متقدم

فهرس الكتاب

 

جواز الصلح والمعاهدة والمهادنة بين المسلمين والمشركين

إن دين الإسلام هو دين الصلاح والإصلاح يقول الله تعالى: ﴿۞لَّا خَيۡرَ فِي كَثِيرٖ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَٰحِۢ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ [النساء: 114].

فليس الدين بحرج ولا أغلال دون الكمال، ﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ٩٠ وَأَوۡفُواْ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمۡ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلۡأَيۡمَٰنَ بَعۡدَ تَوۡكِيدِهَا وَقَدۡ جَعَلۡتُمُ ٱللَّهَ عَلَيۡكُمۡ كَفِيلًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ مَا تَفۡعَلُونَ ٩١ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَتۡ غَزۡلَهَا مِنۢ بَعۡدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا تَتَّخِذُونَ أَيۡمَٰنَكُمۡ دَخَلَۢا بَيۡنَكُمۡ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرۡبَىٰ مِنۡ أُمَّةٍ [النحل: 90-92].

ولا يزال الصلح والمعاهدة والمهادنة جاريًا بين المسلمين وبين أضدادهم من المشركين من لدن النبي ﷺ وخلفائه الراشدين وأصحابه إلى سائر حكام المسلمين؛ لأن أحوال الأمم تدور بين السلم القريرة والحرب المبيرة والمداجاة الغفيرة؛ أي المهادنة مع العداوة.

ولا ينبغي أن ننسى إجراء الصلح من رسول الله مع قريش في صلح الحديبية عام ستة من الهجرة ونهايته، فإن فيه في ظاهر الأمر نوع هضم وضيم على الإسلام والمسلمين وفي عاقبته نصر من الله وفتح قريب.

وحاصله أن النبي ﷺ صالح مشركي قريش في صلح الحديبية على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، وعلى أن من جاءه مسلمًا رده إليهم، ومن جاءهم مرتدًا لم يردوه إليه، وعلى أن يرجع بأصحابه هذه السنة فلا يدخلون البيت، وكان هو وأصحابه قد أحرموا بالعمرة، وعلى أن من دخل في عقد الرسول وعهده فهو منه، ومن دخل في عقد قريش وعهدهم فهو منهم، فدخل في عقد الرسول وعهده خزاعة، فكانت عيبة نصح لرسول الله مسلمهم وكافرهم، ودخل في عقد قريش بنو بكر وغطفان والأحابيش، وكان متولي الصلح عن قريش هو سهيل بن عمرو. ولما قال الرسول: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو». قال: لا تكتب رسول الله؛ فإننا لو نعلم أنك رسول ما قاتلناك، اكتب محمد بن عبد الله. فأمر النبي ﷺ عليًّا أن يكتب محمد بن عبد الله. وفي أثناء الكتابة جاء أبو جندل بن سهيل فارًّا بدينه من الشرك والمشركين فرمى بنفسه بين أصحاب رسول الله، فقال سهيل: هذا أول ما نقاضيك عليه أن ترده علينا. فقال: «اتركه لي». فقال: لا. فأمر رسول الله برده، فعند ذلك وقع الاضطراب من الصحابة حتى جاء عمر إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: أوليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال أبو بكر: إنه عبد الله ورسوله ولن يضيعه فاستمسك بغرزه. ثم جاء عمر إلى رسول الله وقال: يا رسول الله، ألم تقل لنا إننا داخلون البيت ونطوف به؟ قال: «بلى، وهل قلت لكم: هذه السنة؟». قال: لا. قال: «فإنك ستدخل البيت وتطوف به». ثم إن رسول الله أمر أصحابه بأن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فتلكؤوا واستبطؤوا ظنًّا منهم أنه سينزل الوحي بخلع هدا العقد، فدخل رسول الله على أم سلمة فقال: «ألم تري إلى قومك أمرتهم أن يحلوا من إحرامهم وينحروا هديهم فاستبطؤوا». قالت أم سلمة: يا رسول الله، انحر هديك واحلق رأسك ولا تكلم أحدًا فإنهم سيتابعونك على فعلك. وفعلاً نحر هديه وحلق رأسه فتاوثبوا على ذلك طاعة له.

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد في بيان الحكم والمصالح التي اشتملت عليها هذه المصالحة، وأن الله سبحانه هو الذي أحكم أسبابها، فوقعت بالغاية على الوجه الذي اقتضته حكمته وحمده ورحمته، وسماها الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١ [الفتح: 1] - يعني صلح الحديبية- فمنها أنها كانت مقدمة بين يدي الفتح الأعظم الذي أعز الله به رسوله وجنده ودخل الناس في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه حكمة الله سبحانه في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها مقدمات وتوطئات تؤذن بها وتدل عليها. ومنها أن هذه الهدنة كانت من أعظم الفتوح، فإن الناس آمن بعضهم بعضًا واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان مختفيًا بالإسلام، ودخل فيه في مدة الهدنة من شاء الله له أن يدخل، ولهذا سماه الله فتحًا، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا فَتَحۡنَا لَكَ فَتۡحٗا مُّبِينٗا ١، والمراد به صلح الحديبية. قال ابن قتيبة: قضينا لك قضاء عظيمًا. وقال مجاهد: هو ما قضى الله له بالحديبية. وحقيقة الأمر أن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح الذي حصل مع المشركين بالحديبية كان مسدودًا مغلقًا حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صد رسول الله ﷺ وأصحابه عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيمًا وهضمًا للمسلمين وفي الباطن عزًّا وفتحًا ونصرًا.

وكان رسول الله ﷺ ينظر إلى ما وراءه من الفتح العظيم والعز والنصر من وراء ستر رقيق، وكان يعطي المشركين كل ما سألوه من الشروط التي لم تتحملها عقول أكثر الصحابة ورؤوسهم، ورسول الله ﷺ يعلم ما في ضمن هذا المكروه من الأمر المحبوب، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم.
وربما كان مكروهُ النفوس إلى
محبوبها سببًا ما مثله سببُ

* * *