متقدم

فهرس الكتاب

 

تحريم تحريف القرآن بصرفه إلى غير المعنى المراد منه

قال الكاتب: (إن الآيات القرآنية الواردة في القتال لا يجوز صرفها إلى غير المعنى المراد منها، ولا إخضاعها تبعًا لما يعتقده الإنسان في نفسه ولا لتطور الأزمنة وتغير الأحوال عند الأمم).

فالجواب: إن هذا الكلام حسن صحيح نؤمن به ونعتقده، ونرجو أن نسير على منهجه.

لكن الكاتب قد استباح مخالفته بحالة غير خافية على أحد، حيث حاول صرف الآيات الظاهرة إلى غير المعنى المراد منها في سبيل نصر رأيه وإعلاء كلمته.

من ذلك أنه استدل بقوله تعالى: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّ [البقرة:256] فنقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير قائلاً: قد ذهبت طائفة كثيرة من العلماء إلى أن هذه الآية محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية، وقال آخرون: هي منسوخة بآية السيف.

فالجواب أن نقول: سبحان الله ما أسرع ما نسي هذا الكاتب! فأين ما قاله من أنه لا نسخ في القرآن ولا تخصيص ولا تقييد، وأنه يجب حمل الآيات على المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن؟ وكيف عدل عن أقوال العلماء التي ساقها ابن كثير في تفسير هذه الآية وبيان سببها؟ وكيف استباح الطعن في هذه الآية المحكمة بدعوى نسخها لعلة اعتراضها في طريقه فحاول عزلها عن الاحتجاج بها حتى يتم له صحة ما يدعيه من وجوب الإكراه على الدين خلاف ما حكم الله به في كتابه المبين؟ وكيف نقل عن ابن كثير أضعف ما ذكره في التفسير؟ وكان من واجب العدل والإنصاف أن يذكر كلام ابن كثير كله أو يتركه كله، لكنه استباح الإعراض عن القول الصحيح في الآية ليثبت بذلك صحة ما يدعيه، وهذا غاية في تعصبه لرأيه وعدم إنصافه وعدله.

وإن مما نستدرك على بعض المشايخ الكرام أو بعض الإخوان كون أحدهم إذا ذُكِر عنده كتاب أو كلام صادر من بعض العلماء المتأخرين فنراه يرميه بما ينقصه من الزراية وعدم الدراية، ويقول: هذا ليس بشيء. من أجل مخالفته لرأيه، وربما استطال بعضهم إلى كتب العلماء المتقدمين المشهورين فوسمها بالبطلان بدعوى نسبتها إلى غير مؤلفيها ليثبت في قلوب العوام وضعفه العلوم والإفهام عدم الثقة بها كي يعزلها عن موضوع الاحتجاج بها من أجل مخالفتها لرأيه واعتقاده، فدع عنا ذكر فلان أو كتاب فلان ولنرجع الآن إلى محكم القرآن حيث طرق الكاتب تفسير قوله سبحانه: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ وهي آية محكمة وتفسيرها يُعرف من تلاوتها؛ إذ هي من التفسير الذي لا يعذر أحد بجهله، ولنذكر الآن سببها الذي هو عين تفسيرها.

فقد روى أبو داود في سننه والنسائي وابن حبان في صحيحه وابن جرير عن ابن عباس في تفسير الآية قال: كانت المرأة من الأنصار مقلاة؛ أي لا يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أُجْليت بنو النضير كان فيهم من أولاد الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا. فأنزل الله: ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ.

وأخرج ابن جرير عن طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال: نزلت ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِ في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له: الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلمًا، فقال للنبي ﷺ: ألا استكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله الآية، وفي بعض التفاسير أنه حاول إكراههما فاختصموا إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر؟

ولابن جرير عدة روايات في نذر النساء في الجاهلية، وتهويد أولادهن ليعيشوا، وأن المسلمين بعد الإسلام أرادوا إكراه من لهم من الأولاد على دين أهل الكتاب على الإسلام، فنزلت الآية، فكانت فصل ما بينهم، وفي رواية له عن سعيد ابن جبير أن النبي ﷺ قال عندما نزلت: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فَإِنِ اخْتَارُوكُمْ فَهُمْ مِنْكُمْ، وَإِنِ اخْتَارُوهُمْ فَهُمْ مِنْهُمْ». لأن هؤلاء الأولاد قد تربوا في صغرهم منذ نشأتهم عند اليهود فاعتنقوا دينهم واختاروا عقيدتهم على الإسلام، فصاروا منهم وانفصلوا عن نسب آبائهم لكون دين الإسلام متعلقًا بنفس الشخص لا بنسبه، ولهذا تنقطع الموالاة والنسب والإرث بين الكافر وبين أبيه المسلم، فلا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، وليس هذا كالمرتد فإن المرتد، هو الذي يكفر بعد إسلامه، وقد دخل أناس من العرب في النصرانية فصاروا نصارى كبني تغلب مثلاً، كما دخل أناس في اليهودية فصاروا يهودًا.

ثم استدل الكاتب بقول الشوكاني في تفسير هذه الآية وأنها على أقوال:

الأول: أنها منسوخة لأن الرسول قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، والناسخ لها قوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ [التوبة: 73].

ونقول: إن الشيخ الشوكاني هو كسائر العلماء الذين يؤخذ من أقوالهم ويترك، فإن قوله بنسخ هذه الآية لا صحة له، بل هي محكمة غير منسوخة عند جمهور العلماء وسببها معروف، كما ذكرنا من رواية المحدثين، كأبي داود والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس كلهم يقولون: إنها محكمة غير منسوخة، كما أن استدلال الشوكاني بالآية الناسخة لها غير صحيح وهي قوله: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ جَٰهِدِ ٱلۡكُفَّارَ وَٱلۡمُنَٰفِقِينَ، فإن الجهاد يشمل الدعوة بالقرآن والسيف والسنان، وحمل هذه الآية على الجهاد بالدعوة والقرآن أولى من حملها على السيف والسنان.

فإن رسول الله لم يقاتل المنافقين، ولما استُئذِن في قتل رجل منهم قال: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»[52]، نظيره قوله تعالى: ﴿وَلَوۡ شِئۡنَا لَبَعَثۡنَا فِي كُلِّ قَرۡيَةٖ نَّذِيرٗا ٥١ فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَٰفِرِينَ وَجَٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادٗا كَبِيرٗا ٥٢ [الفرقان: 51-52]؛ أي جاهدهم بالقرآن.

ومثله استدلال الشوكاني بأن رسول الله ﷺ قد أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام، وهذا الاستدلال باطل أيضًا؛ فإن العرب لا يزالون يقاتلون رسول الله ﷺ لكون ولائهم ونصرتهم مع قريش على حربه، فهم الأعداء المحاربون للرسول وأصحابه.

* * *

[52] متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله.