هجرة رسول الله ﷺ بنفسه الكريمة
إن الله سبحانه بعث نبيه محمدًا ﷺ على حين فترة من الرسل وقد استحكمت في الناس الضلالة وخيمت عليهم الجهالة، وسادت بينهم عبادة الأصنام والأوثان والقبور، فأنقذهم الله ببعثته وبركة رسالته، فجاهد في الله حق جهاده، فجاء بدين كامل، وشرع شامل، يهذب أخلاقهم، ويطهر عقائدهم، ويزيل كفرهم وشقاقهم، ويهديهم للتي هي أقوم، وابتدأ نزول الوحي عليه وهو ابن أربعين سنة من عمره، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو بين القبائل في المواسم ويقول: «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي؟»[55]. فيلقى من قومه أشد الأذى، ويعذبون كل من آمن به، غير أن أبناء قبيلته وخاصة عمه أبا طالب يحمونه ويذبون عنه العدوان، وقد دخلوا معه في الشعب حين تمالأت قريش على مقاطعتهم حتى يسلموا لهم محمدًا، وكتبوا بذلك صحيفة القطيعة والمقاطعة، وعلقوها على الكعبة، وفيها يقول أبو طالب في قصيدته الشهيرة:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً
عقوبة شر عاجلاً غير آجلِ
وقد أخبره ورقة بن نوفل بمقتضى فراسته بأنه سيؤذى ويمتحن ويخرج من بلده، فقال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟». قال: نعم، إنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا. ثم لم يلبث أن توفى؛ أي ورقة.
ثم توفيت خديجة وكانت تنفق على رسول الله من مالها، ثم تبعها أبو طالب شيخ قريش وسيدهم، وكان يحب رسول الله أشد الحب، يحميه وينصره، وكانت قريش تتحاشى من أذى الرسول خشية أن يغضب أبو طالب فيسلم.
ولما توفي أبو طالب اشتد الأذى برسول الله ﷺ وبمن آمن به وخاصة المستضعفين من أصحابه، كبلال وصهيب وسمية، فأمر رسول الله أصحابه بأن يهاجروا إلى الحبشة، وقال: «إِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ»[56].
فهاجر إلى الحبشة جماعة من الصحابة، رجالاً ونساء؛ فرارًا بدينهم من الفتنة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ، ومنهم الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب، فخرجوا من مكة يمشون على أرجلهم حتى وصلوا إلى سِيف البحر، فاستأجروا سفينة وركبوا فيها حتى انتهوا إلى الحبشة، وهذه هي الهجرة الأولى، فآواهم النجاشي وأكرمهم، وقال لهم: أنتم سيوم بأرضي، اذهبوا حيث شئتم من رامكم بسوء غرم. ثم تتابعوا إلى الهجرة، وكان عددهم يزيد على الثمانين بين رجل وامرأة.
وكان المسلمون في ابتداء الإسلام مأمورين بالصلاة والعفو والصفح والصبر على أذى المشركين، وكانوا يحبون أن يُؤمروا بالقتال لينتصروا، وأتى عبد الرحمن ابن عوف وأصحاب له إلى النبي ﷺ وهو بمكة فقالوا: يا رسول الله، كنا أعزاء ونحن مشركون فلما أسلمنا صرنا أذلة. فقال رسول الله: «إِنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ، فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ»[57]. فلما أمروا بالقتال كرهه بعضهم وودوا لو تأخر فرضه عنهم، وأنزل الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمۡ كُفُّوٓاْ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقِتَالُ إِذَا فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَخۡشَوۡنَ ٱلنَّاسَ كَخَشۡيَةِ ٱللَّهِ أَوۡ أَشَدَّ خَشۡيَةٗۚ وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبۡتَ عَلَيۡنَا ٱلۡقِتَالَ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنَآ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖۗ قُلۡ مَتَٰعُ ٱلدُّنۡيَا قَلِيلٞ وَٱلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلَا تُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٧٧ أَيۡنَمَا تَكُونُواْ يُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِي بُرُوجٖ مُّشَيَّدَةٖ﴾ [النساء: 77-78].
فلما اشتد الأذى برسول الله وعظم البلاء كما قال: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ»[58]. خرج إلى الطائف يطلب من ثقيف النصرة والتأييد والحماية، فلم يجد عندهم قبولاً، وأرسلوا عليه سفهاءهم، فكانوا يرمونه بالحجارة ويقولون: ساحر كذاب، وزيد بن حارثة يقيه ببدنه من وقوع الحجارة به حتى أدموا عقبه، فرجع عنهم حزينًا كئيبًا حتى أتى وادي نخلة، وهي موضع ميقات أهل نجد فتوضأ وصلى ودعا بدعائه المشهور: «اللهم أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع من ذنوبي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تُنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك»[59].
ثم إن رسول الله أراد دخول مكة بعد رجوعه من الطائف فمنعته قريش من الدخول، فأرسل إلى المطعم بن عدي وقال: «إن قريشًا منعتني من دخول بلدي وإني أريد أن أدخل في جوارك»[60]، فلبى دعوته وأمر بنيه وإخوته أن يلبسوا سلاحهم، فخرج إلى المكان الذي وعده فيه فدخل مكة فطاف بالبيت وهم محدقون به، ولهذا كان رسول الله يقول في قتلى بدر: «وَاللهِ لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، فَسَأَلَنِي هَؤُلَاءِ الْقَتْلَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ»[61].
فلما استجاب الأنصار لدعوته، والتزموا حمايته بأن يمنعوه ويمنعوا كل من هاجر إليهم من أصحابه مما يمنعون منه أهلهم وأولادهم، وتواثقوا معه على ذلك ليلة العقبة، فعند ذلك أمر رسول الله ﷺ كل من أسلم بأن يهاجر إلى المدينة، فكانوا يخرجون أرسالاً ويهاجرون على سبيل الاختفاء من قريش، وكانت قريش تصادر أموال كل من هاجر منهم، وأنزل الله سبحانه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَٰتَلُونَ بِأَنَّهُمۡ ظُلِمُواْۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصۡرِهِمۡ لَقَدِيرٌ ٣٩ ٱلَّذِينَ أُخۡرِجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بِغَيۡرِ حَقٍّ إِلَّآ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ﴾ [الحج: 39-40]، وهذه هي أول آية نزلت في الإذن بالقتال.
ولما علمت قريش بأن أصحاب الرسول قد كثروا وأنهم سيمنعونه أعملت حيلها وآراءها في الإيقاع به، ثم اتفقوا على أن يختاروا من كل قبيلة رجلاً فيضربونه جميعًا بسيوفهم في وقت واحد حتى يضيع دمه من بينهم، فأطلع الله نبيه على كيدهم ومكرهم وأنزل الله تعالى: ﴿وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثۡبِتُوكَ أَوۡ يَقۡتُلُوكَ أَوۡ يُخۡرِجُوكَۚ وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ ٣٠﴾ [الأنفال: 30].
وعلى أثر هذه الممالأة على قتله حصل لرسول الله ﷺ في تلك الليلة شيء من الخوف من هجومهم عليه، إذ سمع حركة سلاح فاطلع فقال: «مَنْ هَذَا؟». فقال: أنا ربيعة بن كعب الأسلمي أحرسك يا رسول الله لتنام. فقال له: «سَلْ». فقال: أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟». فقال: هو ذاك. قال: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ». رواه مسلم.
ثم إن الله سبحانه أمر رسول الله ﷺ بالهجرة[62] في شهر ربيع الأول على القول الصحيح، وكان رسول الله لا يخطئه يوم إلا ويأتي بيت أبي بكر إما بكرة أو عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه بالهجرة والخروج من مكة أتى إلى أبي بكر بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، فلما رآه أبو بكر قال: والله ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه، فقال رسول الله ﷺ: «أَخْرِجْ عَنِّي مَنْ عِنْدَكَ». فقال: إنما عندي ابنتاي عائشة وأسماء، وما ذلك فداك أبي وأمي؟ فقال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْهِجْرَةِ».
فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله. فقال: «نَعَمْ». فبكى أبو بكر فرحًا فقال: يا نبي الله، إن عندي راحلتين أعددتهما لهذا الشأن. وأخذت أسماء بنت أبي بكر تجهز لهما جهاز السفر، فصنعت سفرة في جراب وشقت نطاقها نصفين فربطت فم الجراب بنصفه وربطت أسفل الجراب بالنصف الثاني، فسميت «ذات النطاقين».
ثم إنهما استأجرا عبد الله بن أريقط هاديًا خِرّيتا وكان مشركًا على دين قومه، فخرج رسول الله على حين غفلة من قومه ولم يعلم بخروجه إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإن رسول الله أمره أن يتخلف حتى يؤدي الودائع التي عند رسول الله للناس، وكان رسول الله ﷺ يدعى الأمين، وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته. فخرج رسول الله في صحبة أبي بكر وعمدا إلى غار ثور وهو جبل بأسفل مكة، فدخلاه وأمر أبو بكر مولاه عامر ابن فهيرة بأن يرعى غنمه بالنهار ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار لتخفي أثرهما ويشربان من لبنها.
وخرج بعض أشداء قريش في طلب رسول الله ﷺ ومروا بالغار فقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى شراك نعله لأبصرنا. فأجابه الرسول قائلاً: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟». يقول الله تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ٤٠﴾ [التوبة: 40].
فمكثا في الغار ثلاثة أيام ثم خرجا منه لإنشاء سفرهما إلى المدينة ونظر رسول الله إلى مكة وقال: «مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ، وَأَحَبَّكِ إِلَيَّ، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ».
ثم إن المشركين من قريش ذهبوا في طلبهما كل مذهب وجعلوا لمن يرشد عنهما مائة من الإبل عن كل واحد منهما، فجاء رجل إلى قوم جلوس فيهم سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة بالساحل ولا أراها إلا محمدًا وأصحابه. فقال سراقة: فعرفت أنهم هم. فقلت له: إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، أريد أن أعمي خبرهما حتى أفوز بالإبل، ثم قمت فدخلت بيتي وأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وأخذت رمحي وركبت فرسي حتى إذا قربت منهما إذ سمعت قراءة رسول الله ﷺ وأبو بكر يكثر الالتفات ورسول الله لا يلتفت، ويقول أبو بكر: يا رسول الله، لقد لحقنا الطلب. ورسول الله يقول: «لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا». فأرسل رسول الله عليه سهمًا من سهام الدعاء، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين قال: فخررت عنها فناديتهم بالأمان فوقفوا وعرفت حينئذ أنه سيظهر أمر رسول الله على الناس، فقلت له: لله علي أن أرد كل من جاء في طلبك، فادع الله لي أن يخرج فرسي. فدعا الله وخرجت فرسه وصدق في قوله فكان لا يجيء أحد من الطلب إلى رده ويقول: قد كفيتم ما هنالك.
ولما سمع أبو جهل بخبر سراقة بن مالك أخذ يلومه ويعنفه حيث لم يرده، فقال سراقة بن مالك مجيبًا له:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا
لأَمْر جوادي حين ساخت قوائمُهْ
علمت ولم تشككْ بأن محمدًا
رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يقاومُهْ
وسار رسول الله في طريقه فمر بخيمتي أم معبد الخزاعي وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي الناس، فجاء رسول الله وأبو بكر فسألوها: هل عندك من لحم أو لبن نشتريه؟ فلم يجدوا عندها شيئًا، وقالت: لو كان عندنا من ذلك شيء ما أعوزكم القرى. وكان القوم مجدبين مسنتين، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر خيمتها فقال: «مَا هَذِهِ الشَّاةُ يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟». فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: «هَلْ فِيْهَا مِنْ لَبَنٍ؟» فقالت: هي أجهد من ذلك. فقال: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا؟». فقالت: إن كان بها حليب فاحلبها. فدعا رسول الله للشاة ومسحها وذكر اسم الله عليها فدرت واجترت. ودعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيه حتى ملأه فشربوا عَلَلاً بعد نهل، ثم حلب فيه ثانيًا فغادره عندها ثم ارتحل. فجاء زوجها أبو معبد فسألها عن هذا اللبن فأخذت تخبره خبره وتقص عليه صفته وتقول: إنه مر بنا رجل مبارك صفته كيت وكيت، فاستقصت أوصافه، وقالت: له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا قوله، وإن أمر تبادروا أمره، وهو أحسن الثلاثة منظرًا. فقال: والله هذا صاحب قريش الذي تطلبه.
ودخل رسول الله ﷺ المدينة بعد الزوال فتنازعه القوم كلهم يريد أن ينزل عنده فقال: «سَأَنْزِلُ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ» أخوال جده عبد المطلب ليكرمهم بنزوله عندهم، فنزل على أبي أيوب الأنصاري فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وصلى بالناس الجمعة، وهي أول جمعة صلاها بالمدينة، وأسس مسجد قباء، ثم ركب ناقته فجعلت قبائل الأنصار يعترضونه في طريقه كل منهم يطلب نزوله عنده ويقولون: هلمّ إلينا فعندنا العدد والمنعة. ورسول الله يقول: «خَلُّوا سَبِيلَهَا، فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ» حتى أتت موضع مسجده الآن فبركت به ناقته.
ومن كريم شعر الأنصار في الهجرة قول قيس بن صرمة:
ثوى في قريش بضع عشـرة حجة
يذكر لو يلقى حبيبًا مؤاتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلم يَر من يُؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقرت به النوى
وأصبح مسـرورًا بطيبة راضيا
وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم
بعيد ولا يخشى من الناس باغيا
بذلنا له الأموال من جُلِّ مالنا
وأنفسنا عند الوَغَى والتآسيا
نعادي الذي عادى منالناس كلهم
جميعًا وإن كان الحبيب المصافيا
ونعلم أن الله لا ربَّ غيره
وأن كتاب الله أصبح هاديا
* * *
[55] أخرجه الإمام أحمد من حديث جابر. [56] سيرة ابن هشام 1/321. [57] أخرجه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف. [58] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث أنس. [59] سيرة ابن هشام 1/420، والحديث في الكبير للطبراني والدعاء له باختلاف يسير. [60] انظر زاد المعاد فصل الخروج إلى الطائف. [61] أخرجه البخاري من حديث جبير بن مطعم. [62] انظر أحداث الهجرة في سيرة ابن هشام والبداية والنهاية لابن كثير.