه، وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد منهم على أحد، وانحاز رسول الله ﷺ ذات اليمين، ثم قال: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟ هَلُمَّ إِلَيَّ، أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ».
وبقي مع رسول الله ﷺ نفر من المهاجرين وأهل بيته، وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر، ومن أهل بيته علي والعباس وأبو سفيان بن الحارث وابنه والفضل بن عباس وربيعة بن الحارث وأسامة بن زيد وأيمن ابن أم أيمن وقتل يومئذ.
قال: فاجتلد الناس. قال: فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسارى عند رسول الله ﷺ. قال ابن إسحاق: ولما انهزم المسلمون ورأى من كان مع رسول اللهﷺ من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الطعن، فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. وإن الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الجنيد -وقال ابن هشام: صوابه كلدة- الآن بطل سحر محمد. فقال صفوان أخوه لأمه وكان بعد مشركًا: اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن.
وذكر ابن سعد أن شيبة بن عثمان الحجي قال: لما كان عام الفتح دخل رسول الله ﷺ مكة عنوة، قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرة فأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا، وكنت مرصدًا لما خرجت له لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة، فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله ﷺ عن بغلته فأصلتُّ السيف فدنوت أريد ما أريد منه، ورفعت سيفي حتى كدت أشعره إياه فرُفِع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمتحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عليه، فالتفت إلي رسول الله ﷺ فناداني: «يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي». فدنوت منه فمسح صدري ثم قال: «اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنَ الشَّيْطَانِ». قال: فوالله لهو ساعتئذ كان أحب إلي من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان في نفسي. ثم قال: «ادْنُ فَقَاتِلْ» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي الله أعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حيًّا لأوقعت به السيف. فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون، فكروا كرة رجل واحد وقربت بغلة رسول اللهﷺ فاستوى عليها وخرج في أثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خباءه فدخلت عليه، ما دخل عليه أحد غيري حبًّا لرؤية وجهه وسرورًا به، فقال: «يَا شَيْبُ، الَّذِي أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرٌ مِمَّا أَرَدْتَ لَنَفْسِكَ». ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي ما لم أكن أذكره لأحد قط، قال فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم قلت: استغفر لي. فقال: «غَفَرَ اللَّهُ لَكَ».
وقال ابن إسحاق: وحدثني الزهري عن كثير بن العباس عن أبيه العباس بن عبد المطلب قال: إني لمع رسول الله ﷺ آخذ بحكمة بغلته البيضاء قد شجرتها بها وكنت امرأ جسيمًا شديد الصوت، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول حين رأى ما رأى من الناس: «إِلَى أَيْنَ أَيُّهَا النَّاسُ؟». قال: فلم أر الناس يلوون على شيء. فقال: «يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا أَصْحَابَ السَّمُرَةِ». فأجابوا: لبيك لبيك. قال: فيذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر على ذلك، فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وقوسه وترسه ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، ويؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله ﷺ حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة واستقبلوا الناس، فاقتتلوا، فكانت الدعوة أول ما كانت: يا للأنصار، ثم خلصت أخرى: يا للخزرج، وكانوا صبرًا عند الحرب، فأشرف رسول الله ﷺ في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم وهم يجتلدون، قال: «الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ». وزاد بعضهم أنه قال: * * *
أنا النبي لا كذبْ
أنا ابن عبد المطلبْ