القتال في سبيل الله
إن القتال في سبيل الله مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، يقول الله سبحانه: ﴿۞فَلۡيُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يَشۡرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَن يُقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيُقۡتَلۡ أَوۡ يَغۡلِبۡ فَسَوۡفَ نُؤۡتِيهِ أَجۡرًا عَظِيمٗا ٧٤﴾ [النساء: 74]، وقال: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا ٧٦﴾ [النساء: 76]، وقال: ﴿فَقَٰتِلۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفۡسَكَۚ وَحَرِّضِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ﴾ [النساء: 84]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ ٱلۡكُفَّارِ وَلۡيَجِدُواْ فِيكُمۡ غِلۡظَةٗۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ ١٢٣﴾ [التوبة: 123].
وفي البخاري و مسلم عن أبي موسى قال: سُئل النبي ﷺ فقيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ».
فلسنا نقول بإنكار هذا القتال المشروع في الإسلام، وإنما نقول به في الأمر المقصود منه، ويتمحض في أمور: أحدها: قتال المحاربين للمسلمين الموصوفين بقوله: ﴿وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ وَلَا تَعۡتَدُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ١٩٠ وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ﴾ [البقرة: 190-191]، وقال: ﴿إِن يَثۡقَفُوكُمۡ يَكُونُواْ لَكُمۡ أَعۡدَآءٗ وَيَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوٓءِ وَوَدُّواْ لَوۡ تَكۡفُرُونَ ٢﴾ [الممتحنة: 2].
فهؤلاء يقاتلون حيث وجدوا قائمين أو نائمين بطريق الهجوم أو الطلب دفعًا لشرهم حتى يكفوا عن عدوانهم وفتنتهم، كجهاد اليهود في هذا الزمان فهم محاربون للإسلام والمسلمين.
الثاني: قتال من يمنع دخول الإسلام ودعاته إلى بلده بحيث يغلق أبواب البلد دونهم، ويبادر بالقتال لصدهم وصد ما يدعون إليه، أو يفتن من أسلم لمحاولة ردته عن دينه، فيعتبرون معتدين على الدين وعلى الخلق أجمعين لحيلولتهم بمنعهم عن استماع الحق واتباعه الذي فيه سعادتهم وسعادة البشر كلهم في دنياهم وآخرتهم.
الثالث: قتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرون، والجزية هي قدر يسير شرعت في مقابلة حمايتهم، فمتى عجز المسلمون عن حمايتهم سقطت جزيتهم، كما ردّ الصحابة على أهل الكتاب جزيتهم حين أحسوا بعجزهم عن حمايتهم يوم اليرموك، فهؤلاء هم المستوجبون للقتال.
وحكم القتال في سبيل الله باق إلى يوم القيامة وإن لم نسمع به إلا في الحروب الصليبية التي قام بالجهاد فيها صلاح الدين الأيوبي في القرن السابع، وحين غزا التتار بلدان الشام والعراق، ومن بعد ذلك ظهور الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث نشأ في القرن الثاني عشر وكان مولده عام ألف ومائة وخمس عشرة، وكانت نجد في ذلك الزمان مملوءة بالشرك وعبادة الأوثان، لكل قوم صنم يعبدونه.
فجاهد الناس بالحجة والبيان والسنة والقرآن، فأنشأ الكتب الإسلامية التي تدعو إلى عبادة الله وحده وتنهى عن عبادة ما سواه مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله تعالى على العبيد، و كشف الشبهات، و ثلاثة الأصول، وكتاب فضل الإسلام، وكتاب أصول الإيمان، وغير ذلك من الكتب العديدة والرسائل المفيدة التي عم الانتفاع بها الناس وانتفع بها العام والخاص، وصارت كتبه بمثابة القواعد في الأصول والعقائد.
فهو المجاهد الأكبر في زمانه وفي الأزمنة من بعده، فهو يجاهد الناس بالعلم والبيان، كما أن الإمام محمد بن سعود وابنه عبد العزيز بن محمد آل سعود رحمهما الله قد تصدوا لجهاد الشرك والمشركين بالسيف والسنان حتى طهر الله نجدًا بآثار سعيهم وجهادهم من الشرك وعبادة الأوثان، وجمع شملهم ووحدهم على التوحيد وعبادة الله وحده، وصار كل متمسك بالعقيدة الدينية السلفية يلقب بالوهابي كما قيل:
إن كان تابعُ أحمدٍ متوهبًا
فأنا المقرُّ بأنني وهابي
ثم وقع في هذا الزمان قتال المسلمين مع اليهود المحاربين وهو من الجهاد في سبيل الله لمن أخلص نيته وعمله..
ثم إن المطالبة بقتال من يستحق القتال تتمشى على حسب القدرة والاستطاعة فلا يجوز الدخول إلا على حسب رجحان القدرة عليه بالقوة المماثلة أو المقاربة لقوة العدو؛ لكون إثارة الحرب مع عدم القدرة عليها يترتب عليها أضرار كثيرة كبيرة فيما يتعلق بالدنيا والدين، أقلها الإذلال والإهانة؛ إذ الجهاد بالقتال هو من الضروريات التي شرعت لجلب المصالح ودفع المضار وهو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يتمشى على حسب القدرة بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
وحقيقة الجهاد هو دعوة إلى الخير ونهي عن الشر، والأصل فيه قوله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ﴾ [النحل: 125].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن رب العالمين: إن النبي ﷺ شرع لأمته إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله، فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله ﷺ في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ»[53].
وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا عَنْ طَاعَتِهِ»[54]. ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر قد طلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه.
فقد كان رسول الله ﷺ يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، فالمنكر متى زال وخلفه ضده من المعروف وجب إنكاره، ومتى خلفه ما هو أنكر وأشد منه حرم إنكاره.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم. انتهى كلام العلامة ابن القيم رحمه الله.
* * *
[53] أخرجه مسلم من حديث مالك بن عوف. [54] متفق عليه من حديث ابن عباس بنحوه.