متقدم

فهرس الكتاب

 

فصل [في تفسير حديث: «أمرت أن أقاتل الناس...»]

تفسير حديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ».

إن أكبر ما يشكل على الناس في هذه المسألة هو قوله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.

وقد يسبق فهم بعض الناس إلى أن هؤلاء الناس الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم حتى يقيموا هذه الأركان هم جميع الناس وهو ليس بصحيح، فإنه لم يثبت عن النبي ﷺ أنه قاتل جميع الناس على إقامة هذه الأركان.

فإن الناس في هذا الحديث اسم جنس لا يراد به كل فرد ولا عموم الناس، نظيره قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُواْ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ [آل عمران: 173] فهؤلاء الناس القائلون: إن الناس قد جمعوا لكم، هم فرد أو أفراد من الناس، كما أن الناس الذي أجمعوا على الرجوع إلى الرسول وأصحابه هم أبو سفيان ومن معه، وهم أفراد من الناس وليسوا كل الناس، فيمتنع أن يكون الرسول مأمورًا بقتال جميع الناس حتى يقروا بالشهادتين ويقيموا الصلوات الخمس ويؤتوا الزكاة.

وإنما أراد بالناس مشركي العرب الذين لا يقرون في الجزيرة إلا بالإسلام، لكون الجزيرة لا يقر فيها إلا مسلم كما في صحيح البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول اللهﷺ يقول: «لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا».

وروى الإمام أحمد وأبو عبيد عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال: آخر ما تكلم به رسول الله أنه قال: «أَخْرِجُوا يَهُودَ الْحِجَازِ وَنَصَارَى نَجْرَانَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ».

وجزيرة العرب هي الحجاز ونجد بلا خلاف. وفي غيرها الخلاف المشهور، وقال في فتح الباري: الذي يمنع المشركون من سكناه منها الحجاز خاصة وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها.

وقد دل القرآن على مفهوم ما دل عليه هذا الحديث فقال سبحانه: ﴿فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلۡأَشۡهُرُ ٱلۡحُرُمُ فَٱقۡتُلُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ حَيۡثُ وَجَدتُّمُوهُمۡ وَخُذُوهُمۡ وَٱحۡصُرُوهُمۡ وَٱقۡعُدُواْ لَهُمۡ كُلَّ مَرۡصَدٖۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥ [التوبة: 5].

فالمشركون هنا هم مشركو العرب الذين كانوا حربًا لرسول الله ﷺ ولأصحابه؛ لأن ولاءهم ومحبتهم ونصرتهم لقريش على حرب الرسول وأصحابه، وقد شاركوا قريشًا في الهجوم على خزاعة وهي داخلة في عقد الرسول وعهده، ثم شاركوهم يوم الأحزاب أي يوم الخندق، وشاركوا هوازن يوم حنين.

ولأن أكثر الناس من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس لا يطالبون بالتزام هذه الأركان وإنما يكتفى منهم بالجزية في سبيل حمايتهم، فهؤلاء الناس المذكورون في الحديث هم مشركو العرب في الجزيرة، وقد أنزل الله فيهم صدر سورة براءة وفيها: ﴿وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ وَرَسُولُهُۥ [التوبة: 3]، ﴿إِلَّا ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ثُمَّ لَمۡ يَنقُصُوكُمۡ شَيۡ‍ٔٗا وَلَمۡ يُظَٰهِرُواْ عَلَيۡكُمۡ أَحَدٗا فَأَتِمُّوٓاْ إِلَيۡهِمۡ عَهۡدَهُمۡ إِلَىٰ مُدَّتِهِمۡ [التوبة: 4]، ثم قال في حنقهم وما يحتقبونه من العداوة لرسول الله وأصحابه: ﴿كَيۡفَ وَإِن يَظۡهَرُواْ عَلَيۡكُمۡ لَا يَرۡقُبُواْ فِيكُمۡ إِلّٗا وَلَا ذِمَّةٗۚ يُرۡضُونَكُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡ وَتَأۡبَىٰ قُلُوبُهُمۡ وَأَكۡثَرُهُمۡ فَٰسِقُونَ ٨ [التوبة: 8] إلى قوله: ﴿فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَإِخۡوَٰنُكُمۡ فِي ٱلدِّينِ [التوبة: 11]، ثم قال: ﴿وَإِن نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُم مِّنۢ بَعۡدِ عَهۡدِهِمۡ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمۡ فَقَٰتِلُوٓاْ أَئِمَّةَ ٱلۡكُفۡرِ إِنَّهُمۡ لَآ أَيۡمَٰنَ لَهُمۡ لَعَلَّهُمۡ يَنتَهُونَ ١٢ أَلَا تُقَٰتِلُونَ قَوۡمٗا نَّكَثُوٓاْ أَيۡمَٰنَهُمۡ وَهَمُّواْ بِإِخۡرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٍۚ أَتَخۡشَوۡنَهُمۡۚ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخۡشَوۡهُ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ١٣ [التوبة: 12-13]، فذكر سبحانه في هذه الآيات صريح الاعتداء بطريق الابتداء من المشركين على المؤمنين وكونهم لا يرقبون في المؤمنين إلاَّ ولا ذمة؛ أي لا عهدًا ولا قرابة، وكونهم بدؤوا المؤمنين بالقتال، وأنهم متى طعنوا في الدين فإنهم يكونون مستوجبين للقتال بطريق ابتدائهم بالاعتداء، وبطريق طعنهم في الدين الواجب على المسلمين حماية أنفسهم وحماية دين الله الذي يقاتلون في سبيله حتى لا يتعرض له أحد بالطعن فيه وحتى لا يفتن من آمن به، يقول الله: ﴿وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ لِلَّهِۖ فَإِنِ ٱنتَهَوۡاْ فَلَا عُدۡوَٰنَ إِلَّا عَلَى ٱلظَّٰلِمِينَ ١٩٣ [البقرة: 193]، وقال في سورة البقرة: ﴿وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِ [البقرة: 217]؛ أي إن فتنة المشركين للمؤمنين في دينهم هو أضر وأعظم وأكبر عند الله من قتل المؤمنين لهم لكون الفتنة أكبر من القتل، ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمۡ عَن دِينِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَٰعُواْ [البقرة:217] فهذا هو غاية ما يبتغون.

فجهاد المؤمنين لهم هو جهاد دفاع لشرهم؛ لأن شريعة الدين مبنية على حماية الدين والأنفس والأموال والأعراض والعقول.

ثم احتج الكاتب بما رواه مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم يقول: «اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْكُفَّارِ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ، ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيةَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ».

ففي هذا الحديث بيان مراتب الدعوة إلى الله وأنها تكون بالأسهل فالأسهل لقول الله سبحانه: ﴿ٱدۡعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلۡحِكۡمَةِ وَٱلۡمَوۡعِظَةِ ٱلۡحَسَنَةِۖ وَجَٰدِلۡهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ [النحل: 125]، فبدأ في هذا الحديث بدعوتهم إلى دين الإسلام فإن هم أبوا دعاهم إلى النقلة إلى دار المهاجرين ليختلطوا بالمسلمين ويسمعوا القرآن ويرون كيفية الصلاة والمصلين مع بقائهم على كفرهم؛ لأن هذا أعون على هدايتهم وإسلامهم ولم يقل: إن هم أبوا الإسلام فقاتلهم. ثم ادعهم إلى أن يكونوا كأعراب المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية.

* * *